المتاهة الفلسطينية بين دولة فتح وإمارة حماس، شحادة موسى

بعد حديث عزام الأحمد عن تقويض سلطة حماس، عاد الحديث مجددًا عن المصالحة بين حركتي فتح وحماس. عزام الأحمد هو عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ورئيس وفدها الى محادثات المصالحة التي كان آخرها الى القاهرة في 17 – 9 – 2018 للتباحث بشأن التطورات على الساحة الفلسطينية ومستجدات عملية المصالحة الوطنية.

في 27 – 11 – 2018 قال الأحمد إنَّ حركة فتح لا تثق بحركة حماس، وسوف تُدعى اللجنة الخاصة بتنفيذ قرارات المجلس المركزي للاجتماع للبحث في كيفية البدء بإجراءات تقويض سلطة الانقسام في غزة.

وفي  إثر هذا التصريح شهدت وسائل الإعلام كتابات وحوارات كثيرة عن ضرورة المصالحة خصوصًا أنّ القضية الفلسطينية تواجه الآن ظروفًا شديدة الخطورة تُلخصُّها عبارة “صفقة القرن”؛ ولم يعد مقبولًا استمرار هذا الخلاف الذي أصبح أشبه بالمهزلة لا يُعرف أوُّله من آخره ولا أصلُه من فصله؛ فشبَّهه أحد القياديين المتحاورين بالمتاهة. (تتواصل المناقشات بعد حلِّ المجلس التشريعي الذي هو برأينا أحد الإجراءات المشار اليها؛ والمناقشة القانونية للقرار ملهاة ومضيعة للوقت).

  المتاهة مصدر الفعل تاهَ أي ضاع؛ والمتاهة وضع يتيه المرء فيه ولا يعرف الخروج منه. والخلاف الطويل بين حركتي فتح وحماس وفشل مساعي المصالحة بينهما، أثَّر في الفلسطينيين عامة وأدخلهم في متاهة؛ فلكل منهما قطاع شعبي كبير يؤيدها، ولها تأثير ماديٌّ ومعنويٌّ في حياة الفلسطينيين وفي القضية الفلسطينية.

الخلاف السياسي بين الحركتين قديم ولكنه تحوَّل الى صدام بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية (2006)، وتطورت الأمور الى قتال بين الحركتين في غزة، وإلى سيطرة حماس على القطاع (2007). ونتج عن ذلك انقسام سياسيٌّ بين قطاع غزة والضفة الغربية التي تسيطر عليها حركة فتح، ليصبحا بواقع الجغرافيا أشبه بكيانين منفصلين.

منذ ذلك الوقت طُرحت مبادرات ووُقِّعَت “اتفاقات مصالحة” بين الحركتين، بدأت باتفاق مكة (2007) بمبادرة من الملك عبدالله ملك السعودية، وكان آخرها اتفاق القاهرة برعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (2017). وتعمل مصر في الوقت الحاضر من أجل التوصل الى تهدئة بين حماس وإسرائيل، والى مصالحة بين فتح وحماس مما يساعد في تخفيف الوضع الإنساني المتدهور في قطاع غزة.

يرى أصحاب المبادرات وكثيرون من دعاة المصالحة، أنّ الانقسام يُسيء الى سمعة الشعب الفلسطيني ويضر بقضيته ويضعف الموقف الفلسطيني على الساحة الدولية، وأنَّ الوحدة تقوي موقف الفلسطينيين في المفاوضات للحصول على حقوقهم.

وعلى المستوى الفلسطيني أصبح مطلب المصالحة ورفض الانقسام “لازمة” على كل لسان، بسبب النفور من الخلافات الحزبية، والشعور بالحاجة الملِّحة الى وحدة الجميع لمواجهة الأخطار المحدقة بهم وبقضيتهم.

غير أن جميع المبادرات والمساعي فشلت في تحقيق المصالحة. وكذلك خاب ظن الذين راهنوا على أنَّ الأخطار الخارجية سوف تدفع الحركتين الى تجاوز الخلاف والتصدي معًا لهذه الأخطار خصوصًا بعدما أعلنت أميركا عن “صفقة القرن”. فقد اتضح أنَّ هذه الصفقة، في جوهرها، تستهدف الشعب الفلسطيني ليس في حقوقه وأرضه فقط بل في وجوده وهويته، ولا تراه “أمة” جديرة بوطن وسيادة وإنما جماعة سكانية في أرض اليهود.

وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يستمر الحديث عن المصالحة؟ اليس من الجائز أن تكون فكرة المصالحة ذاتها غير ملائمة لحل الخلاف بين فتح وحماس، وأنَّ هذا الخلاف ليس من النوع الذي ينتهي بمصالحة؟

 المصالحة في اللغة تعني المُصافاة والتسامح وإزالة أسباب الخصام. وفي القانون والعرف هي آليةٌ لحل الخصومات والمنازعات، تحرص على مصلحة الطرفين وتتم بالتراضي. وهي في هذا تختلف عن آلية التحكيم الذي يكون حكمه ملزمًا.

  والخصومات والمنازعات متعددة ومتنوعة، وكذلك المصالحات. والخلافات السياسية الداخلية، كالذي نحن بصدده، غالبًا ما تنجم عن تعارضات فكرية وإيديولوجية، واختلافات في المواقف تجاه قضايا تتعلق بمصالح البلد والشعب. وتسوية هذه الخلافات تتِّم بالحوار والتقريب للوصول الى قواسم مشتركة في إطار المصلحة الوطنية العليا.

وفي كل الأحوال لا تبدأ إجراءات المصالحة أو التسوية إلّا بعد تحديد موضوع الخلاف أو المنازعة ونوعه؛ فما هو الخلاف بين حركتي فتح وحماس؟

بملاحظة التصريحات والاتهامات المتبادلة على مدى السنوات الماضية، يمكن تلخيص موقف كل منهما بما يلي:

تقول فتح إن الانقسام نجم عن تمرُّد حماس وانقلابها على السلطة الشرعية؛ والمصالحة أو التسوية المقبولة لديها لا تقلُّ عن تراجع حماس عن انقلابها وخضوعها للسلطة الشرعية (سلطة أوسلو القائمة في رام الله)، وفي المقابل تتغاضى فتح عن محاسبة حماس على فعلتها.

وتقول حماس إن ما قامت به كان إجراءً وطنيًا لوقف تنازلات فتح عن الثوابت الوطنية، ووقف تعاونها مع العدو الإسرائيلي، وتفرُّدِها بالسلطة والقرار؛ والتسوية المقبولة لديها لا تتجاوز عدم تخوين فتح، ولا تقلُّ عن المشاركة في السلطة وصناعة القرار.

هذا الموقف تجاه الآخر يدلِّل على رؤية كل من الحركتين لذاتها؛ فهي تتحدث من موقع صاحب الولاية العامة أو “الدولة”، وليس من كونها فريقًا سياسيًا في إطار كيان عام يضمها مع غيرها من الفصائل. وهذا هو واقع الحال؛ فكلاهما ترى أنها المعبِّر الصادق عن القضية الوطنية، والممثل الحقيقي لإرادة الشعب الفلسطيني، والطرف الآخر لا يصلح لذلك.

وهذه النظرة ليست اعتباطية؛ وإنما تستند الى كينونة أو كيان سياسي (political entity) طورته الحركة لنفسها على مدى سنوات من النضال والتضحيات، ويتجاوز بنفوذه نطاقه الحزبي الى ولاية عامة على الفلسطينيين. وبهذه الكيانيّة تتعامل الحركة مع موضوع المصالحة. فما هو هذا الكيان؟

 

كيان فتح

 

بدأ هذا الكيان يتكوّن مع سيطرة فتح على منظمة التحرير ومؤسساتها وأجهزتها العسكرية والسياسية والإعلامية والمالية. وامتدت السيطرة أحيانًا الى مناطق جغرافية نشط فيها العمل الفدائي في بلدان الجوار. وقد كانت تصرفات فتح المظهرية محلَّ انتقاد داخل الحركة الوطنية الفلسطينية وخارجها بوصف ذلك سلوك دولة لا ثورة.

بهتت صورة الكيان وضعف نفوذه بعد خروج المقاومة من لبنان سنة 1982. ثم انبعثت من جديد بعد اتفاق أوسلو(1993) وإنشاء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بقيادة حركة فتح. ومع أنّ هذه السلطة لا تعدو سلطة حكم ذاتي إداري فإن فتح رأت فيها تجسيدًا للحلم في الدولة، وعملت على توسيع مفهوم الكيان الخاص الى ولاية عامة باسم دولة فلسطين، وتسخير كل إمكاناتها للحفاظ على هذه “الدولة” وإبقائها تحت سيطرتها.

 

ولاية حماس

 

نشأت حركة حماس في فلسطين في أوائل أربعينيات القرن العشرين امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين في مصر. وإبّان الانتفاضة الأولى سنة 1987 أعلنت الحركة نفسها “حركة المقاومة الإسلامية (حماس)”. وبعد اتفاق أوسلو طرحت حماس نفسها بديلاً من منظمة التحرير بشعار المقاومة المسلحة نقيضًا لموقف المنظمة في الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف.

ومع ذلك شاركت حماس في انتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية سنة 2006 وفازت فيها. ثم وقع الصدام مع حركة فتح في غزة سنة 2007 واستولت حماس على السلطة، وسيطرت على القطاع.

وبنتيجة ذلك اندمجت حماس بالسلطة السياسية وأوجدت لنفسها ولاية على قطاع غزة، ونفوذًا لدى قطاعات شعبية واسعة خارج القطاع. وبذلك توفَّرت لها مقومات الكيان السياسي: الأرض، والتأييد الشعبي، والقوة العسكرية.

وعملت حماس على تثبيت ولايتها وكيانها؛ فجعلت من السلطة أداة لكسب الأنصار، ولمزاولة أنشطة ليست من مهام حركات المقاومة والتحرر وإنما من اختصاصات الدولة – والدولة الدينية على وجه التحديد؛ ففرضت على الناس إجراءات تتعلق بسلوكهم الشخصي وبالأخلاق العامة، ووضعت معايير دينيّة للتوظيف في أجهزة السلطة، وغير ذلك ممّا يدخل في ما يُسمَّى أسلمة المجتمع. وهكذا امتد الجهاد عند حماس من قتال في سبيل الله والآخرة الى كسب الدنيا ومغانمها، وأصبحت السلطة مغنمًا تتمسك به حماس وتحرص عليه.

وفي هذا الشأن تتشابه حماس مع فتح في التمسك بالسلطة، رمزُ الولاية، مع فارق أن فتح لا تمانع في أن يشاركها آخرون في السلطة والإدارة ما دام يجري وفق نظام أوسلو، أي الالتزام بالاتفاق وتبعاته؛ أما حماس فهي وحدها التي تلتزم بنظام “الإمارة” التي تسعى لإقامتها.

لقد أصبح من الواضح أن الكيان والولاية هما الأساس في تعامل فتح وحماس مع موضوع المصالحة. فكلتاهما صاحبة كيان وولاية؛ والكيان لا يخضع للمصالحة، تمامًا كما هو الحال بين الدول المتخاصمة، ذلك أنَّ الدولة تحاور على ما يخصها وعلى ما لها عند الطرف الآخر، لكنها لا تفاوض على ذاتها وكيانها.

 ولهذا يمكن القول إنَّ مساعي المصالحة فشلت لأنها تدور حول مظاهر العلَّة وليس العلّة ذاتها، التي هي برأينا هذه الكيانيّة أو الولاية التي فرضتها كلتا الحركتين، فأصبحنا كأننا أمام دولتين، مع أنَّ الفلسطينيين لا دولة لهم، وما يجمعهم كيان معنوي لا يحتمل وجود كيانات جزئية ضمنه أو بديلاً عنه.

ومما يعزِّز هذا التوصيف ما يسمعه الوسطاء وخلاصته أنَّ حركة فتح لا تقبل أقلَّ من سيادة سلطة أوسلو أي “دولة فتح” في الضفة والقطاع؛ وحماس لا تقبل ترضيةً في نطاق أوسلو وولاية فتح. ومصطلحات المصالحة التي يستخدمها الطرفان تصبُّ في هذه المعادلة: يتحدثون عن الوحدة الوطنية ليتبيَّن أنها عند فتح تعني انضمام الجميع تحت ولايتها، وعند حماس تعني تقويض سيادة أوسلو ومن ضمنها ولاية فتح؛ والدعوة الى الانتخابات والاحتكام الى الصندوق هي عند فتح انتخابات وفق نظام أوسلو أي مجلس سلطة الحكم الذاتي ورئاستها؛ وعند حماس تعني التوافق وانتخابات عامة للفلسطينيين كافة وخارج قواعد أوسلو ونطاقه الجغرافي، وهكذا.

خلاصة الكلام؛ إنَّ مسيرة المصالحة لم تعد ذات جدوى، والقضية الفلسطينية تتعرض لخطر غير مسبوق عنوانه صفقة القرن، خصوصًا وقد امتثل حكّام عرب للأمر الأميركي بشأن الصفقة، وأصبح الشعب الفلسطيني في وضعيَّةٍ يمكن أنْ يخسر قضيته؛ مما يحتِّم كسر الانقسام، وحشد إمكانات الشعب وطاقاته في بوتقة واحدة لمواجهة الصفقة وغيرها من مخاطر.

ولمّا كانت المصالحة غير ممكنة في ظلِّ الكيانيّة القائمة لكل من فتح وحماس، فإنّ المدخل الى وحدة وطنية وجبهة مقاومة موحَّدة هو انتهاء هذه الكيانيّة والولاية، فتنفكُّ فتح من أوسلو و”دولته”، وتنفك حماس من الإمارة و”سلطتها”. ويكون ذلك تمهيدًا لعقد مؤتمر وطني تأسيسي يمثل الشعب الفلسطيني عامة لإحياء منظمة التحرير هيئةً جامعة بعيدة عن المحاصصة والتكتلات،  ومرجعيةً سياسية ونضالية لأبناء الشعب الفلسطيني أفرادًا وجماعات، وبهدف أساسي في التحرير والعودة.

وإذا لم يتحقق ذلك؛ ينعقد الأمل على تأليف جهة فلسطينية مُعزَّزة فصائليًا وشعبيًا ومدعومة عربيًا، تتسم بالجرأة وتعلن أن الكيانيّة والتشبُّث بها هي علّة الانقسام. وتتولى هي مهمة عقد المؤتمر التأسيسي.

 

  • كاتب فلسطيني

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.