ضحايا الفَقْر والحُروب العدوانية
1 يُصْدِرُ البنك العالمي تقارير دورية عن معدلات الفقر في العالم، والتوزيع الجغرافي للفُقَراء، وينطلق البنك من فرضية يُطَبِّقُها على جميع مناطق العالم، فيحدد خط الفقر بدخل فردي يومي يُقدّر بنحو 1,9 دولارا، ولكن بعض المؤسسات الأخرى وبعض منظمات الأمم المتحدة تحدد خط الفقر بنحو 2,25 دولارا يوميا للفرد، فيما يُقَدِّرُ بعض خبراء الإقتصاد (ليسوا بالضرورة من المُعارضين للنظام الرأسمالي العالمي) خط الفقر بنهاية سنة 2017 بنحو 5,5 دولارا للفرد في اليوم، في حال اعتماد قواعد النمو الشامل (أو المُستدام) وتلبية حاجيات الإنسان للغذاء والمسْكن اللائق والصّحة والثقافة والترفيه، وعدم الإكتفاء بمقياس الغذاء لوحده، خصوصًا في ظل برامج صندوق النقد الدولي (والبنك العالمي نفسه) الذي يفرض خصخصة التعليم والنقل والصحة والخدمات، فينتقل التعليم والصحة والنقل من المجانية إلى استهداف الربح، فتصبح الإستفادة من خدمات الدولة (التي كانت مجانية) بمقابل مالي، مما يزيد من حجم الإنفاق الضروري للمواطنين، على الغذاء والدواء والمسكن وكذلك على الكهرباء والماء والصرف الصحي وغير ذلك، بالإضافة إلى ما طرأ من تغيير مَفْرُوض في حياة الناس وعاداتهم اليومية (هل يُعتبر الإنفاق على الإتصالات والهاتف المحمول ضروريا اليوم؟)، وعلى هذا الأساس، يمكن تجديد تعريف الفقر، وتقدير خط الفقر بدخل يومي يتراوح ما بين 3,2 و 5,5 دولارا للفرد، مع مراعاة التفاوت بين منطقة وأخرى… من المُؤْسِف عدم اهتمام النقابات وما تَبَقّى من الأحزاب التّقدّمية بمثل هذه المواضيع، وعدم مناقشة تفاصيلها وتقديم بدائل لرؤية البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، وهما توأمان، لا تختلف نظرتُهما سوى في الشكل والصّيغة، وليس في الجوهر…
أوردنا هذه المُقَدّمة لمناقشة ما وردَ في تقرير البنك العالمي من انخفاض كبير في معدلات الفقر المدقع خلال ربع القرن الماضي، لكن التقرير يُشير إلى عدم استفادة الفئات الدّنْيا من ثمار النمو الاقتصادي، حيث انخفض عدد الأفراد الذين يعيشون في حالة الفقر المدقع (أقل من 1,9 دولارا للفرد في اليوم)، بأكثر من مليار شخص بين 1990 و2015 أو من 36% سنة 1990 إلى 10% “فقط” من سكان العالم سنة 2015، وأصبح عددهم 736 مليون شخص في العالم، وعلى هذا الأساس فإن عدد الفقراء ينخفض بنسبة 1%سنويا، وفق ما يُمكن استنتاجُهُ من التقرير، الذي يُشير إلى تفاوت كبير بين مناطق العالم، حيث انخفض عدد الفُقراء أساسًا في الصين (على حساب استغلال فادح للشركات الصينية لثروات سكان افريقيا) وفي منطقة جنوب وشرق آسيا والمحيط الهادي، فيما ارتفع عدد الفقراء (خلال نفس الفترة 1990 – 2015) في دول أفريقيا جنوب الصحراء، من 278 مليونا سنة 1990، إلى 413 مليون شخص سنة 2015، وفق التقرير، وبلغ متوسط معدل الفقر أقل من 13% من إجمالي عدد السكان في البلدان المُسَمّاة “نامية” سنة 2015، بلغ هذا المعدل حوالي 41% في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، رغم ارتفاع حجم المعادن والثروات والمياه…
تَطَرّق مُعِدّو تقرير البنك العالمي إلى النقاش الدّائر، داخل حلقات ضيقة من المُخْتَصِّين، بشأن معدل قياس الفقر (1,9 دولارا في اليوم للفرد) وتشكيك البعض في كفاية هذا المبلغ لتغطية النفقات الأساسية، واضطر التقرير للإعتراف بضرورة تغيير المقاييس، خاصة في ظل التفاوت الضخم وغياب العدالة في توزيع الثروات العالمية التي ارتفعت بشكل قياسي، وإذا اعتمدنا 5,5 دولارا في اليوم للفرد فإن نصف سكان العالم يُسجّلون في عِداد الفُقراء، أما إذا اعتمدنا 3,2 دولار كمقياس فإن 25% من سُكان العالم يدخلون في سِجِلِّ الفُقراء (بمقاييس الأسعار وقيمة الدولار لسنة 2015)، وفي الوطن العربي يعيش أكثر من نصف السكان بأقل من 5,5 دولارات يوميا للفرد، رغم النفط، أو بسبب النفط والتوزيع غير العادل للثروات… عن موقع البنك العالمي – رويترز 18/10/18
2 كانت تركيا قد عقدت صفقة مع الإتحاد الأوروبي (دخلت حيز التطبيق في حزيران/يونيو 2016) لاستعادة بعض أصناف المهاجرين الذين تُرَحِّلُهُم أوروبا، مقابل 6,5 مليارات يورو سنويا، والسماح لمواطني تركيا بدخول الاتحاد الاوروبي دون تأشيرة، بداية من تشرين الأول/اكتوبر 2016، وطلب الإتحاد الأوروبي من تركيا الضغط على المُهربين لمَنْع الهجرة غير النظامية من تركيا إلى اليونان ومنها إلى بقية بلدان أوروبا، ولئن انخفضت أعداد المهاجرين، فإن الحركة لم تنقطع تمامًا، وتشير وسائل الإعلام إلى ذلك من حين لآخر، عند وقوع حوادث قاتلة، من بينها وفاة ما لا يقل عن 23 شخصا، من بينهم أطفال (يوم الأحد 14/10/2018) غربي تركيا، كانوا داخل شاحنة لتهريب المهاجرين إلى مدينة “إزمير” الساحلية على بحر “إيجه”، للإتجاه نحو اليونان (عضو الإتحاد الأوروبي)، حيث قُتل حَرْقًا، قبل يوم واحد (السبت 13/10/2018)، ما لا يقل عن إحدى عشر راكب، كانوا على متن حافلة صغيرة تقل مهاجرين غير نظامِيِّين، نحو مدينة “كافالا” في جزيرة “تسالونيك” على الساحل الشمالي الشرقي من بحر “إيجه”، وأعلنت الشرطة اليونانية إن الحافلة استُخْدِمَتْ في السابق لنقل مهاجرين غير نظاميين، وسبق أن تَعَرضت حافلة صغيرة مماثلة وفي نفس المنطقة، في شهر حزيران/يونيو 2018، لحادث أسفر عن سقوط ستة قتْلى، من بينهم ثلاثة أطفال، من سوريا وإيران، وتضاعف عدد عابري هذه المنطقة شمال شرقي اليونان من حوالي ستة آلاف طيلة سنة 2017 إلى 12700 خلال النصف الأول من سنة 2018، وقُتل ما لا يقل عن أربعين شخصًا، خلال نفس النصف الأول من سنة 2018 في هذه المنطقة اليونانية…
بعد تضييق الشرطة التّركية على المُهرّبين والمُهاجرين (تَبَعًا لاتفاق سنة 2016)، وضع المهربون مسارًا جديدًا ينطلق من جنوب تركيا (من ميناء “مرسين”)، لنقل المهاجرين واللاجئين القادمين من العراق وسوريا والصومال وأفغانستان، إلى أوروبا، ويمر الطريق عبر جنوب إيطاليا، وهو أطول وأكثر خطورة وأعلى تكلفة فالرحلة تستغرق 5 أيام (مقابل ساعتين فقط نحو الجزر اليونانية) وتبلغ كلفتها حوالي 4400 يورو للفرد، وهي غير مضمونة النتائج، وبذلك ارتفع عدد المهاجرين القادمين عبر المتوسط، نحو إيطاليا (إضافة إلى القادمين من مصر والمغرب العربي)، وارتفع معها عدد ضحايا الهجرة، ونشر مُلْحق صحيفة “غارديان” البريطانية (22/06/2018) قائمة بأسماء وجنسية ومكان وأسباب الموت ل 34361 ضحية للهجرة، قضوا قبل دخول أوروبا، وهي قائمة من تم الإبلاغ عنهم ولا تشمل جميع الضحايا، وهم من دول المغرب العربي ومن سوريا والعراق والسودان وغيرها، فَرُّوا من الحروب (التي تشنها أو تدعمها أمريكا وأوروبا بمساعدة حُكام الخليج والأنظمة العربية) ومن الفَقْر والبطالة (وهي هيكلية وليست حالة عارِضَة)،وكانت المنظمة الدولية للهجرة قد نشرت تقريرًا يفيد إن أكثر من 33 ألف شخص توفوا غرقًا في البحر الأبيض المتوسط، بين سنة 2000 وسنة 2017…
غرق خلال شهر تموز/يوليو 2018، أكثر من 600 شخص في البحر الأبيض المتوسط، من ضمنهم الرّضع والأطفال، حين كانوا يحاولون العبور باتجاه الشواطئ الأوروبية، في ظل تصاعد اليمين المتطرف في كافة الدول الأوروبية، والحملة الشرسة التي يقودها ضد “الغُزاة المُسْلِمِين الذين يُهدّدون التوازن الديموغرافي والحضارة الغربية” وفق رئيس الوزراء المَجَري “فيكتور أوربان” (لا يَهُمُّ إن كانوا مُسْلِمين أم لا)، وكان الإتحاد الأوروبي قد مَوّل إنشاء مُعتقلات في بلدان خارج أوروبا (في إفريقيا)، وإنشاء فرق جديدة من حرس الحدود البحرية، وتجهيزها بمعدّات تقنية متطورة، فيما دعا وزراء ورؤساء حكومات أوروبية عديدة إلى ترك المُهاجرين يموتون في البحر، وعدم إنقاذهم، وفي هذا الإطار وُجِّهَت تُهم “تهريب المُهاجرين” لبعض المنظمات الإنسانية، وتعددت الإجتماعات الأوروبية، لتُقرِّرَ إنشاء المزيد من مراكز الإحتجاز الممولة من الاتحاد الأوروبي، خارج حدود القارة (اجتماعات صائفة 2018) في المغرب والجزائر وليبيا وتونس ومصر والنيجر، وفي ألبانيا أيضًا، دون استشارة هذه الدول التي رفضت رسميًّا، لكن تحتضن بعض هذه الدول مراكز اعتقال واسعة، حيث تُنْتَهَكُ أبسط حُقُوق البَشَر، وفق منظمة الإغاثة الألمانية “ميشن لايفلاين»”، وأدى نجاح تيارات اليمين المتطرف في انتخابات معظم (أو كافة) البلدان الأوروبية ومشاركتهم السلطة في بولندا والمجر والنمسا وإيطاليا وغيرها، إلى نشر الفكر اليميني الرّجْعِي الذي يدّعِي إن المهاجرين هم سبب مشاكل الفُقراء والعُمّال الأوروبيين، ويُتوقع ارتفاع الموارد المالية لِعَسْكَرة الحدود الأوروبية وتعزيز حرس الحدود ووكالة “حماية الحدود الأوروبية الخارجية” (فرونتكس) بنحو عشرة آلاف موظف جديد… نُذَكِّرُ إن أوروبا لم تستقبل في تاريخها أكثر من 10% من المهاجرين واللاجئين في العالم، حتى في فترات الحربين العالميتين، بل يبقى المهاجرون واللاجئون في البلدان المجاورة لبلدهم (إيران وباكستان وتركيا وأوغندا وكينيا والأردن ولبنان…)، وإن الجُزْءَ البسيط من المهاجرين واللاجئين الذين يأتون إلى أوروبا، جاؤوا من بلدان تقصفها الطائرات والسفن والمدافع الأوروبية بشكل يومي، ضمن حُرُوب عدوانية مُستمرة، وتُهَيْمِنُ الشركات متعددة الجنسية على اقتصاد هذه البلدان التي يحكمها إما عُملاء أوروبا (وأمريكا) أو أنظمة رفضت الإنصياع الكُلِّي للهيمنة الأوروبية والأمريكية، واستخدمت كافة حكومات أوروبا الهجرة لتعديل الهرم السكاني (تعويض المُسِنّين في مواقع العمل وفي المجتمع) ولتعديل موازين التأمين الإجتماعي، والصحي، إذ يقل معدل إنفاق هذه المؤسسات على صحة وعلاج وتأمي المهاجرين بنحو 300% عن نظرائهم الأوروبيين، من نفس الطبقة أو الفئة الإجتماعية…
خلاصة القول إن الإتحاد الأوروبي تَجَمُّع رأسمالي وإمبريالي، ولا مكان فيها للإنسانية ولا لحقوق الإنسان ولا للمساعدة، بل للإستغلال والإضطهاد واستعمار الشعوب ونَهْبِ ثرواتها المادّية والبَشَرِيّة… عن شبكة “يونايتد فور أنتير كولتورال” + صحيفة “ساندي تايمز” + رويترز + أ.ف.ب 14/10/18
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.