تقديم:
هذه مُحاولة للوقوف على أخطار “العَولمة” الرأسمالية (وهي إحدى حلقات المرحلة الإمبريالية) على استقلال الدول، وعلى شعوب البلدان الفقيرة، حيث أصبحت منظمة التجارة العالمية، ومؤسسات “بريتن وودز” تَضْمَنُ وتُغَطِّي العدوان المُسْتَمر الذي تُمارسهُ الشركات متعددة الجنسية على الدول، وعلى الشعوب وثرواتها، باسم “حُرِّيّة التجارة”، وحرية الإستثمار، فأصبحت الدول مُجْبَرَة على ما يُسمى “توفير مناخ الأعمال”، وفتح حدودها أمام الشركات والسلع ورأس المال والسّائحين من دول “الشّمال”، فيما تمنع دول أوروبا وأمريكا الشمالية مواطني وسلع البلدان الفقيرة من دخول أراضيها، لأي سبب كان: الزيارة أو العمل أو الدراسة، ولهذه الشركات “المُعولَمة” (متعددة الجنسية أو “العابرة للقارات”) عُملاء محلِّيُّون في البلدان الفقيرة (بلدان الأطراف، أو بلدان “المُحِيط”)، تدافع على مصالحا، ومن بينهم أجهزة الحكم التي تُدِيرُها البرجوازية الكُمْبْرادُورِيّة، وفي حال وجود حكومة “وطنية” أو “تَقَدُّمِيّة” (وهي عبارات فضفاضة، مثل عبارة “اليَسار”)، تتحرك المنظمات “غير الحكومية” وما سُمِّيت منظمات “المُجتمع المدني” لنشر تقارير عن عدم احترام هذه الحكومات “التقدمية” لحقوق الإنسان ولحقوق المرأة والطفل والمُثُلِيِّين والأقليات الأثنية والدّينية، وغير ذلك من السّجل الطويل لمنظمات مثل “هيومن رايتس واتش” (وهي تابعة للحكومة الأمريكية، وتُموّلها وزارة الخارجية، عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية – يُو إسْ آيد)…
أورَدْنا، في هذه الورقة، نموذج “إكوادور”، حيث تُعَدّ قضیة التلوث النفطى، من بین أكبر قضایا البیئة الخطيرة على الأرض والمياه والمحيط، وعلى مُقوّمات حياة السكان، وتحاول الدولة والسكان الأصليون إثبات حقوقهم والحصول على تعويض من قبل شركة “شيفرون” (اشترت شركة “تكساكو” المتسببة الأولى في التلوث) التي تحميها الحكومة والقوانين الأمريكية، ومنذ أكثر من 21 سنة، لا تزال “إكوادور” تعيش فُصُول معركة طويلة الأمد مع شركة “شيفرون” الأمريكية…
حقوق رأس المال في مواجهة حقوق الإنسان:
يَعْسُر على العُمّال والمواطنين العادِيِّين والفُقراء، في كافة بلدان العالم، إثبات حقُوقهم (في حال اعترف القانون لهم بحقوق)، وعندما يُجابه مواطنو البلدان الفقيرة شركات كُبْرَى عابرة للقارّات، تُصْبِحُ المُهِمّة أكثر عُسْرًا، بل لم تتمكّن دول عديدة من مُقارعة الشركات متعددة الجنسية…
استقرت شركة النفط الأمريكية، متعددة الجنسية “تكساكو” سابقًا (شيفرون حاليا) سنة 1969 في إقليم “بيشينشا”، في جمهورية “إكوادور”، وهي منطقة يقطنها سكان أصليون من قبائل “كوفان”، ومنذ 1990 قدم السكان الأصليون قضية، يتهمون من خلالها هذه الشركة النفطية العملاقة بتلويث منطقة واسعة من غابة “آمازون” بنفايات سامة صناعية، وغادرت شركة “تكساكو” (التي اشترتها “شيفرون” فيما بعد) البلاد سنة 1992، وقررت بالاتفاق مع الحكومة الإكوادورية استثمار 40 مليون دولار لتنظيف منطقة التنقيب والتشغيل بغية الإفلات من ملاحقات قضائية، لأن قيمة الأضرار قُدِّرَت بنحو سبعة وعشرون مليار دولار، وبعد عقدَيْن بقيت آثار التلوث ظاهرة وواضحة، وخصوصًا في البُحَيْرَات القريبة من مدينة “لاغو أغريو” ومدن أخرى من منطقة “سوكومبيوس”، حيث رسبت في البحيرات على كميات كبيرة من النفايات التي خلفتها “تكساكو”، ثم تسربت هذه النفايات إلى المياه الجوفية، وكانت سببًا في انتشار العديد من الأمراض (ومن بينها سرطان الدم) وفي ارتفاع عدد ونسبة الوفيات في المنطقة…
بعد سنوات من معركة قضائية شَرِسَة، نقلت الشركة القضية إلى أمريكا، بذريعة الخشية من محاكمة غير عادلة في “إكوادور”، إلى أن قررت محكمة أمريكية، نظرت في القضية سنة 2003، إحالتها على القضاء الإكوادوري، بعد تغيير الحكومة الإكوادورية التي أصبحت مُساندة لقبائل “كوفان”، ولم يتردّد الرئيس “رافائيل كوريا” بوصف هذا التّلَوّث الخطير ب”جريمة ضد الإنسانية”، وصَرّح القاضي الإكوادوري، وهو مسؤول سابق في الجيش: “يتعلق الأمر بصراع غير متكافئ بين شركة عملاقة وأشخاص فُقراء، يعجزون عن دفع فواتيرهم”…
تمكّنت الشركة الأمريكية مُؤَخّرًا من استصدار حكم يُدين الحكومة الإكوادورية، ويقضي بتعويضها، وتعهّد الرئيس اليميني الحالي “لِنين مورينو” بتنفيذ قرار التّعويض
تسلسل الأحداث:
يتهم السكان المحليون، ومن بينهم قبيلة “كوفان”، التي يسكن أفرادها في غابات “آمازون”، شركة “تكساكو” التابعة ل”شيفرون” بإغراق بيئة الإكوادور بنحو 18 مليار “غالون” (غالون = 4,54 لترًا في بريطانيا و3,78 لترا في الولايات المتحدة) من المياه المحمّلة بالزيت فى الفترة من 1972 إلى 1992، وبإلقاء مليارات الغالونات من النفايات الكيميائية السامة فى نهر “أمازون”، مما أدى إلى تلوث النهر وإلحاق الضرر بالحياة البرية، وتقلُّص مساحة الأراضي الصالحة للإستغلال (الصيد والرعي والزراعة…)، وهي ملكية جماعية للسّكان الأصليين منذ القِدَم، وأصبحت هذه الأراضي مُحاطة بآبار النّفط، وأصبحت “مُسْتَعْمَرَة” يقطنها “مُسْتَوْطِنُون” جُدُد، مما ضيّق رُقعة مناطق صيد الحيوانات والأسماك، التي تُشكل الغذاء الرئيسي للسكان، كما شَحَتْ مواد بناء الأكواخ من أغصان الأشجار ومن الطين المحلي، بل أصبح السكان مهدّدين في غذائهم وفي صحتهم ومسكنهم وفي ثقافتهم المُتوارثة (ثقافة وتقاليد تحُثُّ على احترام البيئة والمُحيط)، وأدى استغلال النفط وإلقاء النفايات إلى انتشار مرض السرطان وارتفاع نسبة الموت بين السكان، ولم تقم “شيفرون” بتنظيف النهر، لأنها تتمتع ب”حصانة”، تتمثل في دعم الحكومة الأمريكية ومجمَّعات الشركات الأمريكية لصناعة النّفط…
فى العام 2007، خلال فترة حكم الرئيس “رافائيل كُورّيّا”، قام سكان غابات الأمازون برفع دعوى قضائية جديدة، ضد شركة “شيفرون”، ومطالبتها بتعويض قدره ستّة مليارات دولار ويتهمها السّكّان بتلويث مجتمعاتهم، وأعلن الرئيس آنذاك “ستُساعد الحكومة السّكّان على جَمْع الأدلّة والإثباتات لدعم مطالبهم، لأن الدولة لن تَسْمَحَ بأيّ تعد على بيئتنا وشعبنا”، وحكمت محكمةٌ فى إكوادور على شركة “شيفرون” سنة 2011، بغرامة قدرها ثمانية مليارات دولار، بتهمة تلويث منطقة “أمازون”، وأيّدَت محكمة الإستئناف في “إكوادور” سنة 2012 قرارًا يلزم شركة “شيفرون” بدفع تعويضات للمدَّعين الذين اتهموا الشركة بتلويث غابة أمازون وتدمير صحتهم، بقيمة ثمانية مليارات دولارا، لكن المبلغ تضاعف إلى أكثر من 18 مليار دولار بسبب رَفْضِ إدارة شركة “شيفرون” تقديم اعتذار علني مثلما نَصَّ القرار الأصلي، وأصدرت المحكمة العُلْيا (في إكوادور) سنة 2013 قرارا يلزم الشركة الأمريكية بدفع تعويض قدره 9,5 مليار دولار، وكان القرار، وفق النظام القضائي المحلي (الإكوادوري) قطعيا، ولكن الشركة الأمريكية لم تعترف بقرار المحكمة الإكوادورية، ولجأت إلى محكمة تحكيم دولية، بحُجّة “انتهاك دولة إكوادور اتفاقية حماية الاستثمارات”، وبدأت سنة 2016 جولة جديدة بين حكومة إكوادور وشركة “شيفرون”، إذ حاول مواطنون إكوادوريون تَنْفِيذ الأحْكام الصّادرة، والحصول على تعويض عن التلوث البيئي الهائل الذي سببته الشركة الأمريكية، نتيجة لاستخراج النفط في منطقة أمازون، وأصبحت الحكومة الإكوادورية طَرَفًا في هذه القضية التي استمر النظر فيها أكثر من 20 عاما، بالنيابة عن 30 ألف من سكان إكوادور، تضَرّرُوا من نشاط الشركة الذي تسبب في تَدْمِير مساحات كبيرة من الغابات الإستوائية، وأدى إلى زيادة خطر الإصابة بالسرطان بين سكان المنطقة، وبعد صمود السكان لفترة طويلة، بدأت بعض المنظمات الدّولية مثل منظمة “آفاز” الدولية تقوم بحملات ضد الرواتب المرتفعة للمُدراء التّنْفِيذِيّين لشركة “شيفرون”، وسلّمت رسائل إلى أعضاء في الكونغرس الأمريكي بشأن انتهاكات الشركة التي تُحَمِّلُ حكومة إكوادور أسباب انتشار بعض أنواع السرطان والأمراض الأخرى، والوفيات المبكرة، وتتهمها “بإهمال البنى التحتية في مجالات تكرير المياه وتنقية التربة وتقديم الخدمات الطبية، وتلكُأ الحكومة الإكوادورية وعجزها عن القيام بواجباتها”، وترفض شركة “شيفرون” تطبيق الإتفاق الذي وقَّعَتْهُ مع حكومة “إكوادور” سنة 1994، ويقضي بتكفّل الشركة بإصلاح الأضرار التي تسببت بها عمليات حفر آبار النفط في منطقة “آمازون الإكوادورية…
خاتمة: نشر الخبير الاقتصادي الأمريكي “جون بيركنز” سنة 2004 كتابه “اعترافات قاتل اقتصادي” (تُرْجِمَ إلى العربية تحت عنوان “الاغتيال الاقتصادي للأمم”)، وكان في صدارة قائمة الكتب الأكثر مبيعًا، وتُرْجِم الكتاب إلى عدة لُغات، ويُلْقِي الكاتب الضوء على استخدام الشركات الأمريكية الكُبْرى للمؤسسات الدولية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي) للهيمنة على الدول “النامية”، من خلال القُرُوض، وكان الكاتب مُسْتشارًا في إحدى هذه المؤسسات، ويروي كيف تمكنت الولايات المتحدة من الهيمنة على العالم، خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، ويتمثل دَوْرُ “الخُبَراء” (من بينهم مؤلف الكتاب) في إعداد دراسات “فَنِّيّة” لمشاريع البنية التحتية الضّخمة، التي تتطلب استدانة الدول المُسْتهدفة، فتُقدّم المؤسسات الدولية القروض لإنجازها، بشرط قيام الشركات الأمريكية بتنفيذ هذه المشاريع، كمدخل للهيمنة على البلاد وإغراقها بالدّيون التي لا تتمكن من تسديدها…
أفرد “جون بيركنز” فصلا في الكتاب لإكوادور، ولموضوع هذه الورقة، لأن الولايات المتحدة خَطّطت لإغراق البلاد بالدّيون، ولِدَفْعِها نحو الإفلاس، عبر مُخطّطات أعدتها الشركات الإستشارية الأمريكية، لتقوم المكاتب الهندسية والمقاولات الأمريكية بتنفيذ وإنجاز مشاريع البنية التحتية الضخمة، وبهدف دفع الدولة (إكوادور في هذه الحالة) للإستدانة من صندوق النقد الدولي ومن البنك العالمي، لتضطر الحكومة، بداية من 1968 -1969 إلى بيع مخزون النفط الكبير للشركات الأمريكية، من أجل تسديد الدّيون، وكانت شركة “تكساكو” (التي اشترتْها شركة “شيفرون” فيما بعد) إحدى أكبر الشركات الأمريكية (والعالمية)، واحتكرت استغلال نفط “إكوادور”، إلى أن تم انتخاب “خايمي رولدوس- أغيليرا” ( Jaime ROLDOS AGUILERA ) رئيسًا للبلاد سنة 1979 (بعد عُقود من الدّكتاتورية)، وهو أستاذ جامعي ومحامي محارب للفساد، وكَرّس جُهُودَهُ لكشف دَوْر شركات النّفط الأمريكية في عمليّة الإستعمار الإقتصادي، وأعلن “مُراجعة السياسة الإقتصادية بهدف الحفاظ على موارد الأمة من الطاقة”، واحتد الخلاف مع شركة “تكساكو”، بعد إعلان مشروع قانون (بداية سنة 1981) يُنَظّم عمليات استكشاف وإنتاج وتَسْوِيق النفط والغاز الطّبيعي، وتصدّت “تكساكو” لمشروع القانون الذي قد يُغْرِي دولاً أخرى، في حال إقراره وتنفيذه، وجَنّدت شركة النّفط الأمريكية خُبراءها ومُستشاريها للعلاقات العامة، والمؤسسات الدينية (التي تُمولها شركات النفط)، بهدف ترويج الدعايات وتشويه صورة الرئيس “رولدوس” ( الوطني وغير الفاسد، والمُنْتَخَب ديمقراطيًّا)، وبعد موافقة البرلمان على مشروع القانون (الذي أصبح قانونًا)، تلقى الرئيس تهديدات بالقتل، واغتالته المخابرات الأمريكية بافتعال حادث طائرة يوم 24 أيار/مايو 1981، ونصّبت أمريكا وشركاتها “أوزفالدو أورتادو” رئيسًا جديدًا، أعاد المنظمات غير الحكومية (التي أطْرَدَها الرئيس “رولدوس”) وأقرّ الرئيس الجديد برنامجا لزيادة التنقيب عن النفط في مناطق حسّاسة، مثل خليج “غواياكيل” وحوض “أمازون”، بالتوازي مع ارتفاع الديون وارتفاع عائدات شركات النفط والمقاولات الأمريكية، إلى أن أفلست البلاد، رغم (أو بسبب) ارتفاع إنتاج النّفط، وارتفعت نسبة الفقر من نسبة 50% سنة 1968 (سنة بداية استغلال شركة “تكساكو” نفط البلاد) إلى 70% خلال فترة الرئيس “أوزوالدو أورتادو” الموالي لأمريكا، وارتفعت نسبة البطالة من 15% إلى 40%، وارتفعت قيمة الدَّيْن العام من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار، وانخفض نصيب السكان الأكثر فقراً من عائدات الموارد الطبيعية من 20% إلى 6% خلال نفس الفترة، وأصبحت الدّولة تُخَصِّصُ نحو 50% من الميزانية لسداد الديون، رغم أو بسبب المخزون الهائل من النفط في غابات “آمازون”… لكن السكان الأصليين للبلاد، رغم المجازر والإبادة، لا زالوا يُقاوِمون، ويحاولون السيطرة على أراضيهم ومواردهم والمُحافظة على ثقافتهم، ونمط حياتهم الذي اختاروه لأنفسهم ولأبنائهم…
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.