“كنعان” تتابع نشر كتاب “التعاونيات/الحماية الشعبية: إصلاح أم تقويض للرأسمالية”، تأليف د. عادل سمارة(الحلقة الرابعة)

الفصل الثاني

بدأ التعاون قرمطياً لا في الغرب الراسمالي

 

التعاون قرين العمل بما هما نشاط انساني. ولأنهما كذلك، فمن الطبيعي حين يكون العمل أن يكون التعاون من جهة ومن جهة ثانية من الطبيعي ان تمر مختلف الشعوب بتجربة التعاون كسمة إنسانية. هذا وإن اختلف شكل التعاون طبقا لاختلاف التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية وتحديداً أنماط الإنتاج في هذه التشكيلة أو تلك. وعليه، لا يمكن حصر مرور الإنسانية بالتعاون في شعب محدد أو حضارة محددة.

وبالطبع، حينما كان مستوى التطور في مجتمع ما بسيطاً، يكون التعاون على شاكلة ذلك المستوى. ومن هنا فإن قراءة تاريخ التعاون تقتضي عدم حصرها أو البدء بالأشكال المتقدمة التي واكبت أو نتجت في التشكية الاقتصادية الراسمالية ونقيضتها الاشتراكية.

فأساس التعاون كانت المشاعيات القديمة أو الشيوعية البدائية. ولا شك أن التعاون حينها كان العامل الأساس لبقاء الجنس البشري في تلك الظروف القاسية من حيث قساوة الطبيعة وندرة الغذاء.

وبالطبع اقترن بكل مرحلة تاريخية نمط/أنماط من التعاون طبقا لطبيعة علاقات الإنتاج الاجتماعية في نمط الإنتاج المهيمن في كل تشكيلة. إلا ان نقطة التحول الحاسمة التي هزمت التعاون وجعلته ملحقاً بالعلاقات الاجتماعية الجديدة هي الملكية الخاصة التي لم تلغي العمل ولكنها أدخلت عليه أو فرضت عليه شكلا جديدا من العلاقات الاجتماعية جعلت التعاون مثابة علاقة محصورة في مستويات غير حاسمة في المجتمعات. فلا شك ان تعاونا ما كان بين الفلاحين في التشكيلات القديمة التي تلت مرحلة المشاعية القديمة لكنها كعلاقات اجتماعية لم تكن هي الحاسمة أو المسيطرة بالمقارنة مع توسع وسيطرة الملكية الخاصة. لنقل باختصار، جرى إلحاق التعاون بالملكية الخاصة التي لم تلغيه ولكنها أبقته ملحقاً بها.

أما في المرحلة التاريخية الراسمالية حيث الملكية الخاصة في قمة هيمنتها وحيث السوق مسرح كافة التبادلات فقد اصبح التعاون ظلاً للسوق وغدت الدولة جهاز تنظيم وضبط التعاون بحيث لا يمد يده لاقتلاع الملكية الخاصة، وبالطبع أن لايموت.

أما وأنت تبحث في الشبكة العنكبوتية، وخاصة لفقر في المراجع البحثية الكافية، عن أية مسألة، يفجؤك أن كل شيء يؤرخ له من الغرب، يبدأ حين بدأ في الغرب وخاصة الأوروبي الغربي. ولا يُذكر عن المسالة إياها شيئاً إن لم يذكرها الغرب، وإن أورد ذكرها تنجو من الطمس،وليس شرطاً أن تنجو من الطعن والتلويث المحنَّك والخبيث.

يشدني إلى هذا القول كوْن العالم بأسره يعيش حرب الخطاب وحرب الإعلام وحرب قولبة كل العقول والثقافات وصبها في قاع القالب الواحدي الغربي واليوم الأمريكي. إنه قتل ومقتل التعدد الذي عاشه التاريخ البشري وأعطاه معنى وجمال التفتح فلعل من أجمل منجزات البشرية هي تفاعلاتها الثقافية حيث الخصب بالتلاقح. بينما خطاب الغرب يضع البشرية في فرَّاخة تفيض بمليارات البشر بثقافة واحدة كما تتطابق السلع من ماكينة بمساحة الكرة الأرضية.  ليكون الناس مثابة قطعان من السوق وإليه، والسوق هنا ليس سلعي وحسب بل ثقافي كذلك.

مثلاً  في الويكيبيديا”…تم إنشاء أول تعاونيات زراعية في أوروبا في القرن السابع عشر”.

  هكذا يتم التأريخ الزمني للتعاونيات حسب ويكيبيديا بما هي منتوج غربي. وهذا يعني أن التاريخ هو تاريخ أوروبا وبأن الحداثة هي محض أوروبية. لكن الحداثة هي كل حلقة من حلقات التطور الإنساني حيث وقعت أو تمَّت، وهي حقا تمت في العديد من المجتمعات البشرية وهي سابقة على الحداثة الأوروبية، وخاصة في ما بين النهرين ومصر والهند والصين…الخ.

لن نستطرد في هذه المسألة، ولكن من المفيد المحاججة ضد المركزانية الأوروبية او الغربية في مسالة التعاون اعتماداً على تراث من الوطن العربي، أقصد تجربة القرامطة. فقد تنبه  ماسينون “إلى الناحية الاجتماعية في الحركة اذ يشعر ان اسم القرامطة ” اطلق على اتحادات العرب والانباط الثوروية التي نظمت في جنوب العراق بعد حرب الزنج مستندة الى نظام  من الاشتراكية  يتدرج في الدخول فيه ، وان الدعاية الاسماعيلية وسعت انتشار الحركة بين الجماهير من فلاحين وصناع[1]” هذا التوجه هو في الحقيقة أكثر رقيا وتقدما من التعاون، بل هو هدف التعاون الذي يبتغي الوصول إليه.

وعطفاً، على ما أشرنا إليه أعلاه، فإن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية التي عاشتها، وتمردت عليها، التجربة القرمطية لم تكن لا مشاعية ولا عبودية ولا رأسمالية بالطبع، وإنما كانت أقرب إلى نمط الإنتاج الإقطاعي بخصائص مختلفة عن الإقطاع الأوروبي الذي حصل لاحقاً، أو ربما نمط الإنتاج الخراجي كما يجادل سمير امين.

“… ولما استمال الداعي حمدان قرمط سكان بعض القرى العراقية الى عقيدته فرض عليهم  عدة ضرائب وجبايات  تصاعدية. ثم فرض عليهم الألفة وهو ان يجمعوا اموالهم في موضع واحد وان  يكونوا في ذلك اسوة واحدة لا يفضل  واحد منهم صالحه واخاه في ملك يملكه . وتلا قوله تعالى ” واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم  فاصبحتم بنعمته اخوانا”  وتلا عليهم قوله تعالى: ” لو انفقت ما في الارض جميعا ما الفت بين قلوبهم ولكن الله الف بينهم إنه عزيز حكيم”. وعرفهم انه لا حاجة بهم الى اموال تكون معهم لأن الأرض باسرها ستكون لهم دون غيرهم. وقال لهم هذه محنتكم التي امتحنتم بها لنعلم كيف تعملون. وطالبهم بشراء السلاح وإعداده وذلك في سنة ست وسبعين ومئتين. وأقام  الدعاة : في كل قرية رجلا مختارا من ثقاتها يجمع عنده اموال اهل قريته من بقر وغنم وحلى ومتاع  وغيره. فكان يكسو عاريهم وينفق عليهم ما يكفيهم ولا يبقى فقيرا بينهم ولا محتاجا  ضعيفا. واخذ كل رجل منهم بالانكماش في صناعته والتكسب بجهده ليكون له الفضل في رتبته. وكانت المرأة تجمع إليه كسبها من مغزلها والصبي أجر نطارته الطير. فلم يملك أحد منهم إلا سيفه وسلاحه[2]”.

نلفت النظر فقط إلى الجملة التالية : ” وعرفهم انه لا حاجة بهم الى اموال تكون معهم لأن الأرض باسرها ستكون لهم دون غيرهم”، فهي ربما اساس لعبارة ماركس بأن العمال ليس لديهم ما يخسرونه وبان امامهم عالم كي يربحوه.

“…وكان في الأحساء اكثر من عشرين الف محارب. وكان الحاكم السابق ابو سعيد… عندما زاره ناصر خسرو. وكان له ثلاثون الف  عبد زنجي يشتغلون بالزراعة وفلاحة البساتين . وليس عندهم ضرائب ولا أعشار. واذا افتقر انسان او استدان أعانه الآخرون، ليستعيد وضعه . وليس للدائن غير راسماله . وكل غريب ينزل هذه المدينة وله صناعة ، يعطى ما يكفيه من المال ليشتري  ما يلزم صناعته  من عدد وآلات. وهناك بيوت معدة لسكنى الفقراء على حساب المجموع. وقد شاهد ناصر خسروا في الأحساء  طواحين تملكها الدولة وتدير شؤونها ، تطحن الحبوب للرعية مجانا”.

 

… وليس في مدينة الاحساء مسجد ولا صلوات ولا خطب ولا مراسيم الجمعة، بيد ان الحجاج السنيين بنوا لأنفسهم مسجدا  على حسابهم.  وكانت المعاملات التجارية تجري بواسطة نقود اصطلاحية لا يجوز إخراجها من البلد. واهل البلاد وإن كانوا لا يصلون فانهم لا يمنعون احدا من الصلاة ، وهم لا يشربون الخمر، مهما كانت الظروف. وإذا تحدث أحد السادة إلى مستمع إليه تكلم برقة وتواضع.

وفي الأحساء تؤكل لحوم الحيوانات كلها من قطط وكلاب وحمير …وغيرها ويشترط القانون أن يعرض رأس الحيوان وجلده بجانبها ليعرف المشترون ماذا يشترون”.

إن أول ما تبادر لي هو سلوط شركة مونساتو الأمريكية  التي تمكنت بدعم الإدارة الأمريكية من التهرب أو  عدم كتابة معلومة على علب الأغذية المعدلة جينياً. فأين تكرست حرية الاختيار، في الأحساء أم في شيكاغو!(انظر لاحقا).

 

وحسب الباحث أحمد جرادات، فقد ذكرت مصادر عديدة أن حمدان بن الأشعث، الملقب بقرمط، وهو الداعية الثاني للحركة المعارضة للخلافة العباسية في سواد الكوفة، التي سُمّيت باسمه، وضع نظاماً مالياً منضبطاً لحركته، فبدأ أثناء العمل السري، بجمع «الفطرة» من أتباعه، وقيمتها درهم واحد عن كل شخص، صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى. ثم طلب منهم دفع «الهجرة»، وقيمتها دينار واحد عن كل من بلغ سن الرشد، وذلك لتأسيس دار الهجرة وصيانتها؛ وكان القادرون يدفعونها عن غير القادرين. ثم ما لبث أن طلب منهم دفع «البلغة»، وقيمتها سبعة دنانير؛ والبلغة معناها كمية الغذاء الضرورية لاستمرار الحياة. وبعد ذلك طلب منهم «الخُمس»، أي خمس ما يملكون ويكسبون. ولما لمس حماستهم وقناعتهم التامة، انتهى بهم إلى نظام «الأُلفة». والألفة تعني «أن يجمعوا أموالهم في موضع واحد، وأن يكونوا فيها أسوة واحدة ولا يفضُل أحد منهم صاحبه أو أخاه في ملك يملكه، حتى إنه لم يبق في ملكية الفرد في الحركة إلا ثيابه وسلاحه». …وأما في ما يتعلق بالملكية فيصف المقريزي مجتمعهم على هذا النحو: «حتى إن الشاة إذ ذُبحت، يتسلم العرفاء اللحم ليفرقوه على من يُرسل لهم، ويُجزُّ الصوف والشعر من الغنم ويُفرَّق على من يغزله، ثم يُدفع إلى من ينسجه عُبياً وأكسية وغرائر، ويُفتل منه حبال ويُسلَّم الجلد إلى الدباغ، ثم إلى خرازي القرب والروايا والمزاد. وما كان من الجلد ما يصلح نعالاً وخفاً عُمل منه. ثم يُجمع بعد ذلك كله إلى خزائن».
ويذكر الرحالة ناصر خسرو الذي زار دولتهم في عام 442 للهجرة أنهم «لا يأخذون عشوراً من الرعية، وإذا افتقر إنسان أو استدان، فإنهم يتعهدونه حتى يتيسر عمله، وإذا كان لأحدهم دين على آخر لا يطالبه بأكثر من رأس المال حتى يشتري ما يلزم صناعته من عدة وآلات ويردَّ إلى الحكام ما أخذ متى يشاء … وفي الحسا مطاحن مملوكة للسلطان تطحن الحبوب للرعية مجاناً، ويدفع السلطان نفقات إصلاحها وأجور الطحانين …»

قصدنا من تقديم هذا الشرح المكثف جدا عن التجربة القرمطية تبيان بان هذه التجربة سواء اسميناها تعاونية أو اشتراكية، هي الحلقة الوسطى في التاريخ بين الشيوعية البدائية وبين الاشتراكية بمفهومها وتجربتها الإنسانية الحالية منذ بداية القرن العشرين.لن نتناول هنا الأشكال الشعبية البسيطة والعفوية للتعاون في المجتمعات الزراعية اي بين الفلاحين رغم أنها تشكل أساساً أولياً للتعاونيات المنظمة والتي تُبنى من أجل مستويين أو هدفين:·      الأول: كي تستمر كمواقع عمل وإنتاج على اساس تعاوني·     والثاني: التعاونيات كنقيض للنظام الراسمالي. التعاونيات في المرحلة الراسمالية معظم المعلومات الواردة في هذا الباب مستقاة بأكبر درجة من التنقية، من ويكيبيديا. اي ليست مثار قناعة، ولذااعتمدنا منها الوقائع وليس الراي والموقف والتحليل.  طبقاً للمصادر أوروبية: “تم إنشاء أول تعاونيات زراعية في أوروبا في القرن السابع عشر في الحدود العسكرية، حيث تعيش زوجات وأطفال حرس الحدود معا في تعاونيات زراعية منظمة بالقرب من الساحة وحمام عام”. وهذا يعني أن تلك التعاونيات نتاج ظرف خاص، وليست نتاج ثقافة تعاونية، وبالطبع الأمرين مختلفين. “وقد أنشئت أول تعاونيات زراعية مدنية أيضا في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وانتشرت في وقت لاحق إلى أمريكا الشمالية والقارات الأخرى. وقد أصبحت إحدى أدوات التنمية الزراعية في البلدان الناشئة. وتعاون المزارعون أيضا لتشكيل جمعيات للتأمين الزراعي المتبادل” وهذا طبعا ضمن سياق التطور الراسمالي أي لحماية المزارعين لأنفسهم، ولكن ضمن التساوق مع النظام الراسمالي وليست بهدف الخروج عليه وتغييره مما أبقى هذه الأنماط في نطاق إصلاحي. “لذا، كان التطور الطبيعي لهذا التوجه، اي كونه ضمن النظام الراسمالي، أنه تطور لاتحادات ائتمانية ريفية والتي  تم إنشاؤها في نفس الفترات، مع الغرض الأولي من تقديم القروض الزراعية للتخفيف عن المزارعين إلى أن تحول البعض إلى بنوك عالمية مثل كريدي أجريكول أو رابوبنك”. تتمتع نيوزيلندا بتاريخ قوي من التعاونيات الزراعية، يعود تاريخها إلى أواخر القرن التاسع عشر. كان أولها شبه جزيرة أوتاغو شبه التعاونية مصنع الجبن المحدودة، التي بدأت في عام 1871 في هايكليف على شبه جزيرة اوتاغو. [6] [7] وبدعم نشط من حكومة نيوزيلندا، وتعاونيات صغيرة ملائمة في المناطق المعزولة، بدأت التعاونيات تهيمن بسرعة على هذه الصناعة. وبحلول عام 1905، كانت تعاونيات الألبان هي الهيكل التنظيمي الرئيسي في هذه الصناعة. في 1920، كان هناك حوالي 500 شركة للألبان التعاونية مقارنة بأقل من 70 التي كانت مملوكة للقطاع الخاص”. تجدر الإشارة إلى أن  نيوزيلندا هي إحدى المستوطنات الاستعمارية الراسمالية البيضاء. وبالطبع فإن المصادر الغربية تتجاهل الاستيطان الأبيض المتوحش وتتحدث عن هذه المستوطنات كما لو كانت بلدانا عادية أو شعوبا على أرضها. لذا ورد في ويكيبيدا: “…ومن الأمثلة على تعاونيات الإنتاج الزراعي المزارع الجماعية في البلدان الاشتراكية السابقة، والكيبوتزيم في إسرائيل، والزراعة المشتركة مجتمعة في المجتمعات المحلية، والتعاونيات لونغو ماي، [2] (“لونغو مي، كوستاريكا”)، التي استرجعت في 27 كانون الأول / ديسمبر 2011. )”نلاحظ طبعاً، الخطاب الراسمالي المضلِّلْ لدى ويكيبيديا حيث تُقرِن الكيبوتصات الصهيونية وهي تغتصب الأرض الفلسطينية من جهة ومرتبطة تماما بالسوق الراسمالي من جهة ثانية، تضعها في مصاف التعاونيات في البلدان الاشتراكية السابقة حيث السوق أقل دوراً ومحكوم باقتصاد الخطة. ولا شك أن هذا التشبيه مشوب بالطبع بتاثير صهيوني. 

انواع التعاونيات

 

الأساس في الفكر ومن ثم العمل التعاوني وخاصة في حقبة سيطرة نمط الإنتاج الراسمالي، سواء في فترات الأزمة أو الازدهار، هو الدفاع الذاتي أو مقاومة بشكل أو آخر. ففي فترة الأزمة يغدو الفقراء في وضعية العمل من أجل الحفاظ الصحي والبيولوجي على أنفسهم واسرهم، وفي فترة الازدهار يكون حافزهم صد الاستغلال والاغتراب وتجاوزه، وهذا منوط إلى حد عالٍ بالوعي السياسي الطبقي وتخطي إيديولوجيا السوق التي يجري إغراقهم فيها منهجياً بحيث يُحال دون أي وعي نقدي.

لذا، فإن المدخل الأهم في قراءة أنواع التعاونيات هو علاقتها و/أو موقفها/موقعها من نمط الإنتاج المهيمن والسوق طبعاً ، أكثر مما هو في طبيعة البناء الإداري داخل التعاونية وعلاقتها بالسوق وترقيع تلك العلاقة او تحسينها.  بمعنى أن المناخ السياسي الاقتصادي بل العلاقات الاجتماعية ومن ثم السياسية الطبقية هي الأمر الحاسم في طبيعة وجذرية التعاونية.

حتى لو كان جوهر الفكرة واحداً، فإن آليات العمل مختلفة او على الأقل متفاوتة.

لذا، يمكننا تقسيم مناخ ولادة التعاونيات في مرحلة هيمنة نمط الإنتاج الراسمالي، أو ما يسمى عادة النظام العالمي في تطوراته من الرأسمالية التجارية، فالرأسمالية في طور التمدد الاستعماري المتولد عن التطور الصناعي أو الثورة الصناعية، وصولا إلى الراسمالية في مرحلة أو طور الإمبريالية إلى ما نحن فيه طور الرأسمالية الاحتكارية المعولمة، إلى المناخات التالية:

 

مناخ رأسمالي:وفيه يكون التناقض شكليا بين الحركة التعاونية والسوق بمعنى أنها ليست ضد النظام الراسمالي ولكنها تحاول تحسين أوضاعها ضمن بنيته لا من أجل الخروج عليه ونفيه. أي هي حالة إصلاح للنظام.

 

مناخ استعمار كلاسيكي: في هذه الحالة، يمكن أن تكون التعاونيات ضد النظام الاستعماري ضد التبعية لنمط الإنتاج المسيطر والنهبوي، لكن ليس شرطاً أن تكون التعاونيات نفسها جذرية اي باتجاه اشتراكي. لذا، يمكن ان تندرج ضمن مقاومة قومية وربما طبقية أيضاً. هي مقاومة دفاعا عن وجود قومي، وفي هذه الحالة يمكن أن تتخذ شكل حرب موقع بالمفهوم الغرامشي ولا سيما في البلدان التي تنهج المقاومة فيها نهج حرب الغوار حيث تتم إقامة تعاونيات في المناطق المحررة لتوفير الغذاء للسكان وللغواريين، ويمكن أن تكون مقدمة لبنية اشتراكية، وهنا نجد التعاونيات الزراعية اساسية في حرب الغوار.

 

مناخ استعمار استيطانيأي مقاومة في تناقض تناحري: في حالة الاستعمار الاستيطاني تكون التعاونيات جزءأ من حركة مقاومة تهدف إلحاق الهزيمة الاقتلاع المضاد للمستعمِر. وإذا كان الاستعمار الكلاسيكي يغض الطرف عن التعاونيات، فإن الاستعمار الاستيطاني يستهدفها بالاقتلاع بما هي اسسٌ لاقتصاد نقيض بديل ومصدر لتقوية المقاومة. وهذا هو حال المناطق المحتلة حيث قام العدو في عديد الحالات بتدمير تعاونيات  ضمن خطته الاقتصادية المتمثلة في تقويض البنية الإنتاجية للمجتمع الفلسطيني[3].

 مناخ اشتراكي: في التشكيلات الاشتراكية، تتخذ التعاونيات منحىً آخر فهي غالباً، ليست خارج نطاق السياسة التنموية للدولة، وبالتالي لا تواجه مشكلة التناقض مع نمط الإنتاج المهيمن مما يجعل مهمتها أكثر سهولة ويسمح للتطور الفني والإداري والإيديولوجي بأن يكون طابعها العام. في هذه التشكيلات يكون السؤال من شقين:

الأول: آليات مواجهة الثورة المضادة أو ما أسماه ماو تسي تونغ: طرائقيوا الراسمالية،Capitalist Roaders

والثاني: حول مدى نجاح التكامل القطاعي في الاقتصاد أو تمفصل القطاعات. كما أن المستوى الثقافي والوعيوي هام جدا في هذه التشكيلات. (انظر لاحقاً تجربة كوبا)

لكن إحدى الإشكالات فيما يخص التعاونيات، في اية تشكيلة وبغض النظر عن نمط الإنتاج المهيمن هي، هل تنحصر التعاونيات في الزراعة؟ بما هي حسب الفيزيوقراط/الطبيعيون [4]هي قطاع الإنتاج الوحيد،  أم من الممكن تعميمها وتبنيها في الصناعة ايضاً وطبعا الخدمات.

يمكن القول هنا أن الوضع الطبيعي هو توسيع النشاط التعاوني ليشمل مختلف القطاعات الاقتصادية وصولا إلى الاشتراكية. وهذا منوط  إلى حد كبير بمسألة: هل العمل التعاوني هو حركة تعاونية في البلد عموماً، أم هو بؤر تقوم بها مجموعات في مواقع معينة طبقا لظرفها بمعزل عن بقية المجتمع. أي هل التعاون موقعي ، موضعي أم له هدف شامل. وهنا لا بد أن يكون للمسألة الفكرية الثقافية الطبقية دورها الحاسم. وبالطبع بهدف الوصول إلى موديل التنمية بالحماية الشعبية.

 ودون الدخول في تفاصيل، فإن اعتماد الأسس العامة للتعاون، يؤكد بان الهدف والضرورة الحقيقية للتعاون عموما هو تغطية كافة القطاعات الاقتصادية لتصبح التشكيلة  الاجتماعية نفسها على مدخل أو حافة الإشتراكية وهو ما اسميه “التنمية بالحماية الشعبية”. ومن أهم هذه الأسس:

  • تتكون التعاونيات من المنتجين التشاركيين، وهنا المقصود على مستوى المجتمع ككل وليس على مستوى بؤر أو جزر منعزلة عن بعضها التي إذا انعزلت كمواقع، فإن ما يجمعها هدف وفكرة واحدة..
  • وفي التعاونيات، فالعاملين يملكون ويديرون التعاونيات بانفسهم
  • وفي التعاونيات يتم التوجه لتقوية المجتمع المدني، والديمقراطية التشاركية، واللامركزية والتنمية البشرية، ولكن ضمن منظومة عامة، وليس بتفكك قطاعي، أو تفكك في القطاع الواحد.
  • من قيم التعاونيات انها بنية التعاضد الذاتي والمسؤولية الجماعية وحتى الاجتماعية
  • إنها تضع مبادىء للتعاون ك خطوط عريضة ودلالات تضع قيمها موضع التطبيق.
  • انها مفتوحة باب التطوع للعضوية، الاستقلال الذاتي، ديمقراطية اتخاذ القرار
  • مشاركة في راس المال بالمساهمة وبالجهد بالعمل  /، تعليم،تعاون بين التعاونيات، واهتمام بالكميونتي
  • هذا ضمن ابتعادها عن رفض النظام الراسمالي ومن ثم تجاوزه

في المستويين الإداري والأدائي

بما ان التعاونيات هي في الأصل من أجل الزراعة، فهي في مستواها العادي أي في البلد الراسمالي تقدم خدمات لأدائها العملي والإداري، وتسويقاً للمنتجات. وهي تعتمد بشكل كبير على مصادر تمويل تعاوني سواء من اجل راس المال التشغيلي أو الاستثمار. وتبذل جهدا كبيرا لتعظيم الفوائد التي تجنيها  لأعضائها. 

في سياق السوق المعولمة، تواجه التعاونيات الزراعية والريفية تحديات تتمثل في الإضطرار لإعادة هيكلة مؤسساتية إضافة إلى تحدي التطور السريع للتكنووجيا، والتركز السريع لصناعة الأغذية الزراعية. وليست على العكس من المنظمات التعاونية الأخرى،فإن التعاونيات الزراعية والريفية تفشل احيانا  كتعاونيات، بحيث لا تعتق (لا تعطي حق الاقتراع) لأعضائها ومع انهم قد يستمرون باتجاه اعمال ناجحة. فمصالح الأعضاء ربما يزداد عدم تجانسها، مما يجعل الحوكمة صعبة اكثر. وفي نفس الوقت، هناك شواهد على ان التعاونيات نادرا ما تكون مقودة فردياً.مما يشير الى حاجة اكبر للتماسك بين مصالح الأعضاء والإدارة.

وفي مجال الزراعة، توجد على نطاق واسع ثلاثة أنواع من التعاونيات: مجمع آلات، وتعاونية في مجال التصنيع / التسويق، واتحاد ائتماني.• تجمع الآلات: قد تکون المزرعة الأسریة صغیرة للغایة لتبرير شراء الآلات الزراعیة الباهظة الثمن، والتي یمکن استخدامھا بشکل غیر منتظم فقط، کما یقول فقط أثناء الحصاد؛ بدلا من ذلك يمكن للمزارعين المحليين أن يجتمعوا معا لتشكيل مجموعة لشراء  الآلات التي تشتري المعدات اللازمة لجميع الأعضاء لاستخدامها[5].• تعاونية التصنيع / التسويق: لكي  توفر للمزرعة دائما وسائل النقل اللازمة لتوصيل منتجاتها إلى السوق، وإلا فإن حجم إنتاجها الصغير قد يضعها في موقف تفاوضي غير مؤات فيما يتعلق بالوسطاء وتجار الجملة. لذا، يجب أن تعمل  التعاونيات بشكل  متكامل بحيث تجمع المخرجات من الأعضاء، وفي حالات التصنيع تقوم بالتصنيع، وتعمل على تسليم المخرجات يسلمها بكميات مجمعة كبيرة من خلال قنوات التسويق.• الاتحاد الائتماني: يمكن للمزارعين، ولا سيما في البلدان النامية، أن يتحملوا أسعار فائدة مرتفعة نسبيا من قبل المصارف التجارية، أو حتى غير متاحة للمزارعين للوصول إليها. عند تقديم القروض، غالبا ما تدرك هذه البنوك ارتفاع تكاليف المعاملات على القروض الصغيرة، أو قد يتم رفض الائتمان تماما بسبب عدم وجود ضمانات – شيء حاد جدا في البلدان النامية. ومن أجل توفير مصدر للائتمان، يمكن للمزارعين جمع الأموال التي يمكن إقراضها للأعضاء. وبدلا من ذلك، يمكن للاتحاد الائتماني أن يرفع القروض بمعدلات أفضل من المصارف التجارية بسبب وجود تعاونية أكبر من مزارع بمفرده. وكثيرا ما يوفر أعضاء الاتحاد الائتماني ضمانات متبادلة أو ضغوطا من الأقران لسداد القروض. وفي بعض الحالات، قد تكون لدى تعاونيات التصنيع / التسويق اتحادات ائتمانية كجزء من أعمالها الأوسع نطاقا. ويتيح هذا النهج للمزارعين الحصول بشكل مباشر على المدخلات الزراعية الهامة مثل البذور والأدوات. وتسدد قروض هذه المدخلات عندما يرسل المزارع المنتجات إلى التعاونيات في مجال التصنيع

المعنى الافتراضي للتعاونيات الزراعية في اللغة الإنجليزية هو عادة تعاونية الخدمات الزراعية، وهو الشكل المهيمن عدديا في العالم. وهناك نوعان أساسيان من تعاونيات الخدمات الزراعية، ويزودان التعاونيات التعاونية والتسويقية. وتقدم تعاونيات الإمدادات لأعضائها مدخلات للإنتاج الزراعي، بما في ذلك البذور والأسمدة والوقود وخدمات الآلات. ويقوم المزارعون بتأسيس التعاونيات التسويقية للقيام بعمليات نقل وتعبئة وتوزيع وتسويق المنتجات الزراعية (المحصول والثروة الحيوانية). ويعتمد المزارعون أيضا على نطاق واسع على التعاونيات الائتمانية كمصدر للتمويل لكل من رأس المال العامل والاستثمارات.

تعرف التعاونية الزراعية أيضا باسم جمعية المزارعين، حيث يجمع المزارعون مواردهم في بعض مجالات النشاط. ويميز التصنيف الواسع للتعاونيات بين التعاونيات الزراعية وبين تعاونيات الخدمات الزراعية التي تقدم خدمات مختلفة لأعضائها الزراعيين بشكل فردي، وتعاونيات الإنتاج الزراعي، حيث تجمع موارد الإنتاج (الأراضي والآلات) ويقوم الأعضاء بالعمل الزراعي معا.

________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.

 

[1]أنظر برنارد لويس، أصول افسماعيلية:بحث تاريخي في نشأة الخلافة الفاطمية. تقديم عبد العزيز الدوري، نقله إلى العربية خليل أحمد جلو و جاسم الرجب. منشورات المثنى- بغداد ص 23.

[2]نفس المصدر، ص ص 201-202

[3]See Adel Samara, Women vs Capital in the Social Formation in Palestine, 1996.

 

[4] إعتقدالفيزيوقراطيونأنالأرضالزراعيةهيالمصدرالوحيد للثروة. وظنوا أن الزراعة وحدها هي التي تزيد فيها قيمة المنتجات عن قيمة المواد المستخدمة لإنتاجها. وقد اعتبر الفيزيوقراطيون الصناعة والتجارة مهنتين ضروريتين، ولكنهما لايزيدان الثروة بنفس الطريقة التي تزيدها بها مهنة كالزراعة. وكانوا يشعرون أن الحِرفة والتجارة لم تُغيرا إلا شكل الثروة وموقعها. وعارض الفيزيوقراطيون النظام التجاري للتعريفات السعرية والقيود التجارية.

 

 

[5]أنظر كتابإقتصاديات الجوع في الضفة والقطاع، 1979 عادل سمارة