“كنعان” تتابع نشر كتاب “التعاونيات/الحماية الشعبية: إصلاح أم تقويض للرأسمالية”، تأليف د. عادل سمارة، فلسطين المحتلة، 2018 (الحلقة الثانية)

في حلقة اليوم:

 مقاربات نـظرية

  • العمل اختلاف مادي مثالي
  • ملاحظة في مفهوم وأخلاق التنمية
  • التنمية والاقتصاد السياسي
  • العمل الاجتماعي والإنتاج الاجتماعي
  • التكنولوجيا الوسيطة وكثافة التشغيل
  • التنمية

■ ■ ■

 

مقاربات نـظرية

 

العمل  اختلاف مادي مثالي

 

اساس التعاون هو العمل، ورغم أن التعاون موجود في خطاب كل من الماديين والمثاليين إلا أن النظرة إليه والهدف منه مختلف بين المنهجين. لكن اختلاف نظرتيهما إلى العمل تبيِّن تناقض النظرتين بشكل لا يقبل التمويه، وفي الوقت نفسه يضيء على الفهم المثالي المخادع للتعاون.

هناك الكثير من الكتابات في مختلف كتب النيوكلاسيك الاقتصادية تصور العمل بمصطلحات سلبية مثل اللافائدة، او التضحية. وغالبا ما يعرض السوسيولوجيون والاقتصاديون العمل بهذا المعنى على انه ظاهرة عابرة للتاريخ ممتدة من الإغرق القدماء حتى اليوم وستبقى كذلك. وهكذا فإن المنظِّر الثقافوي الإيطالي اريانو تلغير، كتب عام 1929: ” كان العمل لدى الإغريق مجرد لعنة  ليس إلاـ وقد دعم مزاعمه بمقتطفات من سقراط ، وأفلاطون، وكزينوفون وأرسطو وسيسرو ورموز أخرى، وهم  الذين يمثلون المنظور الارستقراطي في الإنتكويتي (المجتمعات القديمة)[1]

 

وقد ظل هذا التوجه أو الفهم قائماً وسائداً، كما لاحظ الاقتصادي الألماني ستيفن رتزل عام 2009، بأن “النظرية النيوكلاسيكية تجادل بأنها لضرورة سيئة أن نخلق دخلا كي نستهلك”.

لكن الاستهلاك غير الاستهلاكية، وتظل العبرة في:

  • طالما وُجدنا فيجب ان نعمل والعمل يخلق منتجات
  • كما أن السؤال : ننتج ماذا ومن أجل ماذا؟
  • العمل يعطي قيمة ولكن هل هي للاستعمار أم للتبادل.
  • وإذا لم يعمل من سبقونا، فكيف بقوا وأنجبونا؟
  • وإذا لم نعمل كيف نبقي؟

يقوم احتقار العمل على مرتكزين سلبيين:

الأول: هو مرتكز طبقي يكرِّس عبودية طبقة لصالح أخرى. كانت هذه العلاقة الاجتماعية موصوفة بالعبودية واليوم بالاستغلال، ولكن جوهرياً لا فرق

والثاني: العيش بانتظار ريعِ ما، سواء من الله، أو من الطبيعة ببدائيتها أو من استغلال أمة لأخرى.

بالمقابل، بنى الماديون في الأنتكويتي/المجتمعات القديمة افكارهم على معرفة أصيلة للعمل واحترام لما يقدمه للعالم- وذلك في مواجهة حادة ضد المثاليين، الذين يمثلون احتقار الارستقراطية للعمل اليدوي، حيث يُطرون اساطيراً سماوية ومثاليات ضد العمل. يمكن ملاحظة هذه الرؤية في تصريح منسوب إلى كزينوفون: ” إن ما يسمى الفن الميكانيكي يحمل عاراً اجتماعيا وهو في الحقيقة لا يُحترم في مدننا”

بينما لا يوجد أوضح من وجهة النظر الرائجة عالميا للماديين الإغريق الذين رأوا العمل بأنه تجسُّد للعلاقات العضوية والديالكتيكية بين الطبيعة والمجتمع” التي تاثرت عميقاً بوجود العبودية. وعلى اية حال، كان لهذا اثر عظيم على الارستقراطية، التي كانت معتمدة بشكل ضخم على عمل العبيد، أكثر منه على ألعامة من الشعب demos بقواعده في المواطنين الأحرار، الذين يمثلون  بشكل غالب الحرفيين والفلاحين. هذا التمييز او الفصل الطبقي في المدينة الدولة قد انعكس في انقسام وجهات النظر بين المثاليين والماديين.

وهذا بالطبع يفتح على أمرين:

الأول: أن الصراع بين المادية والمثالية قديم في الحياة البشرية وهو أقرب إلى أن نسميه بين الخير والشر.

والثاني:  وجوب تغيير طريقة مناهج التعليم وحتى التأريخ والتحليل للحقبة اليونانية التي يتم عرضها بشكل مثالي سواء في الفلسفة أو السياسة، اي ضرورة عرض الصورة بشقيها.

بدوره تناول ماركس مسألة العمل من مدخل الإنتاج وإعادة الإنتاج، في نقده لأب الاقتصاد الراسمالي الكلاسيكي، آدم سميث، وبرودون وآخرين،  بأن العمل تضحية كتب ماركس:

” طبقا لوجهة نظر سميث فالعمل لا يغير قيمته ، بمعنى ان كمية محددة من العمل هي دائما كمية محددة معروفة من العمل بالنسبة للعامل. مثلا،  عند سميث، تضحية  بنفس الكم من ال magnitude. نفس كمية الحجم او الكتلة مهما كان لدي  الكثير او القليل من ساعة عملت بها- وهو يعتمد على انتاجيتها او وظروف اخرى- فإنني اكون قد اشتغلت ساعة واحدة. فإن ماعلي ان ابذل نتيجة عملي،  اجوري، هو دائما نفس ساعة العمل ، مهما تغيرت النتيجة[2]. ويضيف:

” ان كميات محددة  من العمل، يجب في كافة الاوقات وجميع الاماكن ان تكون لها نفس القيمة بالنسبة للعامل أي في ظروفه الصحية الطبيعية والقوة والنشاط وفي الدرجة العامة من المهارة والتسهيلات،  التي يحصل عليها،  فإن عليه دائما ان يتخلى عن  نفس جزء  مطابق من راحته  وحريته وسعادته. ومهما كانت كمية او تكوين السلع التي ياخذها كتعويض عن عمله، فالسعر الذي يدفع له هو نفسه دائما. طبعا، فهذا السعر سوف يشتري كمية احيانا اقل واحيانا اكثر  من هذه السلع، ولكن فقط لأن قيمها تتغير، وليس قيمة العمل الذي يشتريها. وحده  العمل، بناء على ذلك، لا يغير قيمته الخاصة. وبناء على ذلك فإن السعر الحقيقي للسلع، النقود هي فقط قيمتها الإسمية[3]

كتب ماركس: “وهذا العمل بالنسبة ل سميث هو لعنة صبها يهوه على آدم    In the sweat of thy brow shalt thou labour! was Jehovah’s curse on Adam.

 

وعليه “فإن العمل برأي سميث هو لعنة… عيب، فالكسل يبدو، كما تبدو الراحة على انها الحالة المناسبة، المتطابقة مع “الحرية”، و “السعادة” .يبدو انه قد غاب عن ذهن سميث بان الفرد “في حالته الصحية الطبيعية، والقوة، والنشاط والمهارة والتسهبلات يحتاج ايضاً إلى قسط  او حصة طبيعية من العمل[4]

إن ماركس  لا شك على حق هنا، ولكنه يقصد بضرورة العمل كرغبة بالطبع بعكس او بعيدا عن الأشكال التاريخية غير الإنسانية مثل عمل-العبيد، عمل-الأقنان (عبيد الأرض في الإقطاع) ، والعمل-المأجور، حيث يكون العمل قسرياً وبالتالي مكروها دائماً بما هو عمل مفروض من الخارج وليس عملاً من الناحية المعاكسة، اي “بحرية” وسعادة’”

 

[في مثل هذه التشكيلات الاجتماعية] فإن العمل … لم ييلق بعد لنفسه شروطه الذاتية والموضوعية  … التي يصبح فيها العمل عملا جذابًا

وبالمناسبة، ليس في ذهن  آدم. سميث سوى عبيد رأس المال.

وهنا فإن سميث يحاجج بأن فكرة الحرية “بما هي ليست عملاً، فهي بعيدة عن أن تكون حقيقة مطلقة، هي نتاج شروط تاريخية محددة، مترافقة مع العمل المأجور المستغَل. ولا يصبح العمل شغلا جذاباً، حسب ماركس إلا تحت ظروف غير مغرَّبة، أي حينما لا تعود سلعة. وهذا يشترط ، اشكالا جددية أعلى من التشكيلات الاجتماعية تحت سيطرة المنتجين التشاركيين. وهذا نجده كل هذا له جذوره بالطبع في نقد ماركس المبكر . كل مواطن، رجلا أو إمرأة،  يمكن ان يتطلب في مسار حياته  ميلاً أو رغبة في الفراغ.  ومن وجهة نظر بيلامي، لا يزال يُفهم العمل على انه ألماً لا متعة وعليه، تكون المسألة الأهم هي تجاوزه في نهاية المطاف[5].

 

يمكن المجادلة بان جيرز في كتابه الأخير”الرأسمالية والاشتراكية والبيئة” هو أدق نوعا ما، ولكن في عمله الأخير تبنى مضمون المفهوم الكلاسيكي  للعمل بأنه من باب “الألم والضيق والإجهاد” ، وبأن فكرة العمل كجزء من عملية الخلق هي اختراع الحركة العمالية في القرن التاسع عشر، حيث صرح: “إن إيديولوجيا العمل حيث تجادل بأن “العمل هو حياة” وتطالب بوجوب أن يؤخذ هذا بشكل جاد، وأن يُعامل كنزهة، في مجتمعه اليوتوبي الذي يحكمه المنتجون التشاركيون (مفهوم ماركس) إنما يعمل/يسقط في ايدي المشغِّلين ويقوي العلاقات الراسمالية في الإنتاج والسيطرة،  ويشرعن امتيازات  النخبة العملة[6].

 

ملاحظة في مفهوم وأخلاق التنمية

 

 سأبين أدناه ما معنى التنمية، أما هنا فأود الإشارة إلى تطاول وفلتان محلي على مفهوم التنمية، فما بالك بالممارسة. هل  تتعدد “الفلتانات” في الأرض المحتلة، لأنها محتلة، رغم وجوب العكس. هنا تزعم سلطة الحكم الذاتي أنها دولة، وهذا الزعم يسمح لها بأكثر حيث تزعم أنها تقوم بالتنمية وتضع سياسات تنموية. فلا بد من زعم أنها دولة إذن. ولكن سياساتها الاقتصادية أقل من التحديث ولا تُطاول النمو، وسياساتها السياسية تطبيعٌ. ويلحق بالسلطة لفيف من الكتاب، بتعدد قاماتهم، متورِّطين ومورطين القارىء في تيهٍ وطني تحت غطاء الفكر، فيسمون المحتل 1967 بأنه فلسطين، ومجلس الحكم الذاتي بأنه تشريعي، والانتخابات في ظل أوسلو بأنها “الأكثر شفافية في العالم”، نعم هي شفافة جدا لأنها بلا جوهر وتكشف عن العورة تماماً.  وهذا تطبيع بوعي ينتهي إلى جر المواطن للاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي، وإلا ما الذي يرغمهم على هذا الاستخدام!. يزعم هذا اللفيف أنه يكتب في التنمية دون أن نلمس وراء كتاباتهم ماذا يريدون، فهم ينقدون اقتصادات السلطة ويعملون تحت ظلال أوسلو، وينقدون المموِّلين الأجانب باعتبار أموالهم مسمومة ويصطفّون في نهاية الشهر على أبوابهم، فلماذا لا يتبسم الأجنبي شماتة واعتداداً بالنفس، وهناك من يرتكز على ماضٍ يساري دون أن ترى في كتابته ملامح رؤية “تنموية”، ينقد اللبرالية الجديدة ولا يطرح بديلا، ولو اقتصاداً مختلطاً، تأشيرياً…إلخ؛  فما بالك لو قلت له، ماذا عن فكر اشتراكي؟ بالعلاقة مع الأجنبي/ية غدا مهذَّباً وطيباً، يرى في الطبقة لغة متخشبة وفي القومية شوفينية وفي الاشتراكية طوبى، ويرى في الحركة العمالية انتظاماً لينينياً عتيقاً، وفي الحركة الطلابية صبيانية يسارية وفي خطاب الشيوعية شيئاً عتيقاً ويصر على أنه يسار!. هذه العِدَّة لازمة لها/ه كي يعرف كيف يتحدث وهو يقبض الشيك من الأجنبي، أو يوقع على منحة دراسية جوهرها عمل إخباري. هناك كتابات في “التنمية” يُزعم أنها ميدانية/إمبريقية عن قرية دون ذكر اسمها! ربما هذا من أصول العمل السري تحت الاحتلال! وبأسماء دون ذكر المكان وكأنها كُتبت على الطاولة، وهذا امتدادٌ لدراسات الجدوى في الأرض المحتلة في الثمانينيات. في هذه الكتابات يختلط نمط الإنتاج بشكل الإنتاج، وتحل الكتابة الصحفية السردية، في شكل رومانسي يسرده نصف مستشرق، محلَّ الفكر التنموي، ويحلُّ المحتل 1967 محلَّ فلسطين، ويختمون بضرورة إعادة “توحيد شطري الوطن”. فالوطن هو جغرافيا الضفة والقطاع حسب أوسلو، والفلسطينيون هم من يعيشون فيها حينما جرى توقيع أوسلو، بل حينما تمّ الإيقاع بالقضية. ربما إحدى أخطر مسببات هذا وغيره هو تواطؤ النقد الفكري مع الواقع النقودي!

لا يكفي في الأرض المحتلة أن تنقد السياسة الاقتصادية لسلطة الحكم الذاتي حتى تكون كتابتك تنموية. فلا بد للكتابة التنموية من أسس فكرية جوهرها اشتراكي، ومن أسس جغرافية جوهرها السيادة، ومن أسس وطنية جوهرها أن فلسطين هي كل فلسطين التاريخية وليست الضفة والقطاع، ومن أسس أخلاقية تؤكد أن الديمقراطية لا معنى لها تحت الاحتلال، ومن أسس دينية تؤكد أن الوطن وُجد قبل الدين وأن تحرير الوطن أسبق من تطبيق الشريعة.

 

التنمية والاقتصاد السياسي

 

لم تعد التعريفات السابقة للاقتصاد السياسي كافية للإحاطة بتطورات العصر المتسارعة والمعقدة. ولم تعد معاني الاقتصاد السياسي مقصورة على نطاق اقتصاد البقاء أو النمو ودراسة توزيع الموارد والتحكم في مجموع النشاط الاقتصادي أو سياسة توزيع وتراكم الفائض. ولم يعد تعريف الاقتصاد السياسي كنظرية للمجتمع المدني كما رآها آدم سميث بمعزل عن المجتمع السياسي كافياً.

قد تكون المقاربة الأفضل لهذه المسألة كامنة في دخول الاجتماعي على الاقتصادي السياسي، أي قراءة الاقتصاد في علاقته بالسياسة وتأثيره وتأثره بالواقع الاجتماعي عبر المسألة الأكثر حضورا في هذا العصر، أي التنمية. وعليه، يصبح الاقتصاد الساسي معنياً أكثر بموضوعة التنمية ومصالح وصراع الطبقات. ومن هنا لم يعد ممكنا لنا أن نقرأ التنمية خارج نطاق الاقتصاد وخارج قراءة ونقد نطاق السياسة الاقتصادية للدولة. فالاقتصاد كي يكون يتطلب المجتمع والمجتمع يتطلب التنمية والتنمية تتطلب سياسات اقتصادية. وتطبيق أية استراتيجية تنموية لا يتم خارج الاقتصاد. هذا ما أوجب قراءة التنمية بأدوات الاقتصاد السياسي. وهو ما ينطبق على التعاون بالطبع.

إذا كان للاقتصاد، والاقتصاد السياسي، ذلك التداخل المفروض والضروري لقراءة التنمية، فلا بد أن يعني هذا تداخلاً بين مكوناتهما، المكونات الأساسية على الأقل. إن أساس الإقتصاد هو العمل محوَّلاً إلى إنتاج وكل ذلك بدافع الضرورة، ضروة حفاظ النوع الإنساني على وجوده واستمراره وتطوره ورفاهه وبالطبع ترافق مع هذا العمل الإنساني التعاوني بغض النظر عن كونه في مرحلة ما بسيطاً أو في أخرى متفدماً. هذه القاعدة الأساسية من أكثر التجمعات البشرية بدائية وصولا إلى اليوم وبعده. أما التنمية هنا، وهي علم حديث، فتعطي الاقتصاد بجوهره الإنتاجي بعده الاجتماعي بالضرورة متجاوزة محدودية الاقتصاد في نطاق السياسات الاقتصادية المجردة ناهيك عن السياسة الاقتصادية في خدمة طبقة ما أي الطبقة الحاكمة/المالكة.

 لا يكفي في الأرض المحتلة أن تنقد السياسة الاقتصادية لسلطة الحكم الذاتي حتى تكون كتابتك تنموية. فلا بد للكتابة التنموية من أسس فكرية تدفع باتجاه تعاون بنهج تنموي جوهره اشتراكي، ومن أسس جغرافية جوهرها السيادة، ومن أسس وطنية جوهرها أن فلسطين هي كل فلسطين التاريخية وليست الضفة والقطاع، ومن أسس أخلاقية تؤكد أن الديمقراطية لا معنى لها تحت الاحتلال، ومن أسس دينية تؤكد أن الوطن وُجد قبل الدين وأن تحرير الوطن أسبق من تطبيق الشريعة.

وسواء اتفق أو اختلف الناس على طبيعة علاقة التعاون والتنمية بالاقتصاد السياسي، فإن الفيصل الذي يفرض تعالقها معاً هو العمل والإنتاج. فعلى قاعدة عمل/إنتاج تقوم الحياة وتتواصل وترتقي. وهذا يقودنا إلى مكونات المعادلة الاقتصادية.

 

العمل الاجتماعي والإنتاج الاجتماعي

 

يستغرق هذا العنوان ثلاثة مكونات أساسية جميعها مكونات أساسية، بل الأساسية، في التنمية. فالعمل هو الذي خلق الإنسان. والأصل في عمل الإنسان الفرد هو اجتماعي اي تعاوني بغض النظر عن وعي الإنسان لذلك في مرحلة ما من تطور وعيه المرتكز على الواقع المادي آنذاك. ومع تقدم البشرية وسيطرة الملكية الخاصة بدأ العمل الاجتماعي في الخضوع للمضمون السلعي، للقيمة التبادلية وهنا يصبح العمل أو ينتقل من الفردي إلى الجماعي، لكن مضمونه الاجتماعي يتوارى نظراً لخضوعه لقوانين التبادل ومعه تراجع بالطبع العمل التعاوني، لكنه لم يمت. أي أنه مع التطور الاقتصادي الاجتماعي يصبح العمل جماعياً، أي باحتواء مكان العمل على عدد من العمال وهي حالة متقدمة من حيث القدرة الإنتاجية ومن حيث الإنتاج الأكثر والأفضل لعدد من العمال يعملون جماعيا بالمقارنة مع نفس العدد من العمال وفي نفس المهنة حيث يعملون فردياً. فالعمل الجماعي هو غير العمل الاجتماعي. ولا يعود العمل اجتماعياً إلا بعد دخول المجتمعات مرحلة تعاون جذري كمدخل إلى الاشتراكية. ومن هنا تعلُّق العمل الاجتماعي بالتنمية. إن العمل والعمل الاجتماعي التعاوني  هي نشاطات إنسانية أساسية يقوم بها المجتمع ومن أجل ذاته.

 

التكنولوجيا الوسيطة وكثافة التشغيل

 

بما هي مقدمة للاشتراكية، فإن التعاون والتنمية بالحماية الشعبية معنية بالشغل أو التشغيل لكل من هو في عمر العمل من المجتمع. والتنمية غالباً هي للمجتمعات الأقل تطوراً والتي لا تتوفر فيها فرص عمل تستوعب قوة العمل من الرجال والنساء. لذا، غالباً من تعتمد التنمية تكنولوجيا وسيطة ليست عالية التعقيد لكي تستوعب أكبر عدد ممكن من الناس، وليس ذلك فقط لتوفير دخل للأكثرية بل كذلك كي يساهم أكبر عدد ممكن من الناس في العملية الإنتاجية الإيداعية بعملهم الذهني والعضلي.

وليس المقصود هنا العودة إلى الأدوات البدائية ولكن المقصود هو عدم حلول الآلة محل العامل مما يقود إلى البطالة وتشويه توزيع الدخل. وبالطبع، فإن وصول المجتمع إلى تكنولوجيا أرقى يفتح حلولاً لمسألة التشغيل بمعنى تبلور آفاق لصناعات وتصنيع زراعي وزراعات جديدة ومتطورة. بيت القصيد هو أن التعاون والتنمية هي للطبقات الشعبية ويجب أن تتكيف حسب ظروف هذه الطبقات كي تنتمي الطبقات إليها وتحميها.

ودون تكريس التنمية للناس، يتم تهميش قوة العمل إنتاجياً، وبالطبع يتبع هذا تدهور مداخيلها ومستوى معيشتها وينتهي إلى تهميشها اجتماعيا وسياسيا، وهذا يعني وصول الأزمة إلى الاحتقان ومن ثم الثورة.

 

التنمية

 

مفهوم التنمية Development ومن ثم مشروع التنمية هو مفهوم جماعي على مستوى الدولة القومية سياسيا وسياديا وعلى مستوى التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية اجتماعياً وطبقياً. نحصره، في حوارنا هذا، في الدولة القومية لأن العالم ما زال مجزءاً على هذا الأساس في حين أن هذا المفهوم هو أممي من حيث فكرته وفكره ومن حيث كونه مقدمة للاشتراكية. وهو مفهوم شمولي بمعنى أن التنمية تكتنف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية وعليه فالتنمية شاملة قبل أن تكون مستدامة، ولا تصبح مستدامة إلا إذا كانت بتخطيط وشاملة أيضاً. وهذا أكثر ما يميزها عن النمو Growth. بل وهذا ما ينقض وينقد سردية السوق حيث تقوم على الفردية وتفريد كل ما هو جماعي.

فالنمو هو حصيلة مجموع نتاج مختلف العمليات الاقتصادية في مجتمع معين، تعمل كل واحدة منها بمعزل عن الأخريات حيث تعمل كل واحدة من أجل الحصول على الربح الخاص وبالتنافس مع نظيراتها وطبعا حسب حجمها وطاقتها. وهذا حسب ماركس ب فوضى الإنتاج. ويتبين مقدار النمو عبر إحصاء الناتج المحلي الإجمالي لبلد معين كمجموع عملية/ات فوضى الإنتاج. وهي عملية يعتورها الربح والخسارة والمنافسة البسيطة والقاتلة…الخ.

 

وهذا يفتح على أحد الفوارق الجوهرية بين التنمية والنمو. فالنمو هو الحاصل النهائي حسابيا/رقميا/مالياً في فترة زمنية معينة للعملية الاقتصادية، أي الإنتاجية المحلية، بما تحتويه من صراع اجتماعي في مواقع العمل بين العمل وراس المال. أي في سياق الاستغلال الطبقي الذي تمارسه الطبقة الراسمالية على الطبقات الشعبية وحتى مختلف الشرائح والطبقات الأخرى.

وهذا ينقلنا إلى فارق اساسي آخر بينهما وهو العنصر الإنساني، فالتنمية مشروع عام لخدمة الأكثرية وخاصة من يعملون وينتجون، أما النمو فهو شرعنة وحفز الاستغلال الطبقي والإشادة به وتحويل جهد الناس :

  • إلى ارقام صماء تخفي الاستغلال
  • وإلى قيمة زائدة مستلبة من المنتجين

 

إن مصطلح أو عنوان النمو هو جوهرياً تغييب للجوانب غير الإنسانية التي يقوم عليها النمو الاقتصادي. كما أن التنمية مشروع لا يجزَّأ مكانياً، بمعنى أن يشمل التخطيط والتنمية كامل الوحدة السياسية/السيادية التي تتبنى استراتيجية تنموية لتصحيح الإعوجاجات والحرمان الذي في الغالب يصيب الأطراف، وبالتالي إحداث توازن اقتصادي في البلد ككل.  وهذا يفتح على فارق كبير بين التعاون والتنمية، هو فارق في الدرجة وليس في النوع. فالتعاون تدريجي ويبدأ في مواقع متعددة وليس شرطا مترابطة منذ البداية، بينما التنمية هي أقرب إلىكونها سياسة اقتصادية إجتماعية عامة وجماعية او على الأقل تهدف تغيير النظام الاقتصادي.

والتنمية بما هي تجاوز للجغرافيا، فهي تتجاوز تقسيم النوع الاجتماعي إلى قسمين بمعنى أنها تعتبر الإنسان نوع واحد تحرره من عملية الإجحاف التاريخي في تقسيمه إلى “نوعين” وذلك في مشروع صعب وقاسٍ تاريخياً هدفه التأكيد أن الاستغلال والسيطرة اساسهما طبقي وحافزهما الملكية الخاصة واغتصاب الفائض. هذا مع التأكيد على أن التجربة التاريخية بطولها الثقيل قد أكدت أن المرأة هي المهزومة في هذا الصراع مما قاد لاعتقادات وقناعات أن الصراع هو بين الرجل والمرأة. وهذا الصراع أو التناقض بين الرجل والمرأة هو في الحقيقة أحد تجليات السبب/الأسباب الأساسية للاستغلال والسيطرة، وليس هو السبب الحقيقي أو الأول والمؤسسِّ[7].

والتنمية كذلك من القاعدة وإلى القاعدة. فبما هي من أجل الأكثرية فلا بد أن تقوم على عملية حوار متبادل قبيل التخطيط كي تكون الخطة التنموية طبقاً لحاجات الناس ورؤيتهم لما يجب أن يكون عليه حال البلد. أن الحوار المتبادل هو القاعدة الديمقراطية الشعبية للتخطيط ومن ثم التطبيق التنموي. فالحوار المتبادل وحده الذي يُشعر كل مواطن أنه يساهم في بناء المشروع التنموي وهو ما نسميه التنمية بالحماية الشعبية حيث تشتمل الحماية ضمناً على المساهمة فلا يحمي مشروعا معيناً أكثر ممن ساهموا في بنائه بالجهد الذهني والجسدي وبالزمن الشخصي وبالإمكانات مهما تواضعت. وهذه العلاقة الحوارية هي التي تخلق حب العمل ودافع بذل الجهد والنشاط وجاهزية المساهمة في التطبيق لدى المواطنين. وهنا، تتداخل التنمية بالتعاون، بمعنى أن الشروط والخطاب والتصور هو نفسه، ولكن درجة واتساع التنمية تتجاوز التعاوان الذي يطمح وصولها.

إن التنمية كمشروع إنساني ديمقراطي يقنع المواطن بالمساهمة بجهديه الذهني والعضلي، وبكفاءاته الثلاثة: الجسدية والزمنية والمالية. وتَوفُر هذه المساهمة والرغبة هو أحد اهم شروط نجاح المشروع التنموي. وبمعزل عن مختلف هذه الشروط والمناخات الإنسانية والحافزة لا يمكن للمشروع التنموي أن ينجح، بل سوف يتحول إلى إهدار للموارد العامة والكفاءات الخاصة. وحين يحصل هذا يتحول المواطن من مؤسس وحامي للحماية الشعبية إلى متبرِّم وممرور وداعية نقد سلبي وتيئيس. ومن هنا ضرورة الدقة والحرص والرقابة كي ينجح المشروع كي لا ينقلب من نعيم إلى لعنة.

 

وإضافة إلى إشراك ديمقراطي للجميع، لا بد من عدم التساهل مع الكسل واللاإبالية. فالمجتمع الذي يعبر إلى التنمية لا يأتي من مناخ مثالي قطعياً، بل من مناخ فيه اختلاطات فكرية وإيديولوجية ونفسية وثقافية ودينية وتراثية مما يضع على كاهل حاملي المشروع :

  • التعامل مع هذه الاختلاطات
  • ونقضها أو مفصلتها أو صهرها مع ولصالح مفاهيم المشروع الجديد.

وهذا يتطلب درجة من ضبط النفس والقدرة على استيعاب مختلف الخلفيات طالما النوايا حسنة، والحرص على الوقت. ولا يتمتع بهذه الصفات سوى من لديه بالطبيعة ومن ثم بالوعي جاهزية الخدمة والتطوع دون اشتراط ذلك بقيام الآخرين بما يقوم به.

إذا قسنا هذه الأسس على واقع المحتل 1967 نجد خلطاً يُقزِّم التنمية إلى التحديث، تماماً كما يقزم فلسطين إلى فلسطين “الجديدة والمخترعة حسب أوسلو أي الضفة والقطاع –ناقص!!

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.

[1]  Adriano Tilgher, Homo Faber (Chicago: Regnery, 1958), 3-10; Aristotle, The Politics

(Oxford, UK: Oxford University Press, 1958).

 

[2] A.Smith. Work as Sacrifice. (Senior’s theory of the capitalist’s sacrifice) (Proudhon’s surplus.) – A.Smith, Origion of  profit. Original accumulation. Wakefield. – Slave and free labor. – Atkinson. – profit.- Origin of profit.

[3] ed by Grainier. Vol.I, pp. 64-6.) (Notebook , p.7.)   In the sweat of thy shalt thou labour! Was Jehovah’s curse  of Adam.(Genesis iii, 19)

[4] Karl Marx, Grundrissse (London: Penguin, 1973), 611–12. Marx was here referring to the same passage from Smith quoted above.

[5] Karl Marx, Grundrissse (London: Penguin, 1973), 611–12. Marx was here referring to

the same passage from Smith quoted above.  

[6] Gorz, Paths to Paradise, 29–40, 53, 67, 117; Herbert Applebaum, The Concept of

Work (Albany, NY: State University of New York Press, 1992), 561–65…

 

[7] أنظر كتاب تأنيث المرأة بين الفهم والإلغاء، عادل سمارة، منشوررات ارواد، دمشق 2010