كتاب لا يمكن تلخيصه: قراءة في كتاب “الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين”، لمؤلفه الباحث الرصين جوج كرزم، قراءة: عادل سمارة

 الكتاب: الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين،

المؤلف: جوج كرزم

الناشر: دار الرعاة- رام الله

سنة النشر: 2018

 

نعم، هذا انطباعي بعد قراءة الكتاب، تلخيصه أمر صعب، لأن كل ما فيه يجب أن يُؤخذ في اية مراجعة، لا حشو ولا تكرار .

حجر الزاوية في الكتاب هو تحطيم زعمين:

الأول: الزعم الصهيوني بأن فلسطين المحتلة هي أكثر الأماكن أمنا لليهود. وأمن اليهود هو فزاعة تمت صياغتها بخبث واستغباء للبشرية لأنها تقوم على زعم أن البشرية ضدهم، وليس لأنهم يرون كل البشرية أغياراً! فقد بين المؤلف بتوثيق معلوماتي رسمي من سلطة وباحثي الكيان بأن فلسطين المحتلة ليست الأكثر بل الأقل أمنا لليهود، وذلك نظرا للسياق التاريخي الذي رغم هزائم الكيان الحالية ما يزال في بداياته.

والثاني: بأن تلبيس يهود العالم  في القرنين الماضي والحالي “انهبالهم” بالميثولوجيا الدينية، وقيام مفكرين يهود من اليمين واليسار وحتى الماركسي بتبرير الاستيطان في فلسطين وخلق مصالحة بين اغتصاب وطن الغير وبين تماهي الشعب الأصلاني مع الاستعمار الاستيطاني، لم ينجح قط. وهو ما تؤكده صفحات الكتاب من حيث تدفق مضاد بالهجرات إلى الخارج مما يؤكد بأن الاستيطان هو راسمالي أبيض مصلحي اساساً، وحين تتراجع الامتيازات تتكثف الهجرات المعاكسة.   ويبدو أن عدد اليهود الباحثين عن الله في فلسطين قد اقتنعوا انه في كل مكان.

لعل هذا ينقض ما كتبه كثيرون من العرب والعجم بأن العدوان الصهيوني على فلسطين مرده ديني ثقافي…الخ، إنه راسمالي مصلحي بكل ما في الكلمة من معنى.

لخص الصديق جورج كرزم المشكلة التي عالجها باستخدامه مفردتين في العبرية هما:

  • “عَلِيا” (اي الصعود الى أرض إسرائيل)، في مديح لليهود المتدفقين إلى فلسطين وتشجيع للاستيطان وجذبا لهم إلى مستوطنة لا تمتلىء.
  • “يوريد” أي النزوح والتخلي عن العيش في الكيان، وهي مفردة مقصود بها الازدراء تجاه من يرحلوا. وقد اقول بأن معناها الأوضح او مقصدها “السقوط”.

كما يركز الكاتب على اهتمام التثقيف والدعاية الصهيونية بأن مستقبل الكيان معتمد على دعم يهود العالم ومستقبل اليهود معتمد على دعم الكيان. وهذه محاولة استقطابية تجميعية تحرص على بقاء التماسك اليهودي المعولم مما يجعل الخروج من الكيان ضربة موجعة للكيان. والحقيقة أن هناك “اسرائيل” ثلاثية:

  • يهود الكيان ككيان عميل من رئيس الوزراء وحتى آذن المدرسة
  • ويهود الولايات المتحدة اي بنك اليهود المالي والبشري، ولكنه يرسل المال أكثر مما يرسل الرجال ، بل تحول كما يؤكد كرزم إلى موقع جذب للهاربين من الكيان.(انظر لاحقا).
  • ويهود روسيا اي المخزن البشري الذي بعد أن كاد يفرغ إلا انه يستعيد كثيرين ممن هاجروا للاستيطان في فلسطين

للتفصيل انظر ص 75 من الكتاب.

يربط الكاتب أو يكشف الرابط بين ارتفاع منسوب المقاومة العربية ومنسوب الهروب من الكيان ، إنه تناسب طردي منذ حرب 1973 إلى انتصار حزب الله في لبنان عام 2000 و 2006 وكذلك انتصار المقاومة في غزة 2008 -2009 و 2012،  2014، والآن تصاعد قوة محور المقاومة. وهذه المسألة هي الأشد تأكيدا بأن الكيان وُجد وسيبقى في تناقض تناحري مع الوطن العربي.

بهذا يعود الكاتب للتأكيد على أن ضلعي الهروب هما:

  • المقاومة العربية. وهذا بعكس وضع المستوطنات الراسمالية البيضاء في العالم (الولايات المتحدة، كندا استراليا نيوزيلند)، وبين الاستيطان في فلسطين. لذا، فإن الكاتب محق بالقول بأن الهروب يهدد وجود الكيان. وهذا ليس حال المستوطنات الرأسمالية البيضاء الأخرى التي هي مواقع جذب للهجرات وخاصة من الكيان نفسه.
  • وعدم توفر الرفاه الاقتصادي الموعود، على الأقل كما جاء في الوعود.

لقد أورد كرزم تقديرات وإحصاءات عديدة لعدد الهاربين، أورد هنا منها ما يلي:

“… كشفت وزارة   الاستيعاب  الاسرائيلية  في تشرين ثاني عام 2003 عن تقديرها بان نحو 750 الف يهودي اسرائيلي يعيشون خارج ” اسرائيل”  وبخاصة الولايات المتحدة وكندا : وشكل هذا الرقم 12.5 بالمئة  من اجمالي عدد السكان اليهود  الاسرائيليين  في ذلك العام” ص 44″

وبان “… نحو 200 الف روسي  او 22 بالمئة من اجمالي عدد الروس الذين هاجروا الى اسرائيل منذ عام 1990 قد عادوا الى بلادهم”. ص 45.

ورغم زعم الكيان بأنه لا يستقبل مهاجرين/مستوطنين من غير اليهود إلا أنه استقبل 300 ألف مستوطن مع اسرهم من الاتحاد السوفييتي  السابق. ص 47.

وهذا يعود بالطبع إلى ترميم سلطة بوتين للخراب الذي لحق بروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وخاصة سلطة بوريس يلتسين.

ورغم أن المستوطنين الروس يفضلون العودة إلى بلادهم الأصلية، إلا أن هذا استثناء من التيار العام للمستوطنين الهاربين حيث يفضلون الهجرة إلى الولايات المتحدة بشكل خاص. فمن اللافت أنه: “…في عام 2004 ، قدر عدد اليهود الإسرائيليين الذين “نزحوا ” إلى الولايات المتحدة منذ السبعينات وحتى ذلك العام ب 1.2 مليون “. ص 46.

مهمة إشارة الكاتب بأن الهاربين من الكيان غالبا ما يذهبون إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، وهي مستوطنات رأسمالية عنصرية بيضاء ومعادية في الصف الأول للأمة العربية وقضية الشعب العربي الفلسطيني.

لقد ركز الكاتب على أن معظم المهاجرين بالمعكوس اي الهاربين هم من المتعلمين بدرجات عليا، ومن الشباب  ومن العلمانيين واليساريين واللبراليين والكوزمبوليتانيين  وذوي المهارات  وبان 70 بالمئة من اليهود الاشكناز يحملون جوازات سفر اجنبية . وهذا يعني أن الكيان يميل باتجاه الاعتماد على الأقل تعليما والأقل ثراء والأقل ثقافة وبالتالي الأكثر عنصرية وعرقية.

للسبب نفسه، كتب المؤرخ الصهيوني بني موريس مؤخراً، بأن مصير الكيان هو الذوبان في المنطقة ولن يبقى فيه سوى من لا يستطيع السفر، أما الأكثرية فستذهب إلى الولايات المتحدة. لتوسع اكثر انظر ص ص 113-14 من الكتاب.

“…وخلال الاجتماعات التي جرت عام 2011 في واشنطن بين وفد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وموظفين امريكيين موالين  ل “إسرائيل” ، أُعلن عن تأكيدات قدمها مسؤولو منظمة إيباك مفادها بأن الحكومة الأمريكية ستصدر ، على وجه السرعة جوازات سفر أمريكية لجميع اليهود الإسرائيليين الذين يسعون للحصول عليها”. ص 104.

وهذه مفارقة بالطبع. فالولايات المتحدة التي تضع بقاء الكيان في توازٍ مع بقائها يجب بالاستنتاج المنطقي أن تعيق الهروب لا أن تقدم تطمينات للهاربين!  حتى لو كان الاستعداد لمنح الجنسية الأمريكية من باب التعاطف بين الدولتين الاستيطانيتين العنصريتين. هذه المساعدة الملعونة تنم عن قناعات أمريكية بأن هذا الكيان طارىء حقاً. فليس من قبيل المبالغة بان اليهود في فلسطين  يشعرون بانهم  طارئين ومؤقتين:

في “… دراسة اجرتها منظة أيباك الصهيونية الأمريكية وأخرى أعدها “الصندوق القومي اليهودي” في المانيا، بينت بأن نصف اليهود القاطنين في إسرائيل يفكرون بمغادرة فلسطين  في السنوات القليلة المقبلة اذا استمرت الاتجاهات السياسية والاجتماعية الراهنة” ص 97.

الهروب من موت إلى آخر، هروب من الموتين، فقد تطرقت القناة الإسرائيلية الثانية عام 2014 اثناء العدوان على غزة إلى اغنية جديدة اسمها “برلين” تدعو الى الهجرة  من “اسرائيل”  الى “برلين” وتقول: ” اجداد اليهود قدموا لاسرائيل  ليس حبا بالصهيونية بل خوفا من  الموت على يد النازية، بينما انعكست الآية اليوم. فالهجرة من إسرائيل لبرلين تاتي خوفا من الموت ايضا. ص 102

بين ما قدمته هذه الدراسة صدمة لطوابير المطبعين مع الكيان الصهيوني. ففي حين يهرولون إليه، يهرول مستوطنون إلى الخارج. ولعل الم         طبعين الفلسطينيين والعرب يفهمون بأن في هذا الكيان كثيرون وربما الأكثرية الساحقة التي تفضل العودة من حيث اتت أو أُتيَ بها على العيش مع المطبعين كحطابين وسقائين ولاعقي أحذية.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.