من مساهمات ماركس في كشف سمات الاقتصاد الراسمالي اكتشافه لقانون “فوضى الإنتاج” في التشكيلات الراسمالية. وهي فوضى يزيدها من جهة ويلجمها من جهة ثانية قانون المنافسة الحرة. وكلما إزداد لجمها كلما ذهب الاقتصاد المعني باتجاه الاحتكار داخليا، والحرب خارجياً بحثا عن أسواق ومصادر مواد خام لم يتم دمجها في السوق/النظام العالمي.
يمكننا القول بأن اقتصاد الولايات المتحدة هو أكثر اقتصادات الحرب في العالم. ولا نقصد هنا فقط التفوق التسلحي المقصود من الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة بل نقصد ممارسة الحرب كآلية للتقوية والانتعاش ورافعة للاقتصاد.
فعلى سبيل المثال، ورغم أن الولايات المتحدة لم تدخل الحرب الراسمالية/الإمبريالية الثانية منذ بدايتها إلا أنها استثمرت الحدث فزادت من إنتاجها التسلحي والغذائي لتزويد حلفائها بهذه المنتجات وغيرها مما شغَّل 12 مليون شخص في قطاع الإنتاج الحربي. بالمناسبة، لم يحتجَّ “المجتمع المدني ” حينها على توجيه قوة العمل لإنتاج السلاح من أجل القتل أو تمكين القتلة طالما هناك أجوراً أفضل! كيف لا، ومقابل هذا الإنتاج وتصديره زادت قدرة المجتمع الأمريكي من المنتجات المدنية.
المهم أن الحرب بالنسبة للولايات المتحدة قد دعمت امريكا حيث تسنى لها تحريك تنشيط جزء من فائضها الاقتصادي المحتمل ليكن في حيز الواقع.
ولكن، حينما يُقام اقتصاد معين على الحرب، فلا بد أن يتلون طبقاً لطبيعة أو نوع الحرب المطلوبة في مرحلة معينة من التطور في العلاقات الدولية.
صحيح أن المصالح الاقتصادية هي الدافع الأساس وراء الحروب العسكرية، هذا رغم ثرثرة من يقولون بأن القرار سياسي، هذا إلا إذا كانوا يُقرَّون بان القرار السياسي حسمه العامل الاقتصادي.
اللون الحالي، أي مجرد اللون فقط، للحرب الأمريكية المعولمة هو حرب النهب التجاري والتي تاخذ شكل التقشيط تجاه الاتحاد الأوروبي كي يدفع الاتحاد مقابل الحماية الأمريكية وتأخذ شكل الخاوة على المحميات النفطية العربية، وتأخذ شكل التلويح بالحرب الفعلية وخاصة البحرية تجاه الصين وحرب المقاطعة ضد روسيا والحصار ضد سوريا وإيران.
يمكننا القول اليوم، أن الهدف الأساس لهذا العدوان الأمريكي هي الصين الشعبية. ففي الأيام الأخيرة، اتفقت الولايات المتحدة مع الصين على تأجيل جزء من حربها التجارية ضد الصين (وبعد الاتفاق بأيام طلبت من كندا احتجاز صينية تدير شركة هاوواي دون مبرر) ووسعت حربها ضد كندا والمكسيك.
وبالطبع فالتهدئة مع الصين لها سبيين اساسيين:
الأول: أصبحت الصين شريك رئيسي في النظام الراسمالي العالمي ليس من السهل الفكاك معه، بل الصين أكثر مستفيد من تحرير التجارة الدولية وأكثر متضرر من الحماية الاقتصادية (هذا دون أن نناقش حدود رسملة النظام على حساب الإرث أو المكون الإشتراكي وبمعزل عن بقاء دور الدولة في اقتصاد الصين قويا). فقد كان الاقتصاد الصيني يشكّل 16% من الناتج الإجمالي العالمي في 2013 ويُتوقَّع أنه أصبح يشكّل 20% من الناتج الإجمالي العالمي، بينما تشير التتقديرات بأن حصة الولايات المتحدة هي 19 بالمئة، بعد ان كانت في الخمسينات 40 بالمئة من الاقتصاد العالمي.
والثاني:هدف الولايات المتحدة فك العلاقة السياسية والعسكرية والتجارية بين الصين وروسيا.
إن الاستهداف الغربي اليوم عامة ضد الصين وروسيا ليس جديداً، فقد كان هدف الغرب طوال القرن الماضي هو القضاء على هاتين الدولتين سواء بالحرب الباردة أو الساخنة عند الضرورة، وهو ما لم تكن تخفيه استراتيجية الغرب وخاصة الولايات المتحدة سابقاً، وتلوح به حالياً.
قد يميل البعض إلى اعتبار الحرب التجارية الأمريكية ضد الصين مسألة عابرة مقرونة بفترة ترامب وبأن مصيرها مرتبط برئاسته الحالية التي قد لا تُستكمل وقد لا تُجدَّد. ولكن بغض النظر عن كل هذا، فإن الهدف الأساس للولايات المتحدة هو الحيلولة دون وصول قطب معين إلى مباراتها فما بالك باحتمال تجاوزها بحيث لم تعد الولايات المتحدة “الأمبراطورية”.
من اللافت أن سياسة ترامب/و قد فتحت نقاشاً موسعا في امريكا في التعامل مع الصين. أو ” ما العمل” تجاه الصين حيث دار نقاش موسع في “فورين بوليسي- وهي الأقرب للتعبير عن جوهر السياسة الرسمية للإدارة والطبقة الراسمالية في الولايات المتحدة ” شارك فيه اقتصاديون واستراتيجيون نقتطف منه القليل للدلالة:
)The Engagement Debate:Foreign Policy, July/August 2018 Issue. https://www.foreignaffairs.com/articles/china/2018-06-14/did-america-get-china-wrong(
“…إن الطريقة التي مارس بها ترامب استخدام القوة والتأثير تقود إلى إرباك المحلل السياسي الصيني. ففي السنوات الأخيرة طلب الأمريكيون من الصين الإلتزام ب ” قاعدة-قوانين النظام اللبرالي الدولي”. والآن، فإن واشنطن قد تخلت عن أو علقت بعض بل نفس القواعد التي دافعت عنها، مثل اتفاقية باريس لتغيرات المناخ وشراكة عبر الباسيفيك”
)WANG JISI is President of the Institute of International and Strategic Studies at Peking University(
بالمقابل، يرى آخر بأنه “منذ ان انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية 2001، نمت الصادرات الأمريكية إلى الصين أكثر مما نمت وارداتها من الصين. إن الصين اليوم هي ثالث سوق للصادرات الأمريكية. لقد بدأت الصين مؤخراً بعرض ما اسمته “صنع في الصين 2025″ وهي حملة قسرية لتحويل الملكية الفكرية من الشركات الأجنبية إلى صينية وهذه مسألة إشكالية، ولكن من الصعوبة ان تكون هذه خطيئة اتفاقات التجارة العالمية، والتي هي اساساً عن التجارة”.
J. STAPLETON ROY is former Founding Director of the Wilson Center’s Kissinger Institute on China and the United States. From 1991 to 1995, he served as U.S. Ambassador to China.
وهذا يعني من جهة، أن للولايات المتحدة مصالح اقتصادية هائلة في التبادل مع الصين من جهة، ولكن يقلقها التوجه الصيني الحثيث نحو امتلاك أل Know-How الذي يرى كثير من الأمريكيين أن دينغ هساو بينغ هو صانع حيلة أخذ التكنولوجيا الغربية والتي ربما أغوت الغربيين بتساهل ما كي تخرج الصين من المدرسة الماوية. ومن جهة ثانية، يصبح من الصعب على الولايات المتحدة محاسبة الصين تجاريا بسبب نصوص اتفاقية التجارة الحرة، ولكن ذلك يحصل!
ويجادل آخر:
“… وطبقاً لهذا المنطق، فإن الطريقة التي يمكن لسياسة الولايات المتحدة ان تحقق نجاحا إذا ما توقفت الصين عن أن تصبح اقوى أو توقفت عن البحث عن صدىً اوسع حول نمو قوتها. إن هذا المستوى هو غير واقعي ولا يقدم أي إضاءة لتسهيل هدف للولايات المتحدة يمكن بأن لا تزداد الصين قوة…ورغم أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تُملي السياسة الصينية الخارجية، لكن بوسعها عبر حلفاء وشركاء، تشكيل بيئة حول الصين تحول دون استقرار الخيارات السياسية الصينية لتبدو غير عقلانية في نظر النخب الصينية”.
THOMAS CHRISTENSEN is William P. Boswell Professor of World Politics of Peace and War at the Woodrow Wilson School of Public and International Affairs at Princeton University. From 2006 to 2008, he served as U.S. Deputy Assistant Secretary of State for East Asian and Pacific Affairs. PATRICIA KIM is Stanton Nuclear Security Fellow at the Council on Foreign Relations.
وهذا يشير، كما يبدو، إلى شعور بعجز أمريكا عن تقييد نمو الصين الشعبية، وهو الأمر الذي يشجع المدرسة الصقورية الأمريكية في حرب ما ضد الصين على ما في ذلك من مخاطر. أو الذهاب إلى محاصرة الصين عبر حلفاء أمريكأ، أي لون آخر من الحرب وذلك للتغلب على الطريقة الصينية في المنافسة الدولية، او ما اسماه إيريك لي “الصعود السلمي”:
يقول آخر:
“… قبل خمس عشرة سنة، صاغ الاستراتيجي الصيني زهينج بيجيان مصطلح “الصعود السلمي” في وصفه للتطور الصيني. لقد تشكك الكثيرون في إمكانية حصول هذا.لكن الصعود السلمي قد حصل بدرجة كبيرة”
ERIC LI is a venture capitalist and political scientist based in Shanghai.
والحقيقة أن الصعود الصيني سلميا، ولكن من جانب الصين نفسها. فهل هذا ما تقبل به أمريكا؟
ويختم إيرك لي بقولة:
“… إذا ما واصلت النخب في الولايات المتحدة الاعتقاد بأن بلادهم بوسعها الهيمنة عولمياً، فإن الولايات المتحدة سوف تُسرِّع انحدارها. إن العالم كبير جدا، وإن الكثير من البلدان النامية تتمكن من اللحاق، فلا يمكن لدولة عدد سكانها 325 مليون بأن تكون هي الحاكم الوحيد لهذا العالم”.
لعل هذه الخاتمة هي التعبير الأدق عن التحولات في العالم وعن اتساعه بما لا يسمح لدولة واحدة بالسيطرة عليه.
وإذا ما كانت الولايات المتحدة قد عجزت عن فرملة تطور الإنتاج لدى دول كثيرة في المركز وشبه المحيط، فهل تدرك قياداتها واستراتيجيوها وعسكرها بأنه لم يعد بوسعها قطع تطور وحتى منافسة دول أخرى لها وخاصة الصين؟ وبأن الذهاب إلى المنع بالقوة سيكون انتحارا معولماً.
________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.