تقع كاتدرائية نوتردام (كنيسة كبيرة) في الدّائرة الرابعة بباريس، وهو حي سياحي وتجاري وقليل السّكّان، خلافًا لأحياء الفقراء، التي انطلقت منها “كمونة باريس” (18 آذار1871)، والتي يبلغ سكان كل حي منها ما بين 180 ألف و 200 ألف ساكن، وبدأ بناء هذه الكاتدرائية الضخمة خلال القرن الثاني عشر ميلادي (1163)، على الطراز المعماري “القوطي”، ليبلغ ارتفاعها قرابة سبعين مترًا (أكثر من تسعين مترًا، باحتساب قمة الصومعة)، وأصبحت منذ القرن العشرين من أهم المعالم السياحية الفرنسية (يزورها سنويا قرابة 13 مليون زائر)، ونشر الأديب “فيكتور هوغو” كتابًا بعنوان “أحدب نوتردام”، خلّد به هذا المَعلم التاريخي، غير إن كتاب “فيكتور هوغو” يَصِف البؤس الذي يسحق الفُقراء في هذه المدينة الثّرِيّة…
تحتل فرنسا صدارة الدّول “المُستضيفة” للسائحين (الذين يقيمون في الفنادق، دون احتساب العابرين) في العالم، بحوالي 83 مليون سائح أجنبي سنويا، رغم سوء الإستقبال وارتفاع الأسعار، وتواضع الخدمات، وتستقبل باريس أكثر من ثلاثين مليون سائح سنويا، وهي في صدارة المدن السياحية في العالم، قبل لندن، ويعتبر “برج إيفل” أكبر المعالم التي يزورها السائحون، مع الكاتدرائية ومِسلّة ساحة “كونكورد” (جاءت من مصر، إثر غزوة نابليون، بنهاية القرن الثامن عشر)، ويُلخِّصُ محتوى متحف اللوفر بعضًا من التاريخ الإستعماري الفرنسي، حيث يضُم المتحف (والمتاحف الأوروبية الأخرى) الكثير من الآثار المنهوبة، والقليل جدًّا من الأثار والتّحف المحلِّيّة…
وكانت الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا طالبت العام الماضي (2018) بتوفير الأموال لصيانة المبنى المهدد بالتداعي، وبدأت الترميمات بعد أن ظهرت الشقوق والتصدعات على جدرانها، مما يُهدّد استقرار الهيكل، وكانت الأشغال جارية، عند اندلاع الحريق يوم الإثنين 15 نيسان/ابريل 2019، الذي تسبب في إلحاق أضرار جزئية بالكاتدرائية، من بينها تدمير السّقف، وتم إنقاذ الهيكل الحجري الأساسي للمبنى الذي يبلغ عمره 850 عاما، وأظهرت التحقيقات الأولية أن الحريق كان حادثا، وترجح الشرطة ومكتب المدعي العام إن الحريق شَبَّ من شرارة جهاز اللّحَام في السقف الخشبي، حيث تجري أعمال ترميم، وأدت النيران إلى انهيار برج الكاتدرائية “القوطية” (شكل معمار المعالم الدينية خلال القرون الوسطى) التي شيدت بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر والبالغ ارتفاعه 93 مترا، كما أتى على سقفها.
أصبح الحريق حدثًا قوميا فرنسيا وعالميا أيضًا، وأعلن الرئيس ماكرون (رئيس الأثرياء ) بسرعة البرق، عن ضرورة إعادة البناء، وأطْلَق حملة قومية وعالمية لجمع التبرعات للمساهمة في إعادة بناء الكنيسة، التي يُتوقّع أن تُكلّف مئات الملايين من اليورو، وتعهد اثنان من أغنى رجال الأعمال في فرنسا بتقديم تبرعات، إذ أعلنت وسائل الإعلام، بإلحاح مُزْعِجٍ إن “فرانسوا هنري بينو” الرئيس التنفيذي لمجموعة “كيرينغ” المالكة لعلامات تجارية منها “غوتشي” و”إيف سان لوران”، سوف يقدم تبرعا بقيمة 100 مليون يورو (113 مليون دولار) كما أعلن الملياردير “برنار أرنو”، المساهم الرئيسي في مجموعة “إل.في.إم.إتش” للسلع الفاخرة تبرعه بمبلغ 200 مليون يورو، وتعهدت عمدة باريس بتخصيص 50 مليون يورو من ميزانية بلدية العاصمة لإعادة بناء الكنيسة (أي من ضرائب سكان باريس، مهما كانت ديانتهم أو حالتهم الإجتماعية)، وواصلت وسائل الإعلام بث الإشهار المجاني للأثرياء والزعماء السياسيين طيلة يَوْمَيْن (إلى غاية كتابة هذه الفقرات)، وذكرت الإذاعة الفرنسية “فرانس انتر” يوم الثلاثاء 16 نيسان 2019، بأن مجموعة من فقراء القَوْم جمعت 24 ألف يورو خلال بضع ساعات، وإن منطقة ضواحي باريس جمعت حوالي 10 ملايين يورو لإحضار أفضل المهندسين المعماريين الفرنسين والعالميين، بالإضافة إلى تنظيم بلدية باريس مؤتمرًا عالميا لجمع التبرعات، خلال الأسابيع القادمة، ووجه إتحاد فريق كرة القدم الفرنسي ووزير الثقافة، دعوة بالتبرع والمساعدة في حشد المزيد من المساعدات، ويتوقع أن تدوم أشغال الترميم سنوات عديدة، بقيمة مئات الملايين من اليورو…
خواطر على هامش الحريق:
بعد قضاء جزء من يوم الإثنين 15 نيسان/ابريل 2019 بالمُستشفى ( لإجراء فُحُوص “روتينية” ومراقبة…)، كنت في بيتي بصدد مطالعة بعض النّصوص التي أحتاجها، لعرض كتاب مذكرات القائد الشيوعي الفلسطيني -الجزائري “محمود الأطرش” (كان قائدًا في الأممية الثالثة)، وكنت منهمكًا في مقارنة مُذكرات محمود الأطرش، بمذكرات القائد الشيوعي الفلسطيني “نجاتي صدقي”، وأعلمتني زوجتي إن حريقًا انطلق في “نوتردام دي باري”، فسألتُها بتلقائية “هل اتّهموا إرهابيًّا عربيًّا أو مسلمًا مُفْتَرَضًا، ليصب الفرنسيون جام غضبهم علينا خلال بضعة أشهر” فقالت “لا”، (وهي فرنسية) وأعلنت لها إن كل ما يهمني هو عدم إلصاق التهمة بشخص ينعتونه بالعربي أو المسلم…
تُزايد فرنسا على العالم بالعلمانية (اللائكية) لكن الدولة تُنْفِقُ من أموال الجميع على المعالم الدينية، ولا يستنكف السياسيون من كيل المديح للحضارة “المسيحية -الهندية”، أو “المسيحية – اليهودية”، وهي افتراضات ذات طابع إيديولوجي استعماري بحت، ولا علاقة لها بالتاريخ أو بالواقع، باستثناء إن المسيحيين كانوا يهودًا، قبل إطلاق عيسى بن مريم دعوته…
أما بشأن المعالم الدينية، فما الدّاعي لتشييد معالم ضخمة لأداء الشعائر والطّقُوس الدّينية، مهما كانت الدّيانة، ونادرًا ما يذكر الناس عشرات الآلاف من العُمال الذين شيدوا هذه الكنائس والمساجد الضخمة، إذ يُفْتَرَضُ إن الله متواضع، ويحبذ التّواضع، ويقبل صلوات المؤمنين في بيوتهم، أو في العراء، أو في أي مكان، ولا أعتقد إنه يشترط معابد ضخمة… هؤلاء العُمّال يُشيدون العمارات السكنية التي لا يجدون بها مسكنا يؤويهم، ويشيدون المحلات التجارية الفاخرة التي لا يدخلونها والفنادق المُخصّصة للأثرياء والسائحين، الذي يذرفون الدموع على جُثّة كاتدرائية باريس، ولا يهتمون بعدد العُمال الذين يتعرضون يوميا للموت ولحوادث العمل، ولا يهتم الرئيس ماكرون بالعمال البائسين ولا بفاقدي المأوى، ويفرض سياسة التقشف التي تضُرُّ بالفقراء، ليبذّر أموال ضرائب الأُجراء والفقراء في ما لا ينفع النّاس…
البيانات من آ.ف.ب + رويترز + موقع محطة “فرنس 24” (بتصرف) 15 و 16/04/2019
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.