خلال الأشهر الأربعة الماضية شغل الجيش العربي السوري بمعركة تعتبر من أكثر العمليات العسكرية تعقيدا وخطورة، حيث دارت في ظروف وبيئة استجمعت مزايا وخصائص تجعل الكثير من القادة العسكريين يتهيبونها حتى تجنبها والبحث عن بديل غير عسكري لمسالتها. وللإيضاح أكثر فان اميركا التي توجد بشكل غير شرعي في قادة عسكرية انشاتها على الحدود السورية العراقية قريبا من الحدود مع الأردن (قاعدة التنف)، اميركا حشدت في محيط تلك القاعدة جمعا من إرهابيي القاعدة يتجاوز ال 6 الفا من داعش، وامدتهم بكل ما يحتاجونه من عتاد ومعدات وسلاح وذخائر تلزمهم للقتال في الصحراء وفي ارض وعرة ومكنتهم من الانتشار في الكهوف والمغاور لإدارة حرب عصابات ضد جيش نظامي.
امام صعوبة الموقف كان على الجيش العربي السوري ان يختار بين سلوكين، القبول باستمرار الإرهابيين ممسكين بمنطقة واسعة يتخذونها قاعدة انطلاق “للغزو والاغارة “على أماكن اهلة في الجنوب كما فعلو قبل أشهر ضد السويداء وأربع من قراها حيث قتلوا ودمروا واحرقوا وخطفوا النساء، او الذهاب الى عملية عسكرية معقدة لمواجهة الجيش الأميركي البديل (أي داعش) مع احتمال مواجهة الجيش الأميركي الأصيل في التنف، والعمل في منطقة توصف في تصنيف العمليات العسكرية بمنطقة “العمليات الخاصة للقتال في الصحراء” مع ما يتوقع من خسائر في سقف عالي.
وبين هذين الحلين اختار الجيش العربي السوري الحل الأصعب والاشرف متقبلا حجم التضحيات التي سيقدمها ثمنا لهذا الخيار، وبالفعل وما ان ارتكبت العصابات الإرهابية جريمتها ضد السويداء وقراها حتى أطلق الجيش العربي السوري عملية تطهير البادية شرقي السويداء ضد داعش المتناثرة على مساحة تتجاوز 380 كلم2 وتتكئ على قاعدة عسكرية أميركية في التنف. ووضع الجيش لعمليته خطة تأخذ بالاعتبار تعقيدات الميدان فالتزم العمليات المتروية دون دعسات ناقصة، معطوفة على قرار صارم بإنجاز المهمة مهما طال الوقت وكانت التضحيات. واثبتت خطة الجيش بانها واقعية منطقية مجدية بدليل انه وصل اليوم الى الوضع الذي يمكنه القول بان المهمة أنجزت وقاعدة التنف جردت من القناع ومن الوظيفة ولن يجديها التمسك بمخيم الركبان حيث تتخذ من فيه من المدنيين السوريين بمثابة الرهائن المختطفين خدمة لأهداف اميركا في احتلالها.
والان وبعد اجتثاث الإرهاب من الجنوب غربا وشرقا فقد انحصرت المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة في اثنين ، الأولى في ادلب و “ترعاها” تركيا الشريك في منظومة استنة مع روسيا و ايران فيما خص الوضع السوري و المكلفة بموجب اتفاق سوتشي بتسوية وضع ادلب ، و الثانية شرقي الفرات و ترعاها اميركا التي أنشأت التحالف الدولي غير الشرعي و زعمت انه لمحاربة الإرهاب ، الامر الذي جعل البعض يقول الان ان الجيش العربي السوري انجز ما هو مطلوب منه في حربه الدفاعية طاويا صفحة الحرب و ان ما تبقى من ارض سورية خارج يد الدولة الان لن يكون حله عسكريا على يد الجيش العربي السوري لاعتبارات ميدانية و سياسية سورية ودولية .فهل هذا القول في محله ؟
من الطبيعي ان تتلقف تركيا واميركا هذا الراي كونه يبرر لهما استمرار وجودهما في سورية الوجود الذي نراه احتلالا بكل ما للكلمة من معنى. فأميركا دخلت الى سورية بدون اذن او بدون قبول من الحكومة السورية الشرعية و تنفذ عمليات عسكرية على الأرض السورية خارج الإرادة و القبول و التنسيق السوري ، و تنفذ في سورية مشروعا خطرا يرمي الى إعادة التوزيع الديمغرافي و الاتجاه الى تقسيم البلاد بإقامة الكيان الكردي الانفصالي ، و ان احتمال الحل السياسي مع اميركا لوقف عدوانها و الخروج من سورية و ترك الشعب السوري يقوم بصياغة النظم التي تحفظ وحدته و سيادته و استقلاله ، هو امر مستبعد لانها تريد حصة في سورية من نفطها و ثرواتها الطبيعية كما و في قرارها السياسي . وكلها أمور لا يمكن لسورية المنتصرة في الحرب الكونية التي شنت عليها ان تتقبلها باي وجه من الوجوه.
اما تركيا التي ناورت وداورت واستغلت هويتها القومية والدينية التي منحتها فرص الانضمام الى منظومة استنة حتى وصل الامر في سوتشي الى تكليفها بمعالجة موضوع ادلب بتنسيق مع روسيا، ان تركيا هذه تعمل لمشروعها الخاص وتدعي انها تحاول تنفيذ اتفاق سوتشي وتدعي ان الاعباء كبيرة ويلزمها الوقت الطويل. ولكن الحقيقة ان الوقت الطويل يلزم تركيا لتنفيذ مشروعها الخاص الهادف الى إقامة منطقة نفوذ تركي في شمال سورية وعلى ما يقارب ربع الأرض السورية من الغرب الى الشرق وهي تحتاج الى سنة كاملة تنتهي في أواخر العام 2019 تقوم خلالها بإعادة هيكلة المجموعات الإرهابية بحيث لا يبقى في منطقة ادلب الا من يأتمر مباشرة بأمرتها، ثم تتوجه للشرق باتفاق او من غير اتفاق مع اميركا لتوسيع منطقة نفوذها عملا بسياسة الامر الواقع و بعدها تطرح اوراقها على الطاولة السورية اما شراكة في الحكومة عبر وكلائها الاخوان المسلمين او بقاء في منطقة النفوذ بإدارة مباشرة من هؤلاء الوكلاء .
على ضوء ما تقدم لا نرى ان حل مسالة ادلب سيكون عن طريق اتفاق سوتشي ، خاصة و ان هذا الاتفاق بذاته يفتقر الى الية تنفيذية تضمن حسن التطبيق و اوكل امر تنفيذه الى من لا يوثق به ولا يؤتمن على مهمة ، و ان سورية سترى نفسها امام واقع يؤكد ان لا تحرير لا دلب الا بالقوة العسكرية ، و ان لا تطهير لها من الإرهاب الا بالعملية التي جرى التحضير لها لتنطلق في بدء الخريف الحالي ، و اذا كانت الظروف الميدانية المحلية و الظروف السياسية و الاستراتيجية الدولية حملت على التأخير و القبول باتفاق سوتشي مرحليا و بشكل مؤقت فان الأمور تغيرت اليوم مع التصدعات في الواقع الإقليمي و التعزيزات في الواقع العسكري السوري و كلها جاءت لمصلحة سورية التي تلمس باليقين القاطع ان الإرهابيين في ادلب ماضون في تنفيذ مشروع تركيا ضد المصلحة و السيادة السورية و ما الاعتداء الأخير على مواقع الجيش العربي السوري في ريف حماه الشمالي ومحاولاتهم الاعتداء على مواقع لجيش في محيط سهل الغاب و ريف اللاذقية الا رسالة تركية تؤكد ما نقول رسالة أدت في يوم واحد الى سقوط 18 عسكريا سوريا شهيدا في مواقعهم .
اما المنطقة الشرقية، وتحديدا شرقي الفرات فان سورية لا يمكن ان تسكت على تنفيذ الخطة الأميركية العدوانية وستجد نفسها وكما قال الوزير وليد المعلم وزير الخارجية السورية ان “الجيش سيتوجه الى شرقي الفرات بعد ادلب ” ستجد نفسها ملزمة أيضا بعمل تحريري مركب من عمل عسكري تقليدي وغير تقليدي ومواجهة سياسية لإخراج اميركا من أراضيها واستعادة السيادة حتى الحدود مع تركيا والعراق.
وعليه ليس السؤال الان كيف تحرر ادلب وشرقي الفرات بل انه في الحقيقة متى تبدأ عملية التحرير ووفقا لأي برنامج اوليات. وفي هذا نرى ان التمهيد لمعركة ادلب انطلق فعليا وينتظر استكمال بعض الشروط والظروف (التي قد يكون منها اجتماع استنة في نهاية هذا الشهر) لتنطلق عملية تحرير بكل زخمها. اما عملية استعادة شرقي الفرات فإنها ستنتظر الانتهاء من عملية ادلب وستكون الملف الأخير الذي سيطويه الجيش العربي السوري وحلفائه لإعلان الانتصار النهائي على العدوان.
:::::
“البناء”
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.