ولكن … من انباْك بالرحيل! في رحيل الرفيق خليل (كارلوس) جريس توما (1945-2019)، عادل سمارة

تباطأتُ، أنا، لا واعٍ بأنك راحلٌ. هذا ما فاجئت به نفسي ولمتُها. فليس أقسى منك حين يتوقعونك، ولا تأتي! 
وضع خليل أعماله الشعرية في مكتبة يوسف الجعبة برام الله، حيث لم نتمكن من اللقاء.
وكيف لي أن أعلم يا خليل انها وصيتك؟ 
قرأت المجموعة بالتدريج جرعة جرعة قبل النوم، كان رأسك بجانب رأسي، كما لو كان برشك بجانب برشي. لم يسترعني أن المنون كامن بين تلك الصفحات. وكيف اعلم وفي مخيلتي خليل فتىً مقبل على الحياة والعطاء.
حسِبت بان من لا يكسره السجن ومن يتسلح بالنظرية الشيوعية لا يموت. 
هو خيالي القاسي حتى على نفسي. ما تخيلت ان الرجل أهداني الكتاب وديعة كي أرثيه. وكيف لي ان ادرك ذلك بينما في راسي أن الثوري لا يتعب، وغاب عني أنه يرحل.
بين ليله وثانية كنت أؤشر على هذا المقطع أو ذاك كي أهدي خليل قراءة مطولة في أعماله، ولم أدر بأن كل ما كان يريده برقية رثاء صغيرة ، لا لشيء إلا لأنه مثالي في تواضعه. هادىء مهذب، حساس ومن داخله صلب. 
فهو القائل:


“من خلف متراس الى عينيك ننهض فالسما بلورة
تتكشف الاسرار فيها
وجوادنا الناري ينهض من وحول مسافة بين المخيم والضريح
وتشده شمس فيطلق صدره، أذنت رياح الحق فانتفض الصفيح
وتلعثمت لغة الغزاة
هنا المخيم والقرى
وهنا البلاد فريسة ظنوا ستبقى للذئاب
لفظت مسامير الصليب إذ أدلهم الليل في جنباتها ،
وتمردت حين اشرئبت قبضة من عمق اعماق العذاب” (34)


نعم يا خليل، ومن غيرك وأنت البجالي التلحمي يعرف معنى ومحمول الصليب!
ثم يُكمل عن أسرى انتفاضة 87:


“كسروا عظامك يا رفيقي
أي روح في الجسد
سجدت لعزتها الجباهُ ولم يحطمها أحد
هي قلعة مترستها
هي شعلة اوقدتها
ستظل جذوتها تضيىْ إلى الأبد” ص 36


وكأني بك تعيش أنت إلى الأبد، فلم اكتبك وأنت بين جنبات الزمن الحي.
وأنت القائل:


” جيل يستيقظ في غرف التحقيق
يفيق، يفيق
وعِصِيُّ الشرطة تصنع من شعبي حزبا
والكل رفيق” ص 270


واقول لك وداعاً ايها الرفيق. وأعتذر مجدداً وأبدا، فأكثر ما يحز القلب كحز حد السكين، أن يتوقعك المرء ويرحل قبل اللقاء.
أنت ثالثهم يا خليل. ذات يوم قال لي الفنان عصام بدر، إقبال الشخشير/حليلة أوصتني أن تمر بها. لم تكن حينها هواتف لأن العدو كان يمنعها عن شعبنا، لكنها لم تتمهل فقررت أن تحيا انتحاراً بعد يومين، قاتلني الزمن، لأنني لو التقيتها لما فعلت. 
التقاني الرفيق ابو حازم وقال سمحان سمحان ينتظرك تزوره، وسمحان من أبطال المقاومة المسلحة من الصاعقة/حزب البعث العربي الإشتراكي، قاتلهم واشتبك معهم بالبارودة وقتل منهم وانسحب من بينهم كالنسر إلى الأردن، وعادلاحقاً، تشاركنا السجن 1965 ولاحقا 1967 بعد الاحتلال. وتباطئت لأني توقعته يولد ولا يموت، لكنه رحل ايضاً. 
لم يبق إلا أن اكرر قول عمرو بن معدي يكرب:


“ذهب الذي أحبهم…وبقيت مثل السيف فردا”. 


والمتنبي:


“نُعدُّ المشرفية والعوالي…وتقتلنا المنون بلا قتالِ
ونرتبط السوابق مسرجاتٍ…وما يُنجينَ من خبب الليالي”


كان ظني أنك إذ قهرت عتمة السجن والحواف الجارحة للقيد “الكلبشات” بأن شيوعيتك سوف تقهر الموت، تخلت عنك وتخلى عنك السيد المسيح، وذهبت باكفان من الشعر والشيوعية والثورة، فهنيئا لك.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.