سوريا … إلى حرب غُوار الثقافة، الجزء الثاني والأخير، د. عادل سمارة

حين يطفو زَبَدُ الحكام وأحزاب ومثقفين ويغيب النقد

 

الجزء الثاني والأخير

 

ملاحظة من “كنعان”

 

نشرنا بالأمس الجزء الأول من هذه الدراسة للزميل د. عادل سمارة على الرابط التالي:

 

https://kanaanonline.org/2019/01/07/%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a7-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%ba%d9%8f%d9%88%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%82%d8%a7%d9%81%d8%a9-%d8%ad%d9%8a%d9%86-%d9%8a%d8%b7%d9%81%d9%88-%d8%b2/

 

نتابع اليوم نشر الجزء الثاني والأخير والذي يتضمن الفقرات التالية:

– سوريا والإحزب المتسللة

– سوريا والإعلام

– سوريا والمثقفون

– غياب النقد

 

■ ■ ■

 

سوريا والإحزب المتسللة

 

ليس من السهل التعميم على مختلف الأحزاب في الوطن العربي من حيث مواقفها من قضية أو أخرى. ولكن الحزبية العربية وخاصة بعد هزيمة 1967 تشرب معظمها تلك الهزيمة شأنها شأن الأنظمة سواء

  • الشق العروبي من تلك الأنظمة الذي حاول تحرير فلسطين ولم يستطع
  • أو الشق الضد عروبي والذي لم يحاول اصلا بل تآمر معظمه على الأنظمة القومية خدمة للثورة المضادة.

في تخليها عن مواقفها تلطت الأحزب القومية والشيوعية التي تماهت مع الهزيمة أو استدخلتها وراء كون الأنظمة القومية والتقدمية:

  • أنظمة حكمت داخليا بالقبضة الأمنية لتثبيت نظمها في داخل الأقطار التي حكمتها
  • وخارجياً، احتمت بوجود الاتحاد السوفييتي الذي لعب وجوده دوراً في كلبشة الغزو الإمبريالي المباشر.

ولم تُحسب لهذه الأنظمة وطنيتها وتوجهاتها الاشتراكية أو التنموية على الأقل وعدم تبعيتها للإمبريالية والاستهداف الذي تعرضت له بسبب مواقفها هذه. بل إن هذه الأحزاب المتخلية عن مواقعها تجاهلت دور الأنظمة النفطية والملكية مما خدم هذه الأنظمة وركز الهجوم على الأنظمة قومية الاتجاه.

لذا، ما أن تفكك الاتحاد السوفييتي حتى باشرت الثورة المضادة الانتقال من الحرب الباردة بين القطبين إلى الحرب الساخنة ضد المحيط وخاصة الوطن العربي. وكانت البداية في الوطن العربي ضد العراق. وهنا، أعتقد أن العرب الذين يعزون غزو العراق عام 1991 وعام 2003 بأنه نتيجة استعادة العراق للكويت إما مأخوذين بالتخندق لصالح نظام عربي ضد آخر، أو لا يعرفون طبيعة الصراع بين الوطن العربي والغرب الراسمالي وبأن هذا الوطن هو قيد الاستهداف منذ فترة الراسمالية الميركنتيلية باعتبارها الحلقة الأخيرة من الاستهداف/ صراع التاريخي بين الغرب والشرق. ولعل الحرب التي رافقت ما يسمى الربيع العربي هي الإثبات لهؤلاء بأن المطلوب غزو الوطن العربي بالجملة.

لقد اشرنا سابقاً إلى الأحزاب العربية التي تخلت عن شعاراتها القومية والعروبية وحتى الأممية وتقزمت في تنظيمات قطرية تقسم غلاظ ايمان بأنها لا تهدف إسقاط الأنظمة في اقطارها. وفي هذا كان الدرس المستفاد و شديد الأهمية بأن الكثير من الأحزاب والأنظمة قومية الشعارات هي قطرية جوهريا.

أما في جانب سياسات الأنظمة العربية النفطية والملكية، وحتى بعض الجمهوريات، فكان أخطر التجليات لهذه السياسات هو اعتمادها كل من تجويف الوعي لتجريف الثروة.

تجلى تجويف الوعي في تعميق الثقافة القطرية وتضخيم انظمتها، إلغاء الأحزاب أو الحيلولة دون قيامها، عدم السماح بانتخابات برلمانية حتى لو شكلانية والاستعاضة بما يزعمون انه شورى، طبعا شورى، إن حصلت فبين أفراد العائلة الحاكمة، ودساتير إن وُجدت فهي ملكية مطلقة، وحتى لو كان بها نصاً على ملكية دستورية، فالتطبيق كان ملكية مطلقة، تعميق وتشديد الرقابة على الثقافة والإعلام والتأليف والنشر…الخ كل هذا كان بهدف تجويف الوعي النخبوي والشعبي من أجل تسهيل تجريف الثروة.

وخاصة ان التجريف تمت تغطيته ب إيديولوجيا السوق الحرة، وتقديس الملكية الخاصة والانفتاح الاقتصادي واعتماد وصفات الصندوق الدولي مما جعل الشركات الأجنبية هي الحاكم الحقيقي لهذه البلدان.

لقد تماهت معظم الأحزاب في الوطن العربي بما فيها فلسطين المحتلة مع سياسات التجويف والتجريف بحيث غدت ملحقة بسياسات انظمتها  وتشربت هذه السياسات فغدت مثابة أحزاب سلطة.

يمكننا الرجوع إلى مواقف هذه الأحزاب من مصر بعد عبد الناصر حيث جرى التطامن على منجزات الثورة المصرية أو اعتماد معايير لبرالية ولا سيما “علك” الكلام عن الدمقرطة…الخ متجاهلين الإصلاح الزراعي والتأميم ومواجهة الثورة المضادة والكيان الصهيوني وتعميق المشترك العروبي…الخ. وامتد التطامن بل اتخذ شكلا خطيرا ومعيباً إثر العدوان الأمريكي على العراق 1991. في حالة العراق تطابقت مواقف العديد من الأحزاب مع مواقف الأنظمة العربية وجميعهم في تبعية للعدوان المعولم!

ولم يكن حظ سوريا افضل من حظ العراق. فما أن بدأت فوضى “الربيع العربي” حتى تشاركت العديد من الأحزاب العربية والفلسطينية في الهجوم على سوريا ودعم الثورة المضادة.

لقد كان الهجوم ضد سوريا معولما بالمعنى الدقيق والتفصيلي، حيث تشاركت فيه انظمة وقوى الدين السياسي، واحزاب شيوعية تقليدية وتروتسكية، وقوى قومية وناصرية، وطبعا قوى إثنية وطائفية…هذا طبعا بقيادة الولايات المتحدة واوروبا اليابان والكيان الصهيوني.

والطريف أن الكثير حتى من السوريين المؤيدين للدولة السورية لم يدركوا بعد أن بقاء خلاف البعثين السوري والعراقي  أمر من قبيل العناد على خلاف ذهب وكاد يذهب بالبلدين، والأهم أن هؤلاء وغيرهم لم يدركوا بعد أن لا فرق بين استهداف العراق واستهداف سوريا وأن العدو قادم سواء باستعادة العراق للكويت أو دون ذلك.

واليوم، تتسابق احزاب ومنظمات عربية كما تفعل أنظمة عربية في الذهاب إلى سوريا وهي نفسها التي وقفت مع الثورة المضادة علانية وبالنصز

أنظر: “بيان من أحزاب وحركات يسارية مصرية بخصوص الثورة السورية” (16 فبراير 2012) وتشمل قائمة الموقعين:الحزب الاشتراكى المصرى – حزب التحالف الشعبى الاشتراكى – حزب التجمع – الحزب الشيوعى المصرى – الحركة الثورية الاشتراكية يناير – الائتلاف الوطنى لمكافحة الفساد – اتحاد شباب الثورة .

وكثير من الأحزاب يسارية وناصرية وبشكل ملحوظ الحزب الذي يتزعمه حمدين صباحي، وطبعاً كثير من الناصريين، ومعظم الفصائل الفلسطينية من اليمين إلى اليسار حيث لم يقف مع سوريا حقا سوى القيادة العامة وفتح الانتفاضة.

وبالمناسبة كان الموقف الجاحد نفسه تجاه ليبيا رغم أن جميع الفصائل الفلسطينية كانت تتلقى الدعم من العقيد القذافي!

هذه القوى التي وقفت مع الثورة المضادة، أي مع طبعتها العميلة وحتى لو غرتقت لنقد نفسها، فهي في حقيقة الأمر لم تخطىء في التحليل بل هي مصابة باستدخال الهزيمة ويجب الحذر منها كي لا تتصدر اي مشهد وطني أو قومي ثوري. فهي تحاول شطف نفسها كي تبقى هي عقبة في طريق وحالة انسداد امام اي تبلور لقوى ثورية. بكلام آخر، إن دورها هو خدمة الثورة المضادة ولعب دور وقائي ضد اي تطور ثوري.

 

سوريا والإعلام

 

من بين مظاهر او تجليات “الربيع العربي” أربعة أمور لافتة.

  • الإنكشاف المطلق لطبيعة أنظمة الكمبرادور إلى حد تسفيهها علانية على لسان الرئيس الأمريكي في حالة حكام النفط أو دخول العراق دون إخبار من ولَّاهم على العراق مما يؤكد أن العراق تحت الحكم العسكري الأمريكي.
  • بهوت الحزبية العربية وانطواء معظمها تحت جناح الثورة المضادة ولا نقصد هنا مثلا الانضواء تحت لواء يمين وطني ، بل كثير منها تصرف كعميل سواء أحزاب دين سياسي، او قومي أو شيوعي…الخ.
  • حلول الفضائيات محل الأحزاب في تعبئة وتحريك الشارع العربي.
  • وظهور مثقفين بقوة أكثر من الأحزاب

 

 

يصل الإعلام بسهولة ويسر كل مكان وكل فرد، ومن هنا اهميته إن كان ثوريا وخطورته إن كان في خدمة الثورة المضادة. ومن هنا خطورة الإعلام المضاد للثورة خاصة وهو يُلصق نفسه بالمقاومة لأن ذلك يُمكِّنه من تمرير التطبيع بسهولة ونعومة. فتركيز بعض الفضائيات المحسوبة على المقاومة على أعضاء الكنيست ، او تحسين وجه بعض أشخاص المعارضة السورية وتمرير هذه الأمور أو دسها إلى جانب مثلا برنامج عن الثورة الكوبية يقود كثيراً من المشاهدين للاعتقاد بأن عضوية الكنيست الصهيوني أمر عظيم ووطني!

إن قدرة مؤسسة إعلامية على تمرير أمور تطبيعية  ومع مرور الوقت تجعل تأثيرها أكبر من تأثير حركة سياسية، وطنية أو قومية لا تملك مثل هذه الوسائل ولا سيما في غياب الحزبية الثورية. من هنا يكون التنبيه والانتباه إلى هذه الألية الخبيثة في تمرير التطبيع كثقافة استدخال الهزيمة مغطاة أو مدسوسة بين أمور أخرى هامة وعظيمة.

 

خطير هو الدور الخبيث الذي تقوم به كثير من الفضائيات وحتى منها بعض فضائيات محسوبة على المقاومة بأن تفتح شاشاتها لمثقف أو محلل يدافع عن أنظمة النفط والتبعية من باب “حرية الراي” أو “الحقيقة كما هي” أو “اللبرالية”…الخ كل هذا خبث وتزييف وعي واجتثاث لشأفة الوعي النقدي المقاوِم. فعلى سبيل المثال:  إن تبعية أنظمة النفط للإمبريالية وتطبيعها هي وغيرها مع الكيان الصهيوني غدت في غاية الوضوح. ويصبح الأخطر منها أن يتم ذكرها دون نقدها وتحليلها، حيث لا حياد في قضايا تهدد مصير أمة وجغرافيا وطن. لأن ذكر هذه الأمور بدون تفنيد هو تطبيع تدريجي ناعم للمشاهد بأن الكيان الصهيوني طبيعي، وبأن تقديم عائدات النفط للعدو الأمريكي مجانا هي من الأمور العادية! ونجاح هذه الفضائيات في تمرير هكذا أمور يوفر لها النجاح في تمرير وتبرير عبور الانتهازيين إلى سوريا تحت تسميات دعم سوريا، إعادة سوريا، مراجعة الموقف من سوريا…الخ. لقد لعب هؤلاء ولم يتوقفوا دور خصي الشارع العربي وتدجينه وتحويله إلى (سكارى وما هم بسكارى) وهذا أخطر عوامل عجزنا عن استعادة الشارع العربي لتفكيك مفاصل الدولة القطرية التابعة.

 

 

حين تفقد الأحزاب عقيدتها وموقفها وتثقيفها الثوري والتقدمي تتحول إلى اسمال بالية يخلعها حتى أعضاؤها عن جلودهم، ولا يبقى منها وفيها سوى المتنفعين أو من يعجزون عن تغيير الأصنام كما لو كان الارتباط بهذا التنظيم أو ذاك هو قدرهم المحتوم. أو لنقل “ظِل حزب ولا ظل حيطة”. هؤلاء الذين تربوا على أن يبقوا مدجنين. ولأن من يجب أن يقف في مواجهة انحراف وتبعية الأنظمة هي الأحزاب، فإن غيابها أو تماهيها مع الأنظمة يجعل الأزمة مكينة ومستحكمة. لذا، في هذا المناخ أصبحت وسائل الإعلام وخاصة الفضائيات هي التي تعبىء الشارع بحقن التخدير لصالح الثورة المضادة ومن ضمنها معظم الفضائيات التي تزعم الولاء للمقاومة.

وإذا ما بحثنا عن فضائية أو وسيلة إعلامية أخرى، فلن نجد قط ايا منها ذات توجه اشتراكي أو قومي عروبي، حتى في قنوات المقاومة، فهذا ليس موجوداً.

من هنا خطورة وسائل الإعلام حيث دجنت الشارع وأخذته بعيدا عن التصدي للدمار الهائل في الوطن العربي. ولعل أخطر ما قامت به معظم وسائل الإعلام هو التعبئة السلفية بفكر الدين السياسي حيث سادت نزعة ما يسمى “الصحوة الإسلامية” التي كشفت عن دور قيادة الثورة المضادة في خلقها (الاستشراق الإرهابي(. أنظر:

 

Adel Samara, Terrorist Orientalism in a State Form:Using Marxism, Christianity and Islam to Dismantle Arab Homeland, Kana’an – The e-Bulletin, Volume XV – Issues 3781- 3782. 24 March 2015

 

لم يعد هناك من فارق فيما يخص نشر ثقافة الدين السياسي بين إعلام محسوب على المقاومة وإعلام حكام النفط. فجميع هذا الإعلام عمل على أخذ الناس من الأرضي وقضاياه وصراعاته وحتى تهديد مصير الأمة العربية بالزوال،  بعيداً إلى السماء حيث تم تأجيل حل كافة الإشكالات والكوارث إلى  يوم القيامة. وهذا هو افضل مخرج للثورة المضادة من غضب المقموعين.

وهكذا، حل مدير الفضائية أو رئيس تحرير جريدة  محل الأمين العام للحزب، وأصبح موظفوه مثابة أعضاء الحزب ولجنته المركزية والجمهور قطيع يلتهم ما يُلقون به إليه. 

كانت قَطَر أول ولاية أمريكية تم توظيفها للاختراق الثقافي والإعلامي ناهيك عن العسكري، وبالطبع قبيل قرار نقل عزمي بشارة من المحتل 1948 إلى قطر، ولذا، ما أن فشلت أهداف الحروب ضد سوريا حتى كانت إمبراطورية إعلام قطر قد فرَّخت في كافة أرجاء الوطن العربي بدءا من لندن!. ولا يختلف الأمر فيما يخص إمبراطورية الفضائيات التابعة للسعودية والتي بدأت باكرا ايضا، في بريطانيا عبر  بي بي سي ثم أم بي سي في اوائل ثمانينات القرن الماضي.

بدورهم، فإن المحلللين في الفضائيات وكتبة المقالات والأعمدة قد لعبوا دور القوميسار السياسي البديل للكادر القيادي الثقافي الحزبي .

وإذا كان لنا إكمال الصورة، فإن جميع هؤلاء مرتبطون عمليا بمصادر التمويل النفطي العربي كحلقة وسطى بينهم وبين موقع القرار لهم جميعاً، اي المركز الراسمالي الغربي وخاصة الولايات المتحدة التي تموِّل أحياناً بينما في معظم الحالات تأمر الخليج بالتمويل. بالمناسبة، هذا الخليج نفسه الذي موَّل اليمين الفلسطيني باكراً، فهل يمكن لحكام خلقهم الغرب الإمبريالي أن يمولوا مقاومة ضد الكيان الصهيوني ولا تمنعهم واشنطن مثلا! وهذا يتكرر اليوم في تمويل الأنجزة لمؤسسات محلية في الأرض المحتلة تطرح نفسها يسارية! هذا ناهيك عن تمويل الأنجزة للأنجزة النسوية المحلية والعربية والتي تعنى ب “الديمقراطية” وليس المرأة ولا الوطن.

 

سوريا والمثقفون

 

حينما  يلمع أو يظهر أو يجذب أو يتحدث مثقف أكثر من حزب، عليك أن تقلق حتى بغض النظر إن كان هذا المثقف يساريا أو يمينياً وسواء كان عميقا أم ضحلاً. فظاهرة كهذه تبين مخاطر غياب الحزب كرافعة اجتماعية جماعية سياسية  لا فردية. تقود ظاهرة كهذه إلى المزيد من تعميق مخاطر تحول المجتمع إلى قطيع.

قادت هذه المكانة الخطرة  التي أُعطيت لقطاع من المثقفين إلى تنمُّر الكثيرين منهم ليصلوا وضعية من يمارس الخيانة بلا تردد وبلا حرج، بل ويقوم بالتنظير لها كما لو كانت عملاً وطنياً. وتكتمل المأساة حين نجد عناصر حزب يبتلعون مقولات شخص  مشبوه ليس حتى على كادر حزبهم! إنه التصحُّر الفكري ومن ثم النضالي.

ونظراً لحالة الخنوع السياسي الفكري النظري، صار نقد حزب أو الهجوم والتجني عليه  أمر أقل إثارة واعترضا من نقد موقف هذا المثقف الفرد أو ذاك.

وعلى أرضية انتفاخ المثقف الفرد ونرجسيته وتنمُّره ظهرت حالة من الانتهازية الطوعية أو التبعية لدى كثير من الجمهور أو الشارع مفادها أن نقد مثقف بإسمه مثابة “تعريض شخصي ومماحكة وكراهية وحسد…الخ” بينما غدت مهاجمة حزب، أو حتى خيانة وطن أمور كأي شيء في الحياة اليومية العادية، ولعل أسوأ مثال ما تسمعه في غير مكان من تقليل من شأن العرب كأمة. وهذا بالطبع غطاء خبيث من المثقفين وقيادات أحزاب ومحللين كي لا تُذكر عيوبهم لأن النقد وحده ملح الفكر والسياسة.

 

لذا، صار كي تنقد مثقفاً، فعليك إتقان التقعُّر باللغة واستخدام التورية والتاشير من بعيد بحيث لا يصب سهمك حتى محيط دائرة المثقف الفرد. وغالباً ما يكون الغضب من توابع المثقف الفرد أكثر مما هو غضيه نفسه.

يتم تسجيل النقد على حزب وقع في سقطة ما، بينما يتم التجاوز على سقطة مثقف تحت تبرير، هو شخص أو فرد، وهذا يسمح للفرد إياه أو غيره بالتراقص من الأقصى إلى الأقصى، الأمر الذي يضع المتابع أو المستمع في حالة من تمرير مواقف في منتهى الخطورة.

حينما نشر خمسة وخمسون مثقفا وأكاديمياً في الأرض المحتلة وثيقة تدين العمليات الاستشهادية لم يُثر ذلك جمهورا، حتى جمهور تأييد هذه العمليات وهو الأكبر في الأرض المحتلة. تم النظر إليهم فرادى وبالتالي، تجاهل سقطة هذا أو ذاك. بينما يتم رصد اي تصريح ضعيف لحزب وطني أو تقدمي  وتسليط الضوء الحارق عليه!

في التجربة السورية حصل الكثير مما لم يتم توقعه. ويبدو ان ما سيحصل ليس أقل. كثرت الخطايا، ولكن رافقها “التطنيش”، وهذا ما يجب ان يتوقف كي لا ندفع أثمانا أخطرها تحطيم الوعي وخلط الحابل بالنابل و “تبويس اللحى” وخاصة الأكثر طولا منها. لذا، لا بد اليوم من تجاوز مناخات التزلف والتطهر  بسوريا.

علينا أن نتذكر بأن هزيمة هؤلاء ليست سهلة ابدا، فالثورة المضادة التي هم مثقفوها العضويون متجذرة تحت جلد بلادنا. ولأنها هكذا، تمكنت من القفز على عنق الحراك الشعبي العربي هنا وهناك وإما حرفه كما حصل في مصر أو تدمير البلد كما حصل في ليبيا وسوريا.

وقد أسمح لنفسي بأن أُكرر أن كشف أحد أساطين هذا الطابور استغرق أكثر من عشرين عاماً، بل إلى أن كشف هو نفسه في دوره ضد سوريا، ولا شك ان له دوره ضد مختلف الأقطار العربية وإن بدرجات، وطبعا بتعاون شديد مع غيره وبالمال طبعاً.

نحن لم نفتح معركة مع هؤلاء، مع أن واجبنا ذلك. نحن ندافع عن أمة وخاصة عن طبقاتها الشعبية، والحرب الدفاعية هي الأكثر قداسة حتى في شكلها كحرب أهلية.

لذا، يجب أن نلتقط اللحظة ونواصل النقد والكشف والمواجهة. إن التخاذل الفكري السياسي ليس اقل خيانة من توجيه فوهة البندقية إلى الرفاق إلى تنكيسها إلى الأرض.

 

غياب النقد

 

ليست لدينا الإجابة السحرية على مسببات فوضى المواقف ومراوحتها من النقيض إلى النقيض في الوطن العربي، ولا على ما هو أخطر منها أي غياب الموانع والصد. لقد شهدت السنوات الثمان الأخيرة انفلاتا قيمياً لا نظير له، كما لا نظير ل “جرأته” في الإعلان عن نفسه. والمهم أن لا حسيب عليه. من بين الأسباب لا شك غياب قوة المثال التي يمكن القياس عليها وهي بالطبع ليست مستقيمة بالمطلق ولكنها ثابتة على الأسس. فقد يكون أوضح وأقبح تعبير عن الانحطاط القيمي والإعلان عنه ما قاله وزير خارجية قطر السابق بأن قطر أنفقت 137 مليار دولار لإسقاط سوريا! حتى مركز الثورة المضادة في واشنطن لا يتحدث بهذه الوقاحة الواضحة. لكن هذا يعيد للذهن بأن العميل اشد خطرا من العدو الأصيل. فما بالكم بعملاء العميل من سوريين وفلسطينيين وقطريين ومن مختلف الأعراب.

مرَّة أخرى والحديث عن سوريا كمثال على الوضع العربي حيث لم يكن النظام البعثي في سوريا مثالاً نموذجيا، ولكن ما تم دشه في الشارع ضده  ودحشه في افواه محللين ومثقفين وأكاديميين من الجنسين وحتى الثالث، على مدار خمسين عاماً ضمن موجة إعلام تشويهية لم يدركها كثيرون، كان المقصود بها الفتك بالوعي الجمعي ضد العروبة  عبر استهداف سوريا والتي لم يتخيل أحد حتى محبيها قدرتها على هذا الصمود!

حالت الثورة المضادة دون إيصال الشارع العربي اية إيجابية عن سوريا، لا عن التعليم المجاني والطب المجاني، وتحرر المرأة، ولا الإعداد للتوازن الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني ولا رفض الاعتراف بالكيان، ولا الاكتفاء والأمن الغذائيين. وحتى المنظمات الفلسطينية التي كانت دائما في ضيافة دمشق كانت في الغالب مليئة بكره شرقي متخلف أو حقد سياسي مضاد لكنها لم تجد من يستضيفها غير دمشق. وكثيراً ما كُتب حتى اليوم بأن سوريا لم تطلق النار من الجولان المحتل، بينما الناقدون اعترفوا بالكيان وتفاخروا بذلك وأعفوا انفسهم حتى من تحرير متر واحد غربي نهر الأردن. وبالطبع لم يُسجل لسوريا دورها في  تسليح غزة وحزب الله بشكل خاص. لعلها مفارقة خبيثة أن سوريا

  • متهمة من جهة بأنها وريثة ما يسميه البعض “الدين الأموي” في رجوعية نكوصية إلى صراع علي ومعاوية!
  • متهمة من جهة ثانية بانها أداة لإيران المتهمة بدورها بأنها شيعية رافضية…الخ.

كان أكثر ما يصل إلى الشارع العربي غياب الديمقراطية واستشراء الفساد، وكأن الأنظمة العربية الأخرى تعيش ديمقراطية أثينا أو اشتراكية القرامطة.

وبالطبع كان غياب “الديمقراطية” بالمعنى الذي تفهمه الثورة المضادة هو لجم التطبيع ولجم الإقليمية ولجم الطائفية ولجم الزعامات الإثنية التي كانت بانتظار الموجة القومية الثالثة كي تعلن أن بها حملاً من الفحل الإمبريالي ولا بد أن تضعه إما حيَّاً أو إجهاضاً.

إن غياب قوة مثال مع تشويه اي إيجابي في الأنظمة قومية الاتجاه هو أحد أسباب تعمية الوعي الجمعي عن كارثة قوى وأنظمة الدين السياسي كي تبدو وكأنها “الوجه الطيب” بينما ليس في عبائته سول المال وخصيتيه. اي تم استبدال الموقف العروبي، على أخطائه، تم استبدال الهوية العروبية بالهوية النفطية المالية، بكيس المال النفطي. وهذا بحد ذاته إعماء للوعي الجمعي.

لقد نجحت الثورة المضادة في تشويه القراءة السياسية في الوطن العربي كي تنحصر في نصف بصر والتقييم بنصف بصيرة، في غض الطرف عن ذكر اية إيجابية مما يخلق وعياً شعبيا أعوراً سواء باتجاه اليمين أو اليسار، لا فرق كبيراً لأن المهم هو العَوَرْ أو بكلام آخر فُصام المواقف بحيث تكون حدية بالمطلق لا حوارية ولا تربوية مما حال ويحول حتى اليوم دون فرص التربية المتزنة بالوعي والعمق الثقافي.

لقد ذهبت الثورة المضادة في خصي الشارع العربي وإزاحته باتجاه الدين السياسي عبر تنظيمات الدين السياسي التي تقف خلفها، وفي غالب الأحيان لا تَبِيْن، أنظمة الدين السياسي، الأمر الذي وضع الدين في مواجهة أي تفكير او موقف نقدي وتقدمي فإذا الدين ضحية والناس ضحايا.

هذه الفوضى والفصام والانفلات افقدت العروبة شارعها الذي تفرق بين لا إبالية محزنة وبين امتشاق السلاح للقتل المفتوح خدمة لمختلف تنويعات الأعداء برأيه وثقافته عن دراية أو جهل  لا فرق.

بل وصل الانحطاط إلى انحياز مثقفين من الشيوعي إلى الإخواني أو اي تيار من الدين السياسي، وتحالف التروتسكي مع الإخواني، وانحياز القومي لصالح “عروبة” الحكم السعودي، والوقوف ضد الشعب اليمني بحجج طائفية ومذهبية.

كل هذا يؤكد السؤال أين النقد؟ ولنقل النقد المشتبك. فالنقد موقف علمي وعملي. ولأنه كذلك فهو موقف جريىء يستمد جرأته من درجة الوعي واحترام الشخص لوعيه. ولذا، لا يندرج ضمن النقد أي خطاب مأجور أو ممرور أو مريض أو متعصب فمختلف هذه الأنماط غير تربوي بل هي مداخل لتخريب الوعي وصولا إلى تخريب الموقف. وهي من حيث وزنها اقرب إلى النميمة ، أو حرب المشافهة، ومن طبع المشافهة تناقضها بين الحب وبين النهش. فإذا كانت النميمة درب أي نهج الجبناء والمُفرغين، فإن الكتابة المتعصبة والمأجورة أكثر خطورة واشد مرَضِيّةً.

في سياق قراءة تعدد مواقف وارتباطات المثقفين/ات اشرنا ذات وقت إلى المثقف الخطر. المثقف الذي يرهن نفسه لنظام ما فلا يذكر سوى محاسنه ويخلق له محاسنا بل مفاتنا ليست فيه. هذا المثقف/ة لعله الأشد خطراً.

يفتح هذا الحديث على مسألة اساس وهي أن النقد الحقيقي والمتماسك والواثق بنسفه لا بد ان يرتكز على مناخ أو مسار تربوي بنائي كي يبقى حامل معنى لموقف. وربما كان مدخل باولو فريري البرازيلي هو الأفضل في تربية أو تعليم المقموعين التعليم الحواري لا التلقيني مما يخلق شخوصا سوية تبدأ من الثقة بنفسها ووعيها مما يؤهلها للنقد المشتبك بعيداً عن الرشى والمأجورية والمجاملات.

وحده هذا النقد الذي يجعل من الناقد مناضلاً حيث يتمسك بقناعته بغض النظر عن المؤثرات باتجاه السلب وإسقاط الموقف وبغض النظر عن ما يهوى لمجرد أنه يهوى.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.