حين يعوي الذئب بريجنسكي:امريكا تتهاوى!هل تفهم المطايا! د. عادل سمارة

كتب الاقتصادي الألماني الكبير جوزيف شومبيتر في خمسينات القرن الماضي كتابه الشهير “الديمقراطية والاشتراكية والراسمالية”. وإن كان الكتاب دفاعا عن الراسمالية فقد وردت فيه مقولتان تاريخيتان:

” الفوضى الخلاقة” و “إن الراسمالية سوف تهز كتفيها باستسلام أمام الاشتراكية”.

كانت القراءة الأسوأ للمقولتين على يد وزيرة خارجية المحافظين الجدد السابقة كونداليزا رايس حيث استعادت “الفوضى الخلاقة” لتدمير الوطن العربي مأخوذة بحصرها على إثبات ولاء البشرة السمراء لوحشية البيضاء. 

كان مقصد شومبيتر أن فوضى التطوير التكنولوجي تدمر أجيالاً لتحل محلها أجيال أكثر قدرة وإنتاجية وبالتالي هذا سر تقدم الراسماية.

رايس ذهبت والمحافظون الجدد إلى تدمير دول مستخدمة المصطلح في غير موضعه، ولكن بقصد،  فكان الخراب الرهيب، في العراق، سوريا، ليبيا، أفغانستان، اليمن ـ شرق أوروبا، اوكرانيا. وهكذا فالماكينة السياسية العسكرية للراسمالية لم تنتج ما توقع إنتاجه شومبيتر على يد الماكينة الاقتصادية/التكنولوجية.

واليوم يرث ترامبو كلتي الماكينتين ليأخذ العالم إلى موضع الدمار الشامل إن لم يُلجم.

وحده بريجنسكي، الثعلب البولندي في خدمة الولايات المتحدة، والذي وضع المؤشرات الأولى لتفكك الكتلة الإشتراكية بتوريط السوفييت في أفغانستان . لكن، كما يبدو فاته القطار اليوم فلم يعودوا يستمعون لحكمة هذا الذئب العتيق.

في مقالته[1] “بريجنسكي يحذر امريكا” يقول Mike Whitney

“يعود صعود الشعبوية في جزء منه إلى كساد المداخيل وفقدان الوظائف وهذا راجع بشكل كبير إلى التكنولوجيا الجديدة ولكن يُنسب بشكل عريض إلى الواردات والمهاجرين”.

يضع بريجنسكي إصبعه هنا على أكثر من مفصل اساسي في أزمة امريكا. فهو من جهة يحذر من الشعبوية، وهذا اشار إليه كثيرون، ولكنه يقدم تفسيره لركود المداخيل وتراكم البطالة حيث يعزوهما إلى تاثير التكنولوجيا الجديدة. وهو هنا يلتقط نقطة ضعف جوزيف شومبيتر فيما يخص الفوضى الخلاقة، حيث هي هنا ليست كذلك، بل خلاقة للبطالة ومقومات الثورة، ولو ذات وقت. كما يعزوهما أيضا إلى اضطرار امريكا للاستيراد وعجزها عن ابتلاع المهاجرين. وهنا نلاحظ أنه لم يهتم بذكر فقدان امريكا لدورها كاقتصاد الملاذ الأخير حيث اصبح هذا الدور عبئا عليها طالما يواجهها  تحديان:

  • ارتحال قاعدتها الصناعية للصين وغيرها
  • وتطور الإنتاج البديل في بلدان اخرى من العالم.

فالتوسع والازدهار وحدهما اللذان سمحا لأمريكا باستقبال المهاجرين من جهة واستقبال واردات من جهة ثانية.

وفي نقده لإدارة ترامبو، يذهب لما هو أعمق من هذا التدهور في السياسة الأمريكية حيث يرى بأن:

“الرئيس ترامب ليس المسؤول عن انفجار الشعبوية وعدم الاستقرار الاجتماعي، هو مجرد تعبير عن غضب الشعب. إن انتصار ترامب الرئاسي هو رفض واضح لنظام نخبوي متحجر/قاس بشكل عميق والذي واصل تحويل معظم ثروة الأمة إلى شريحة في القمة وهي متزايدة الصغير “

هنا يصل بريجنسكي إلى نقد الدرجة المتوحشة للراسمالية ويؤكد أن وصول ترامب  للسلطة نتاج اعتراض شعبي. لكن بريجنسكي، وهو طبعا يميني راسخ لم يدفع استنتاجه الصحيح إلى مداه الأخير وهو أن الاعتراض الشعبي جاء هشاً وفي الاتجاه الغلط. وهذا بالطبع نتيجة لضعف اليسار في هذه المستوطنة الراسمالية البيضاء الكبرى. فنقد الشعبوية لا يحل مشكلة طبقية كبرى كهذه.

ويواصل  بريجنسكي قراءة صحيحة لمآل الاقتصاد الأمريكي:

“إن النظام اللبرالي يتهاوى، ولكن فقدانه لوهجه ليس بسبب القيم التي تم تبنيها في ستيات وسبعينات القرن العشرين، ولكن بسبب توسع عدم المساواة، حيث أصبح النظام السياسي غير مستجيب لمتطلبات الشعب، ولأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على فرض إرادتها بالقوة على العالم”.

هنا يقف بريجنسكي في الوسط . فهو ينتقد عدم المساواة من حيث توسعه وليس من حيث مبدأ وجوده. هذا بالطبع بناء على عقيدة السوق والراسمالية والتبرير الطبقي في ثقافته. ومن الطبيعي أن اتساع الفجوة الاجتماعية الاقتصادية أن يقود إلى تململ اجتماعي ولا سيما في فترة  الانتقال إلى اللبرالية الجديدة وإطارها الأوسع العولمة. وحيث قادت العولمة إلى عدم التضبيط De-regulation  وخروج الدولة نسبيا من الضمانات ودولة الرفاه فهي بالضرورة عاجزة عن الاستجابة لمتطلبات الشعب، بل هي ضد هذه المتطلبات. 

إن عدم استجابة الدولة للمتطلبات الشعبية مرتبط بتراجع دور الدولة الأمريكية في فرض وإملاء إرادتها  على العالم. فتوسع عدم المساواة ناجم عن تراجع العمالة وانتقال الصناعات إلى الصين وبالتالي تراجع الأجور او المداخيل في امريكا. وهذا يضعنا امام صورة خطيرة للولايات المتحدة وهي وجود أزمة واضحة وعجز واضح عن حلها.

بعد أن قرأ بدقة الخلل، ربما غير القابل للإصلاح، في اقتصاد والسياسة الأمريكية، كان من الطبيعي أن ينتقل بريجنسكي للحديث عن الصعود الروسي. فهو كاستراتيجي إمبريالي يقرأ العالم أيضا كوحدة واحدة، على تناقضاتها وتعددها داخليا. وهنا يتقاطع الاستراتيجي اليميني والماركسي في موضوع القراءة والتحليل أي ان وحدة التحليل هي النظام العالمي، الأول بالقلق على تكريسه والثاني بالعمل على تغييره. وهذا ما ميَّز ماركس عن الفلاسفة الآخرين حيث ارتكز مشروعه على تغيير العالم لا تفسيره.

“…تنخرط روسيا اليوم في عمليات مسلحة التي هدفها إما منع واشنطن من تحقيق أهدافها الاستراتيجية (كما في أوكرانيا) أو أن تطوي واشنطن صفحة الحرب  بالإنابة في سوريا. ومن الطبيعي فإن النخبة اللبرالية من أمثال ريتشاردهاس تشعر بالتهديد جراء هذه التطورات لاسيما وقد تعودت على وضعية مفادها أن هذا العالم مثابة محارة بأيديهم. ولكن، للأسف، لم تعد المحارات ضمن قائمة الغذاء التي يقدمها المطعم،، وعليه، فعلى الولايات المتحدة أن تقوم بالتعديل أو أن تخاطر بحرب عالمية ثالثة.[2]

يقوم قلق بريجنسكي هنا على عجز الولايات المتحدة عن التصرف بالعالم كما تريد واعتادت. فإذا كانت أوكرانيا خاصرة روسيا، وبالتالي فإن وضع روسيا هناك مؤاتٍ من جهة أكثر، والمسألة أيضا خطيرة لأنها خاصرتها، فإن عجز الولايات المتحدة عن كسب الحرب ضد سوريا يؤكد أن روسيا قادرة في موضع ما على منع مخطط امريكا في هذه المنطقة. وهنا لا ينطق الرجل عن الهوى بل يقدم قراءة لأمر واضح. وهذا بالذات ما دفعه إلى الوصول إلى أحد الخيارين اللذين يبدوان بطعم مر، اي إما أن تعدل امريكا سياستها بأن  تتفاهم مع روسيا على قدم المساواة، أو تجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة.

هنا تفيد الإشارة إلى أن ضارية إمبريالي مثل برجنسكي مضطر لتغيير النهج بناء على تغيير الحدث. فهؤلاء الضواري هم مع الحرب دائما، واقتصاد التسلح من أجل الحرب هو مرتكز الرأسمالية دائماً باعتبار الحرب رافعة للنمو الاقتصادي، وهذا يلقي بظلاله مجدداً على مصطلح الفوضى الخلاقة. فاسم المصرف الدولي هو إعادة الإعمار، اي ضرورة الحرب وضرورة الإعمار من أجل الازدهار الاقتصادي. 

لكن كل هذا يأتي مبرراً في سياقين:

  • أن تكون نتائج الحرب محسومة لقوة عظمى
  • أو أن تكون نتائج الحرب محتملة الكسب بين قوى متقاربة القوة ومضطرة لحرب توسعية استعمارية كما كان حال العالم في الحربين الراسمالتين الأولى والثانية.

وكلا هذين الاحتمالين وارد بمعنى أن الدول الإمبريالية من القوة بمكان بحيث تضمن نتائج الحرب ، أي هذه أو تلك. ولكن مقالة بريجنسكي ابتدأت من ملاحظته بأن الولايات المتحدة تعاني بدايات الانحدار، وهو الأمر الذي يلجمها عن الذهاب إلى حرب مفتوحة مع روسيا وربما مع الصين وغيرهما. وهذا يرتد لا شك إلى نتائج عدوانها على أفغانستان والعراق ولاحقاً العدوان الغربي عموما ضد ليبيا، وإن كان من الجو. ولكن ما يجعل حربا ثالثة مثابة إنهاء للكوكب هو تبادل ملكية السلاح النووي. وهذا ما يجعل النتائج على غير ما كانت عليه في الحربين الأولين.

تجدر الإشارة إلى أن هذه العدوانات الثلاث تحديداً، أفغانستان والعراق وليبيا، حصلت في فترة الفراغ الدولي من القطب الآخر. إنها فترة تفكك الاتحاد السوفييتي وغياب قطب آخر من حيث القوة، وليس بالضرورة من حيث طبيعة التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية/سيطرة نمط الإنتاج الراسمالي وعلاقاته. لقد عاد واضحا أن العدوان ضد ليبيا كان خاتمة فرصة الهيمنة او العدوان المفتوح دون رادع حيث شكلت روسيا خاصة قطباً يتحدى، وإن بدرجة خجولة، ولا فرق هنا ، من حيث الدور حيث إنه رأسمالي وليس اشتراكي. كيف لا! والحربان الرأسماليتان /الإمبرياليتان الأولى والثانية بدأتا بين ضواري الإمبريالية اصلاً. 

كما من الواضح أن بريجنسكي يلتقط عجز امريكا وذهابها إلى الحرب بالإنابة في سوريا. والحقيقة أن هذه الحرب هي في مجمل الوطن العربي حيث اعتمدت امريكا والغرب عموما على ما أسميته جيش امريكا الثالث/جيش أوباما المتشكل من انظمة وقوى الدين السياسي العربية وفي أذيالها شتات التروتسك. ولهذه الحرب بالإنابة وجهان:

  • الأول عجز امريكا عن العدوان بجيشها المباشر
  • وعجز جيشها الثاني اي الكيان الصهيوني عن العدوان المباشر اعتماده المهارشة هنا وهناك بالقطعة كما يحصل ضد سوريا.
  • وجاهزية توابع أمريكا العرب خاصة للتطوع لتنفيذ خططها وحروبها بارتعاد شديد كما لو كانت هي أمريكا ما قبل فيتنام وما قبل العدوان على العراق.

المهم ان بريجنسكي يؤكد هزال استراتيجية الحرب بالإنابة ويرى أنها لن تكون الحل. ولكنه بالطبع، وبما هو ضارية إمبريالي، لم ينظر قط إلى تخريب الوطن العربي في محاولة لضمان بقاء هذا الوطن لأطول فترة ممكنة:

  • عاجز عن الاستقلال بموارده
  • وعاجز عن تحرير أرضه المحتلة وخاصة من الكيان الصهيوني.

ثم يقتطف الكاتب من مقالة لبريجنسكي نفسه كان قد كتبها عام 2016، 

“… في الحقيقة، لم تكن هناك أية قوة مسيطرة عولميا بشكل حقيقي حتى ظهور امريكا في المشهد العالمي…لقد انتهت هذه الفترة…  وبما هي فترة السيطرة العالمية قد انتهت،  فالولايات المتحدة بحاجة إلى اخذ زمام  المبادرة بأن تقوم بتصحيح بنية القوة على صعيد عالمي…لا تزال الولايات المتحدة الكيان الأقوى سياساً واقتصاديا، وعسكريا ولكن، اخذاً بالاعتبار التغيرات الجيو سياسية  المعقدة  في الموازين الإقليمية، فهي لم تعد قوة إمبريالية معولمة[3]“.

وبهذا يقدم النصيحة التي لا مناص منها بأن على الولايات المتحدة أن تُقر بالواقع الجديد للعالم بمعنى أنها لم تعد هي التي تصوغ تطوراته وحدها على الأقل. لكن حتى الان، لا يبدو أن الإدار الأمريكية ذاهبة إلى هذا الخيار. هل تذهب إلى خيار مواصلة حرب الإقتصاد والعملات وصولا إلى حرب البنادق؟ هذا ما علينا توقعه ومراقبته.

بالمضمون نفسه، ولكن هذه المرة عن الصين، دارحديث بين غُلاة الإمبريالية الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر مع الحالي ترامبو: 

“… هل وصلنا إلى اللحظة الفاصلة التي بدأ فيها الشكّ يساور القوة العظمى المتداعية؟ حيث قامت الصحافة الأميركية للتوّ بنشر ما قاله الرئيس السابق جيمي كارتر لدونالد ترامب خلال لقائهما الأخير. كان ساكن البيت الأبيض قد دعا الرئيس السابق لكي يحدّثه عن الصين، وقد أورد جيمي كارتر محتوى اللقاء بشكلٍ علنيّ خلال جمعية عمومية معمدانية في جورجيا. إن ما قاله نفيس للغاية.

“أنت تخشى أن تسبقنا الصين، وأنا أتفق معك. لكن هل تعرف لماذا الصين في طريقها لتجاوزنا؟ لقد قمت أنا بتطبيع العلاقات الديبلوماسية مع بكين سنة 1979. منذ ذلك التاريخ، هل تعلم كم عدد المرات التي خاضت فيها الصين الحرب ضد أيٍّ كان؟ ولا مرة.  أما نحن، فقد بقينا في حالة حرب دائمة. الولايات المتحدة هي البلد الأكثر ولعاً بالحروب في تاريخ العالم، لأنها ترغب بفرض القيم الأميركية على البلدان الأخرى. بينما تستثمر الصين مواردها في مشاريع مثل سكك الحديد للقطارات فائقة السرعة بدل تخصيصها للنفقات العسكرية. كم كيلو متر من السكك الحديدية للقطارات فائقة السرعة لدينا في بلدنا؟ لقد بدّدنا 3000 مليار دولار على النفقات العسكرية. أما الصين فلم تبدّد فلساً واحداً على الحروب، ولذلك هي تتفوّق علينا في جميع المجالات تقريباً. ولو أننا أنفقنا 3000 مليار دولار على البنية التحتية الأميركية، لكان لدينا سكك حديد للقطارات فائقة السرعة وجسور لا تنهار وطرق تتم صيانتها بشكلٍ صحيح. كما أن نظامنا التعليمي سوف يصبح جيداً مثل نظيره في كوريا الجنوبية أو هونغ كونغ.”[4]

يركز الكاتب  Mike Whitney على دور روسيا بقيادة بوتين في الحقبة الحالية من السياسة الدولية فيقتطف نقداً لبوتين عن تجربة الاتحاد السوفييتي:

“… علينا جميعاً أن نتذكر دروس الماضي، إننا نتذكر أمثلة من ماضينا السوفييتي، حينما صدَّر الاتحاد السوفييتي تجاربه الاجتماعية دافعاً بصدد تغييرات في بلدان أخرى لأسباب إيديولوجية، وهذا قاد غالباً إلى نتائج ماساوية وتسبب في تهالك خراب وليس إلى تقدم”.

مضمون هذا الحديث يؤكد طبيعة النظام في روسيا حيث غادر الاشتراكية باتجاه رأسمالي واضح. هذا المقتطف يتضمن عدة أمور للنقاش أحدها، أن  الاتحاد السوفييتي، برأينا، لم يكن مقتنعا بالاشتراكية في بلد واحد وبأنه كان يحاول المد الاشتراكي أممياً. وهذا أمر يدور عليه نقاش متعدد. فالتروتسك لم يروا هذا قطعاً، بينما كانت الصين في فترة ماو لا ترى ذلك مداً لأجل الاشتراكية، بل ذهب البعض هناك لاعتبار الاتحاد السوفييتي دولة إمبريالية. هل سار السوفييت في الطريق الصحيح لكسر الانحصار في بندقة اشتراكية الدولة الواحدة؟ يمكننا القول ب نعم حتى رحيل ستالين.لكن فترة خروتشوف وما بعدها فكان أبلغ النقد عليها ما وجهه للسوفييت عام 1965 ارنستو تشي جيفارا. 

ما قاله بوتين في المقتطف اعلاه ليس مقنعاً، وفيه درجة أو قدراً عاليا من الخبث. فالاتحاد السوفييتي لم يكن بهدف نشر إيديولوجيا بمعنى الوعي الخاطىء الذي ذكره ماركس. كان يحاول نشر الاشتراكية كفكر ومشروع نظام سياسي اجتماعي بمفهوم السوفييت في المرحلتين:

  • ستالين
  • خروتشوف وصولا إلى جورباتشوف.

وهنا يجدر القول بأن الخلل لم يكن فقط في جانب السوفييت بل كان بشكل أكبر في جانب الأنظمة التي دارت في فلك السوفييت سواء من حيث إيديولوجيا الأنظمة هناك التي لم تتجاوز حماسة البرجوازية الصغيرة/ الطبقة الوسطى، من جهة، وكذلك ضعف الحامل الاجتماعي السياسي الطبقي في تلكم البلدان وعدم نضوجه لحمل مشروع اشتراكي.

كما أن بوتين قد أغفل استفحال الإمبريالية ودورها في قرارها المتواصل لتقويض الدول الاشتراكية وخاصة الاتحاد السوفييتي والصين بمعنى أن هزيمة المشروع الاشتراكي المتحقق لم تكن لعوامل ذاتية فقط بل من واقع معولم مما يؤكد أن ما كان منذ 1917 هو بالمعنى التاريخي جولة في الصراع، بل الجولة الأولى وعليه، فإن باب التاريخ لم يُغلق.

ربما كان على بوتين أن يقول بأن الغرب الراسمالي هو الأكثر خطورة في تصدير الإيديولوجيا، إيديولوجيا السوق. ولكن طبعاً هو أحد حوامل هذه ألإيديولوجيا وإن كان يوزعها بهدوء ودون ملامح امبريالية، على الأقل حتى الآن.

يتورط بوتين ، أو يقوم بذلك بوعي، في تيار الزعم بانتهاء عصر الإيديولوجيا، وهذا الشعار بحد ذاته إيديولوجيا من جهة وهو تيار الإيديولوجيا الأكثر توحشا في التاريخ، إيديولوجيا السوق في حقبة العولمة المتوشحة بالنيولبرالية والتي أنتجت ترامبو الذي نرى.

على أية حال، لا يتسع المجال لمناقشة الحدث الكبير في القرن الماضي اي صعود وتفكك الكتلة الاشتراكية.

ماذا عن الكيان الصهيوني؟

عودة، إلى بريجنسكي فيما يخص الكيان الصهيوني ، وفي هذه العودة نجد من المفيد العودة إلى من سبقوه في قراءة إستجلاب وزرع وإقحام  وما بعد إقحام الكيان الصهيوني. فقد كتب بريجنسكي إثر عدوان تموز 2006 ضد لبنان، بان نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة العربية يتراجع وهذا يهدد مصير الكيان الصهيوني. وربما كان في قوله هذا قد قرأ أم لا، ما كتبه الماركسي الألماني كارل كاوتسكي (التحريفي برأي لينين) بأن مصير الدولة اليهودية في فلسطين منوط ببقاء الاستعمار هناك، وفي حالة خروج الاستعمار فإن مصير هذه الدولة إلى زوال.

هنا نلمس الاستشراف المزدوج لدى بريجنسكي من حيث ترابط المصير بين الإمبريالية والكيان الصهيوني. وهذا ما تدركه القيادات الصهيونية مما يدفعها إلى إقامة علاقة، بأية وسيلة، مع الاتحاد الروسي كقوة بازغة مقارنة بالقوة الأمريكية القوية حتى الآن ولكنها في تراجع[5].

هنا يصبح من اللازم الإشارة إلى الفارق بين القيادة الصهيونية وبين الحكام العرب، أغلبهم بالطبع. صحيح أن الطرفين عملاء. فالكيان الصهيوني بنية عميلة للغرب الراسمالي ولن تبقى دون ذلك. ولكنها بنية تعرف مصالحها جيدا، ولا تخون مصالحها، ربما لأن قيادتها واستراتيجييها يدركون أن خيانة تلك المصالح مثابة تقويض للوجود المُقحم نفسه. 

بالمقابل، فإن العملاء العربيعيشون بالحس وليس بالتمييز العقلي، فهم يدركون أنهم صنيعة الإمبريالية ولذا يخشون سطوتها إلى الحد الذي يحول بينهم وبين رؤية تصدعها. لذا، يُمعنون في العمالة ويعلنون ذلك بطريقة تسيء قومياً إلى الأمة العربية.

لعل أجمل الكتابة هي ما تخرج على اللياقة والتأدب البرجوازي الصغير وخاصة لأنها، اي الكتابة الشرسة وحدها التي تعطي المعنى لأن بها حمولته/محمولها الثقيل والعميق. وعليه، فالحكام العرب حمير انتحارية ولأنهم لا يفهمون درس التاريخ فلا يفهمون إشارات الحاضر.

بقي ان نقول، بأن هذا العالم الذي تدفعه الرأسمالية إلى البربرية والانتحار يُشعرك بالأسف لأنه لم يزل عالم يُنتج في مواجهة الراسمالية كل من الموسيقى والحب والشعر والفلسفة، ولا بد أن ينتج الاشتراكية.

ملاحظة: شكرا للرفيقة لينا الحسيني حيث حولت لي مقالة Mike Whitney.

 [1]  https://l.facebook.com/l.php?u=https%3A%2F%2Ft.co%2FzDxqSEmGbW%3Famp%3D1&h=AT0r–9JX8v2ohA1gnuKREhayp0snt6w01fTQodRnC6HSInlNfp_obKDGPd4a3iOnfm46-BcOKlDwrAeThpY2ZN1DKSC68ndLKpXa5-n18H9N5MltdP_7VQyU8O47MiA7xuacQ

 

[2]ورد في نفس  مقال Mike Whitney محاججة ريتشارد هاس، وهو من غلاة الإمبريالية، أنه لعلاج العولمة مطلوب مزيدا من العولمة  (“Liberal World Order, R.I.P.”, Richard Haass, CFR)

 

 [3](“Toward a Global Realignment”, Zbigniew Brzezinski, The American Interest.

 

 [4] http://kassioun.org/reports-and-opinions/item/61499

 

 [5] See: Adel samara: In its’ Debacle: US Sacrifices the EU and the ZAR Gains.

https://kanaanonline.org/en/2019/04/23/in-its-debacle-us-sacrifices-the-eu-and-zar-gains-by-adel-samara-occupied-palestine/

 

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.