عرب، ما بعد إزاحة الرئيس – نموذج الجزائر والسودان الطاهر المعز
أظْهرت احتجاجات السودان والجزائر، وقَبْلَها بثماني سنوات، احتجاجات تونس ومصر واليمن، إن مطلب تَنَحِّي الحاكم الرّمْز، أي رأس السلطة، مطلب منقوص، ولا يحل المشاكل الحقيقية التي دفعت المواطنين للإنتفاض والإحتجاج، رغم القمع الشديد، والقَتْل والإصابات والإعتقالات…
ذهب حاكم تونس، زين العابدين بن علي إلى جدّة، على البحر الأحمر، في “ضيافة” أُسْرة آل سعود، واحتفل حُسْنِي مبارك بعيد ميلاده الواحد والتّسْعِين، في مَصر التي نَهَبَها مع المُقَرَّبِين منه، مُحاطًا بأبنائه وأحْفادِه، وتَغَيَّرَتْ حياة الأغلبية الساحقة من التونسيين والمصريين، من سَيِّءٍ إلى أَسْوَأَ…
تَكَفَّلَت أنظمة السعودية والإمارات ومصر، ومعها قَطَر وتركيا، نيابة عن الإمبريالية وجيشها (حلف شمال الأطلسي)، بالعدوان على شعب اليمن وليبيا، وبتمويل المجموعات الإرهابية والعشائرية في سوريا والعراق واليمن وليبيا، لتتكفّل بالتّخريب من الدّاخل، وهي مَهام مُكَمِّلَة للقصف الجوي الأطلسي والقَصْف عن بُعْد من البحر أو من الجو، أو عبر الطائرات الآلية المُسَيَّرَة بواسطة الحاسوب…
انتفَضَ الشعب، وكان شعار “الشعب يُرِيدُ إسقاط النظام” شعارًا “إرادِيًّا” وليس عَمَلِيًّا، بسبب غياب البديل، وغياب قُوى سياسية تَقَدُّمِيّة مُنَظَّمَة، قادرة على حُكْم هذه البلدان، وعلى تطبيق سياسات بديلة للسِّياسَات التي أدّت إلى الإنتفاضات، بل لا تملك “المُعارَضَة” (وهي عبارة فَضْفَاضَة، خالية من المضمون السياسي)، برنامَجًا، تُناضِلُ من أجل تطبيقه…
كان (ولا يزال) الجيش، وقوى الدّين السياسي، من القُوى القليلة المُنَظّمة والقادرة على افتكاك جهاز السّلْطَة، لأن الجيش يملك القوة المادية (السلاح) والإنضباط، أما قوى الدّين السياسي، فإنها القوة الوحيدة القادرة على عقد خَمْسِ اجتماعات يومية، في محلاّت مفتوحة ومُرَخَّصَة، وعلى عقد اجتماع عام، بوتيرة أسْبُوعِيّة، كل يوم جُمُعة، ولذلك بقيت شَبَكات هذه القُوى السياسية (المُتَغَلِّفَة بالدِّين) نشطة، رغم انخفاض وتيرة عَمَلِها، بالإضافة إلى ما تتميّز به من انضباط “عَسْكَرِي”، أي مبني على الطاعة العمياء، بعكس الإنضباط “الواعِي” الذي يُمَيِّزُ مناضلِي “اليسار” (وهي عبارة فَضْفَاضَة أيضًا، وَقَعَ استخدامها بشكل عَشْوائي)… لهذه الأسباب تمكّن الإخوان المسلمون، بالتحالف مع رُموز الحُكْم السابق في تونس، والجيش، بالتحالف مع رجال الأعمال ورُموز حُكْم حسني مبارك، من الإنقضاض على الحكم، مع تطبيق برامج أكثَرَ سُوءًا من السابق، بِدَعْمٍ من الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، وأدواتها، ومن بينها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، فارتفعت قيمة الدُّيُون الخارجية، وارتفعت نسبتها من الناتج المَحَلِّي الإجمالي، لترتفع “حِصَّةُ” كل مواطن من الدّيون المُقوَّمَة بالدُّولار، في ظل انخفاض قيمة العُملة المَحلية، وما ينجر عنها من ارتفاع الأسعار، ونسبة التّضَخُّم والبطالة والفَقْر…
منذ 1995، شَجّع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، عبر التّمْوِيل المَشْبُوه، وعبر المنظمات “غير الحكومية”، وعبر شعارات “الديمقراطية” و “حقوق الإنسان”، مجموعات “اليَسار” على تقديم مَطْلَب “محاربة الدكتاتورية”، على مطالب العدالة الإجتماعية، فانطلق تحالف “تكتيكي” سنة 2005، في تونس ومصر وسوريا، بين الإخوان المسلمين، وأكبر مجموعات “يسار شيوعي” موجودة في هذه البلدان الثلاثة، فكان اليسار آلة غسيل للأفكار والبرامج الرّجعية للإخوان المسلمين، وكان اليسار آلة ترويج لأولوية إزاحة الدكتاتور الشّخص (بن علي وحسني مبارك وبشار الأسد) على مشاكل الفقر والبطالة وخصخصة القطاع العام، وغيرها من الأوْلَوِيّات، وأولويتها على قضايا التّبَعِيّة للإمبريالية، والتّطْبِيع، ففي شهر تشرين الأول/اكتوبر 2005، كان رُموز “حقوق الإنسان” وبعض اليسار (قيادات حزب العُمّال، الذي حَذَفَ نَعْت “الشيوعي” فيما بعد) ورموز من الإخوان المسلمين في تونس، في إضراب عن الطعام، حَظِيَ بتغطية إعلامية أجنبية كبيرة، وبزيارات سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، وخلال نفس الفترة، انعقد لقاء دولي في جزيرة “جربة”، عن عالم الإتصالات ومستقبل الشبكات الإلكترونية، وغيرها من المواضيع التي لا ناقة لتونس ولا جَمَل فيها، بإشراف إحدى منظمات الأمم المتحدة، وحضَر اللقاء وزير خارجية الكيان الصهيوني، الذي حَظِيَ بترحاب عَلَنِي من جهاز الحُكْم، وبينما كانت القواعد النّقابية العُمّالية (وليس قياداتهم) بصدد إنجاز إضراب عام، احتجاجًا على التطبيع، كان رُموز اليسار والإخوان في حوار “ديمقراطي – مُتَمَدِّن” حول مواضيع غير عاجلة، وهامشية أحيانًا، بالقياس مع الظّرْف آنذاك، وظهرت للعيان القواسم المُشْتَرَكَة التي تجمع الإخوان وهذه المجموعات اليسارية، ومن بين هذه القواسم المُشتركة التّمْوِيل، ودَعْوة القوى الأجنبية (الإمبريالية) للتّدخّل، من أجل إزاحة رَمْز أو رئيس أو حاكم، بذريعة إن الشعب غير قادر، وغير مُهَيّأ للثورة ضد “الحاكم”، مما يدل على استهانة بالشّعُوب، وبقُدْرَتِها على الثورة، لو وجدَت قيادات ثورية تُوجّهُ البَوْصَلة نحو إزاحة العَدُو الطبَقي والقَوْمِي والأُمَمِي، واتهمت أنظمة عميلة (مصر وتونس) اليسار ب”الإستقواء بالأجنبي”، بسبب دَعْوَتِهِ الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي للتدخل وتغيير رأس حرْبَة النظام، إِثْرَ عودة الجدل وإقرار قوانين زَجْرِيّة تُعاقب من يُتّهَم ب”الإستقواء بالأجنبي” (راجع: الطاهر المعز تونس، تضامن دولي أم استقواء بالأجنبي” حزيران/يونيو 2010)…
كَيْ لا تكون التَّضْحِيات مَجَانِية:
انطلقت المُظاهرات في السودان والجزائر، بنهاية سنة 2018 وبداية 2019، بعد سلسلة من الإحتجاجات المتقطعة، من أجل تحقيق مطالب اقتصادية واجتماعية، ففي الجزائر أصبحت الإحتجاجات شبه يومية، منذ سنوات، خصوصًا منذ انخفاض سعر النّفط في الأسواق العالمية (منتصف 2014)، لكنها تنحصِرُ في منطقة جغرافية محدودة أو لدى فئة من السّكان، من أجل السّكن أو الشُّغْل (في الجنوب، حيث حُقُول النفط والغاز)، أما في السّودان، فانطلقت الإحتجاجات إثْرَ خفض دعم الوقود والمواد الغذائية، وإثْرَ خفض قيمة الجُنَيْه السّوداني، مما رَفَعَ أسعار النقل والطاقة والطحين والخبز، فارتفعت نسبة التّضخم، وانخفضت القيمة الحقيقية للرواتب…
تَطَوّرت مطالب المُتظاهرين من رفع الشعارات المَطْلَبِيّة ذات الصبغة الإقتصادية، إلى مطالب سياسية تُطالب برحيل الرئيس، ثم حاشيته، وهو نفس التّطوّر الذي حصل في تونس ومصر. أما القاسم المُشترك ونقطة الضُّعْف القاتلة، فيتمثَّلُ في غياب بديل يُلبِّي مطالب المُتظاهرين، مما ييَسِّرُ عَمَلَ القوى الإنتهازية، والقوى الاجنبية، لاختطاف ثمار مثل هذه الإنتفاضات، غير المُسَلّحَة ببرامج بديلة تُطبّق سياسة طبقية أو شعبية، لصالح الكادحين والمُنْتِجِين والأُجَراء والفُقراء…
لذلك تحاول الإمارات والسعودية ومصر ركوب الموجة في السودان، وتحاول فرنسا والولايات المتحدة، عبر وسائل الإعلام، إبْراز بعض الوُجُوه (إضافة إلى بعض زعماء الدّين السياسي) التي تُسَبِّحُ بحمدها (وحَمْد تمويلاتها)، مثل حسين بلعلوفي (تجمّع العَمل الشبابي)، المُمَوّل من الولايات المتحدة، عبر “الوَقْف القومي للديمقراطية” و”فريدوم هاوس”، ومصطفى بوشاشي (باسم حقوق الإنسان) وحزب “قوى التقدم والإشتراكية” (FFS ) وسعيد سعدي، مؤسس حزب “تجمع الثقافة والديمقراطية” (RCD )، إضافة إلى بعض المُطبِّعِين، والمُدافِعين عن التطبيع وعن العَمالة للإستعمار، والدّاعين إلى تعزيز مكانة اللغة الفرنسية، لُغة المُسْتعمِر (واللغة ليست وسيلة اتصال فحسْبُ، وإنما هي وعاء ثقافي وحضاري وتاريخي)، على حساب العربية، ونشرت وسائل الإعلام الفرنسية صُوَرًا لبعض هؤلاء مع برنارد هنري ليفي وآلان فلكنكروت (من عُتاة الإستعمار والصهيونية في فرنسا)، ويرتبط عدد من الوُجُوه التي تُقدّمها وسائل الإعلام “الغربية” بأمثالهم من الأردن ولبنان وسوريا ومصر وتونس والعراق وغيرها، تحت راية أمريكية واحدة…
من العَسِير تقديم نقد موضوعي وبَنّاء لحراك وأحداث لا تزال جارية ومتواصلة، لكن تقويم القوى الحاضرة والمُؤَثِّرَة، وقراءة الشعارات والبرامج (أو غياب البرامج) تُؤَشِّرُ إلى صُعُبات قادمة، وليس من دَوْرِنا، كتقدّمِيِّين، تجميل وجه الإنتفاضات العفوية أو المُنَظَّمَة، إذا لم تكن نتائجها تَصُبُّ في مصلحة الكادحين والفُقراء، وهي مهمة لا يمكن أن تضطَلِع بها سوى قوى مُنَظّمَة، وتمتلك رُؤْيَة مُسْتَقْبَلِيّة، وبرنامجا قصير المدى وآخر بعيد المدى، وتمتلك دراسات عن تكاليف وأساليب إنجاز البرامج
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.