نَشرت صحيفة “لوباريزيان” الفرنسية بعض التّوضيحات عن مُنفّذ العمليات الإرهابية التي استهدفت مُصَلِّين في مساجد “كرايستشيرش” في نيوزيلندا، وخلّفت عشرات الضّحايا الذين وقَع اغتيالُهُم، باسم “تَفَوّق العرق الأبيض”، وهو ما نَفَّذَهُ الأوروبّيون في أمريكا، منذ القرن السابع عشر، ضد الشّعوب الأصلية، صاحبة الأرض والبلاد، ولا تزال الولايات المتحدة (وحلف شمال الأطلسي) تُخَطِّطُ وتنفذ هذا البرنامج، بغرض الهيمنة على الثروات وعلى المواقع الإستراتيجية، على صعيد عالمي، بأساليب أخرى، عبر القصف عن بُعْد، وعبر الطائرات الآلية…
نشر الإرهابي الأسترالي (أستراليا مستوطنة بيض أوروبيين قتلوا أفراد الشعب الأصْلي واستوطنوا البلاد) بيانًا، على الشبكات “الإجتماعية”، قبل تنفيذ جريمته، ويُبرِّرُ من خلاله الهجوم المُسلّح على المُسْلمين في المساجد، بالقول: “إن كثرة عدد الغُزاة الأجانب في فرنسا، وهزيمة مارين لوبان ضد إيمانويل ماكرون، كانا عامِلَيْن مُحَفِّزَيْن لأنتقل من التفكير في مصير الرجل الأبيض، إلى عمل شيء ما من أجل إنقاذ حضارتنا الأوروبية البَيْضاء…”، ويُستشف من البيان العُنصري، الذي نشره الإرهابي، تَشَبُّعَهُ بالفلسفة العُنْصُرية، رغم أُصُوله الطبقية، فهو يُعرّف نفسه كرجل “أسترالي، أبيض من الطبقة العاملة، من أصحاب الدخل المنخفض، عمره 28 سنة، “، وَوَرَد بيانه (مانيفستو) في 74 صفحة، بعنوان: ” البديل العظيم “، وهو مُسْتَوْحى من الأدبيات الأكثر فاشية في أوروبا وأمريكا، ويُؤَكِّدُ تبنِّيه وإيمانه ب”نظرية المؤامرة على الهوية البيضاء في العالم”، وهي نظرية يمينية متطرفة، بدأت منذ القرن التاسع عشر، وتغيرت أشكالها، مع مرور الزمن، ومع تطور الرأسمالية، في مرحلة الإمبريالية، إلى حَقَبَة “العولمة الليبرالية”، وراجَعَ هذه النّظَرِية، وأعاد صياغتها، بما يتماشى والعصر، الكاتب الفرنسي “رينو كامو”، ونشر سنة 2011، كتابًا ومقالات، عن خطر “انقراض الشعوب الأوروبية”، واستبدالها بسُكّان مهاجرين، من غيْر البِيض، وهو يعتبر أن لا ثقافة ولا تاريخ ولا تُراث، خارج أوروبا وتفرعاتها (أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا…)، وإن شعارات “معاداة الإمبريالية” و”حق الشعوب في تقرير مصيرها” وغيرها، كانت سببًا في تخريب المجتمعات الأوروبية البيضاء…
هكذا بَرّر إرهابي مساجد نيوزيلندا عمله الإجرامي، بعد التفكير مَلِيًّا، فهو ليس عملاً ارتجاليا أو “ردّة فعل”، بل عمل مُخَطّط ومدروس، منذ قرابة سنتَيْن، وفق ما ورَدَ في بيانه الذي حمل عنوانًا فَرْعِيًّا: “لِنَسْتَمِرّ في السير نحو مجتمع جديد” (خال من غير الأوروبيين)، ويُطالب في وثيقته، من السطور الأولى، الرجل الغربيين البيض، برفع معدل الخصوبة، وإنجاب أكبر قدر ممكن من الأطفال البيض، لكي تنْجُو أوروبا من الإنقراض، عبر “الاستبدال الثقافي والعرقي الكامل للشعب الأوروبي”، لأنه يعتبر “الهجرة الجماعية المُتواصلة، بمثابة الغزو، الذي يُنْتِجُ عملية إبادة جماعية للعرق الأبيض”، ويُعْلن الإرهابي، بكل وُضُوح، وبشكل غير قابل للتّأويل، إنه “عُنصري وفاشِي، ويتفق عمومًا مع أفكار أوزوالد موسلي”، مؤسس اتحاد الفاشيين البريطاني، سنة 1932…
أما عن التّخطيط المُسبق لهذا العمل الإجرامي، فكَتب الإرهابي إنه قرّر منذ نيسان/ابريل سنة 2017، تنفيذ “هجوم عنيف” يستهدف “الغُزاة” (أي المهاجرين أو غير الأوروبيين البيض)، واتخذ القرار، بعد سَفرِهِ كسائح إلى أوروبا الغربية، وتجواله في فرنسا وإسبانيا والبرتغال وأماكن أخرى (ذكر في التقديم إنه من ذوي الدّخل المُنخفض؟)، وكان موجود في أوروبا في نيسان/أبريل 2017، خلال استخدام إرهابي (قدّمه الإعلام على إنه “إسلامي”) شاحنة لتنفيذ عمل إجرامي، أودى بحياة خمسة أشخاص أبرياء، بينهم فتاة تبلغ من العمر 11 عامًا، ويقول الإراهبي الأرسترالي، إن ذلك العمل الإرهابي حَفَّزَهُ للتخطيط لعملية تستهدف قَتْل أكبر عدد ممكن من “الغزاة المُسلمين”، وتزامن هذا الحدث مع الحملة الإنتخابية الرئاسية في فرنسا، حيث حاز اليمين المتطرف على عدد قياسي مُرْتَفِع من أصوات النّاخبين، وترشحت ممثلته إلى الدور الثاني، ليفوز إيمانويل ماكرون (ممثل كبار الأثرياء ورأس المال المالي)، ضد مارين لوبان، في أيّار 2017، ويعتبر الإرهابي الأسترالي، إن ممثلة اليمين المتطرف (مارين لوبان) كانت جديرة بالفوز، لكن فرنسا بلد واقع تحت الغزو، بحسب رأيه، نظرًا لكثرة السكان “غير البيض”، ويعتقد إنهم تآمروا على “مارين لوبان”، لينتخبوا “مصرفيًّا، من دوائر العولمة، الداعية للكسموبوليتية وللميُوعة الثقافية، مما يجعل هذا الرئيس معادٍ للبيض، في نهاية الأمر”، وكتب إن هزيمة لوبان جعلته يفقد “الأمل في إمكانية التّغيير الحقيقي، عبر الديمقراطية والإنتخابات”، فكانت هذه الهزيمة “القطرة التي أفاضت الكأس”، لأن فرنسا تُمثل (في نَظَرِه) بلدًا واقعًا تحت الغزو الأجنبي الإسلامي، وأعلن أنه يرى في كل مدينة فرنسية “طوفانًا من هؤلاء الغزاة في الشوارع ومراكز التسوق، وفي كل مكان”، لذلك، غادر فرنسا “هذا الجحيم اللعين”، غاضبًا…
كتب الإرهابي في بيانه إنه استهدف السكان المسلمين بشكل رئيسي بسبب “معدلات الخصوبة العالية لديهم”، في أوروبا، وإذا كانوا يريدون كثيرًا من الأبناء، فليبقوا في أراضيهم، وفقًا لتقاليدهم…”، وتُشكل هذه الفكرة جوهر العُنصرية، والميز، فالغزاة الأوروبيون احتلوا ولا زالوا يحتلون، بقوة السلاح، مناطق كثيرة من العالم، فأمريكا لها مُستعمرات في المحيط الهادئ، وبحر الكاريبي، وكذلك فرنسا وبريطانيا، ويُمجد الإرهابي الأسترالي العديد من مرتكبي الجرائم العنصرية، من بينهم الإرهابي الصهيوني “غولدشتاين”، منفذ عملية إرهابية أودت بحياة ما لا يقل عن 25 فلسطيني وجرح أكثر من مائة، في الحرم الإبراهيمي (الخليل) سنة 1994، والإرهابي النرويجي “أندرس بريفيك”، الذي قتل 77 شخصًا في تموز/يوليو 2011 ، من شّبان يُشاركون في تجمع لحزب العمال في جزيرة “أوتويا”، وهؤلاء ليسوا “مسلمين”، ولكن الإرهابيّيْن يعتبرانهم من “اليسار”، وأصدقاء الغزاة، من غير الأوروبيين البيض، وكتَبَ إنهما كانا على اتصال…
خلاصة:
يخْتَزل بيان هذا الإرهابي، الفكر الإستعماري، الذي بَرّر تفوق “الحضارة الأوروبية”، مما استوجب شن الحروب العدوانية، باسم صراع الحضارات، والدّفاع عن مصالح الشركات متعددة الجنسية، و”شرعية” نهبها لثروات العالم…
تُنَفّذ الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، هذه المخططات العدوانية، منذ القرن التاسع عشر، وإن اختلفت الوسائل والطّرُق، فالجيش الأمريكي يحتل البلدان ويقصفها ويقتل شُعوبها “دفاعًا عن الديمقراطية وعن حقوق الإنسان وعن النساء…”، بدعم قَوي من وسائل الإعلام، التي تمتلكها نفس الشركات التي تنهب ثروات البلدان الفقيرة…
أما خطاب اليمين المتطرف، فيستخدم الخطاب العنصري الواضح، لكي يُحول وجهة بوْصَلة العُمال والكادحين والفُقراء، من مقاومة البرجوازية المحلية والمُعَوْلمة، المتسبّب الرئيسي في شقاء الكادحين، وفي فقرهم، إلى محاربة فُقراء وكادحين مثلهم، لكنهم يختلفون عنهم في مكان الميلاد، وفي العقيدة الدّينية (المُفْتَرَضة)، وفي لون البُشْرَة، لِتُصْبِح هذه الإختلافات مُحَدّدًا للعلاقات بين البشر، ولتصبح عاملا مُبَرِّرًا للقتل الجماعي…
يتكامل اليمين التقليدي واليمين المتطرف، وإن اختلفت السُّبُل، وأصبح اليمين الأوروبي المتطرف شريكًا في الحُكْم، في العديد من دول أوروبا الغربية والشّرقية، وأنشأ “ستيف بانون” (مستشار سابق للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”) مؤسسة استشارات وإشهار، في بروكسل، بهدف تعزيز اليمين المتطرف في أوروبا، واستحواذه على الحكم، خصوصًا في فرنسا وألمانيا…
بشأن القضايا التي تعنينا بدرجة أولى، كعرب، تعززت العلاقات بين الكيان الصهيوني أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، منذ 2012 (بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001، وبعد بلوغ اليمين المتطرف الدور الثاني في الإنتخابات الرئاسية الفرنسية)، وتكثفت اللقاءات الثنائية والجماعية، منذ سنة 2010، وكانت الدعاية الصهيونية تُرَوِّجُ سابقًا، عندما كان اليمين المتطرف ضعيفًا، إن اليمين المتطرف “مُعادي للسامية”، ويبدو إنه تَطَهَّر من هذه التّهمة حاليًّا بعدما قَويت صفوفه، لذا فإن الحرب ضد الإمبريالية والصهيونية واليمين المتطرف (والرجعيات العربية المحلية)، واحدة، رغم تعدد أَوْجَهِها، وسُبُل مقاومتها…
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.