رابط الجزء الأول:
https://kanaanonline.org/2019/05/10/%d9%81%d9%8a-%d9%86%d9%82%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%8a%d8%af%d9%8a%d9%88%d9%84%d9%88%d8%ac%d9%8a%d8%a7-%d8%ad%d9%88%d8%a7%d8%b1-%d9%81%d9%83%d8%b1%d9%8a-%d9%85%d8%b9-%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84/
استعدْتَ محمد عبده مدخلاً إلى طرح مسألة العقل في الإسلام، وحدودِه، في: مفهوم العقل، بعد أن كنتَ درستَه، في إطار نمذجتك الشهيرة للأيديولوجيا العربية المعاصرة في الكتاب الذي حَمَل العنوانَ نفسَه؛ ما الذي تغيَّر في الوعي الإسلامي المعاصر بين عبده الستينيات، وعبده التسعينيات، وهل تغيرت صورتُه ـ بالتالي ـ في وعيك؟ ولماذا الإلحاحُ المستمرُّ منك على نموذجيْ محمد عبده وعلاّل الفاسي في كل ما تكتبه عن الفكر الإسلامي والفكر الإصلاحي؟
العروي: شيخ اليوم يحاكم شيخ الأمس ويتهمه بالتخلي عن الثوابت وبالتقاعس أمام العدو، ويذهب البعض إلى اتهام عبده بالتآمر على الإسلام.
قلت إن أفق عبده والفاسي كان محدوداً، وإن هذه المحدودية هي ما يسِم فكرهما بالأيديولوجيا.
قد يكون شيخ اليوم أكثر اطلاعاً على منتوج الغرب، لكن في شِقِّه المحافظ، فينقده ويصبح بذلك أكثر محافظة. أصولية العرب، أصولية الشرق عموماً، ليست سوى انعكاس، من عدة وجوه، لأصولية الغرب. الدليل هو أن شيخ اليوم أقلُّ ارتباطاً من شيخ الأمس بالإنتاج العربي القديم. يرجع إلى السلف، ويتخطى قروناً من التأويل والاجتهاد.
انشغلتَ طويلاً بالتاريخيات العربية الكلاسيكية، وكتبتَ فيها، في مناسبات متعدّدة: «العرب والتاريخ»، وLa crise des intellectuels arabes، و«مفهوم التاريخ»، وIslam et histoire…؛ هل وجدتَ في المدوَّنة التاريخية العربية صورةً ما للثقافة والمجتمع تثوي وراء التفاصيل؟
العروي: لم يكتشف المجتمع العربي علم الطبيعيات الحديث. فما كان في وسع الثقافة العربية توظيف اكتشافاته في البحث التاريخي، كما فعل الغرب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.
ما كان في وسع المؤرخين العرب أن يحلُّوا لغز الكتابة الهيروغليفية أو المسمارية، أو أن يؤرخوا لطبقات الأرض. ظلوا حبيسي الوثيقة المكتوبة التي تعود إلى ستة آلاف سنة، أي بداية الكون في عقيدتهم. المنهجية العلمية عندهم هي منهجية الجَرْح والتعديل، منهجية علم الحديث. ثم عمّموا هذه الطريقة النقدية على كل المجالات المعرفية، حتى العلوم العقلية. في هذا الإطار المحدود، تمكّنوا من وضع نظرية متكاملة عن شروط صحة الرواية، وبالتالي عن معنى السنّة. نظريتهم هذه لا تخصّ السنّة الإسلامية، بل تنطبق على كل سنّة. في هذا الإطار، تفوَّق الإنتاج العربي في تدوين التاريخ، على غيره، شرقاً وغرباً. أظهرتُ حدوده، وفي نفس الوقت بيّنتُ عمقه في إطاره المذكور.
لماذا لم تتطور صناعة التاريخ عند العرب من الإستوغرافيا إلى فلسفة التاريخ؛ هل كان ابن خلدون يستطيع ذلك ـ معرفيّاً ـ ولم يفعل؟
العروي: بل توجد عند المؤرخين المسلمين فلسفةٌ واعية بنفسها، إلا أنها متجذرة في العقل المطلق. التاريخ ظهورٌ وإظهار لباطن. والباطن مرسوم منذ الأزل. هذه الفلسفة قريبة مما يقول به بعض الفلاسفة. نعود، إذن، إلى ما قلناه سابقاً. العلم المطلق مقدَّم على علم الجزئيات، كذلك معرفةُ غاية التاريخ مقدَّمة على رصد أطواره.
اعتنيتَ بابن خلدون كثيراً، منذ رسالتك الجامعية عن «شفاء السائل»، في أوائل الستينيات، حتى «مفهوم العقل» في أواسط التسعينيات؛ لماذا ظل يغريك بمقارنته بغيره من الغربيين اللاحقين (مكيافيلي، بودان، مونتسكيو، أوغست كونت، ماكس ڤيبر)؟
العروي: كان ابن خلدون واعياً بنبوغه، لكنه لم يدرك إلى أي حدّ كان نابغة. لذلك كلما طالعنا أعمال غيره وعُدنا إليه، وجدنا آثاراً جديدة لهذا التفوق.
محدودية فكره مرتبطة بمحدودية مجتمعه. وهذه المحدودية هي التي تبرز مدى عبقريته. الأمر نفسه ينطبق على كل من أقَارنُهُ به، أرسطو، مكيافيلي، مونتسكيو. أفق كل واحد من هؤلاء محدود تاريخياً، فيظهر النبوغ والتبريز بالنسبة إلى هذا الحصر. لذا، لا يخطر ببالي أن أقارنه بداروين أو آينشتاين الكوسمولوجي مؤلف كتاب كيف أرى الكون.
لو فعلت ذلك لأخطأت في حقه ولتحول نبوغه إلى قصور.
بعد ما يزيد على خمسة وأربعين عاماً على كتابك «تاريخ المغرب»، هل تشعر أن التأليف في هذا الموضوع، في نطاق الدراسات التاريخية في مجمل المغرب العربي، حقَّق تقدُّماً علميّاً يُذكَر، ويستحق معه أن يُقال إن المغاربة انتزعوا تاريخهم من أيدي مَن كانوا يكتبونَه ـ من الغربيين ـ نيابةً عنهم؟ هل نحن على أعتاب كتابةِ تاريخ وطني في المغرب خاصة، وفي المغرب العربي عموماً؟
العروي: تَنَاقَص عددُ الباحثين الأجانب في تاريخ المغرب. وخَلَفهم باحثون محلّيون حققوا مكاسب مهمة، ولا سيَّما في ما يتعلق بتاريخ القرن التاسع عشر الميلادي.
لكن بما أن الوثائق المتاحة استُغِلت كلُّها، عاد الدارسون الجدد إلى النصوص التقليدية [كتب المناقب] فتأثروا بذهنيتها. لذلك نلاحظ أن ما صدر في السنوات الأخيرة حديثٌ في مظهره وتقليدي في محتواه. أشير بالطبع إلى الإنتاج المكتوب بالعربية.
انشغلتَ في الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية بتحليل سياقات تطوّر الاجتماع المغربي الحديث، في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتبلوُر الفكرة الوطنية في ذلك التطور، لكنك اعتنيتَ فيه كثيراً بموضوعات الإصلاح وأسباب إخفاقات مشاريعه المتعاقبة، وصولاً إلى لحظة الاحتلال الكولونيالي. هل استفاد المغرب من دروس الماضي في هذا المجال، منذ الاستقلال الوطني؟ هل قطع شوطاً في الإصلاحات على طريق بناء الدولة الوطنية؟
العروي: قلت مرة إن المؤرخ لا يتعاطف مع رجل السياسة. البحث التاريخي الدقيق والموضوعي لا يخدم دائماً أهداف الدولة القومية، بل قد يضعفها بالكشف عن هويات غميسة. وهذا ما حصل في القرن التاسع عشر الأوروبي.
لقد عارض الكثيرون معارضة محتشمة ما جاء في كتابي جذور الوطنية المغربية. مفهوم الدولة القومية لا يفيد بالضرورة وحدة الأصول والمرامي. قد يكون تعددٌ ولا تتحقق وحدة الانتماء والخضوع لسلطة واحدة إلا بشروط، ضمنها التقيد بالذهنية التاريخانية.
فُهِمتْ دعوتُك في «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» إلى القطيعة مع الماضي والقرون الوسطى خطأً؛ ظُنَّ أنك تدعو إلى موقفٍ عدميّ من التراث، بينما قصدْتَ بهذه القطيعةَ المعرفية مع عقل الماضي. بعد الذي كتَبْتَه في «مفهوم الدولة»، و«مفهوم العقل»، و«الإسلام والتاريخ»، و«السنّة والإصلاح»، تبيَّن أنك تناولت القضايا التي تناولتها مستصحباً نصوص التراث ومتونه. إلى أيّ حدٍّ يمكن تناوُل التراث والانفصال عنه في الوقتِ عينِه؟ وهل التفكير فيه من شروط الحداثة؟
العروي: لا تتم القطيعة مع التراث، أي التحرر من هيمنته، إلا بدراسته دراسةً تاريخية نقدية. نلاحظ أن من يتشبّث بالتراث هو، في الغالب، أكثر الناس جهلاً به. يختزل الثقافة العربية في الإنتاج الديني، وهذا في الإنتاج الفقهي، وهذا في الإنتاج السنّي … إلخ، بل من الأصوليين من لا يعرف من التراث إلا فتاوى ابن تيمية.
بدأت الحداثة في الغرب بتحقيق نص التوراة والإنجيل، ثم مؤلفات أرسطو وأفلاطون وسائر مؤلفي يونان واللاتين. وهذا العمل لا يزال مستمراً إلى اليوم. كل جيل يؤوّل التراث تأويلاً جديداً، وهذا التجديد المستمر مقبول ومطلوب، لا أحد ينعته بالزيغ أو العقوق.
تختلف التأويلات، منها المحافظة ومنها الثورية. لكن الجميع، بما أنهم يعيشون في مجتمع حداثي، يلجأون في المرحلة الأولى، مرحلة التحقق من النصّ، إلى المنهج النقدي. إذا أجمع علماء الحفريات على أن الآثار الفلانية تدل على مرور النبي الفلاني بالقرية الفلانية، لا أحد، حتى من أعضاء الكنيسة، يجرؤ على ردّ الإجماع اعتماداً على قول أحد القديسين.
لا جدال في منهجية التحقيق. يكون الاختلاف في التأويل، وذلك بحسب المجالات. طرائق تأويل النصّ الديني مخالفة لطرائق تأويل النصّ الشعري أو الفلسفي أو النقدي.
هل ما زلت تعتقد أن على العرب أن يتجرّعوا الحداثة كما تجرّعتْها أممٌ قبلهم؟ وماذا لو كان ثمنُ تجرُّعها قاسياً: أعني من قبيل توليد نقائضها! ألا تزدهر الأصولية في سياق التحديث واللَّبْرَلة والعولمة؟
العروي: الحداثة واقع اجتماعي معيش، لا مقولة قابلة للتحبيذ أو التفنيد. تظل المعارضة للحداثة في كل الأحوال لفظية.
ما يهم المؤرخ، وأكثر منه رجل الدولة والمسؤول السياسي، هو كيف التعامل مع هذا الواقع الجاثم. يقول البعض: الحداثة هي صورة من الاستعمار، استعمار روحي بدلاً من أن يكون مادّياً فقط. طيّب، كيف تعامل الوطنيون مع استعمار الأجساد؟ هل قالوا: لا قيمة له، لا وجود له، نعيش على هامشه ولا نلتفت إليه؟ لو فعلوا ذلك لكانوا اليوم في وضعية هنود أمريكا. هل كان ينفع في مدافعة الاستعمار النفي والتجاهل أم التعرّف إليه، التعمق في ماهيته ثم تجريده من بعض وجوه نفوذه؟ تجسدت الوطنية في التكيف مع الاستعمار سياسياً، وفكرياً، وسلوكياً، عندما اقتنع الجميع أن لا جدوى في المقاومة العسكرية وفي الانكفاء على النفس.
الحداثة مثل الاستعمار، حالة قائمة، إما مفروضة ومرفوضة قولاً وعقائدياً، وإما معترف بها، متحكَّم فيها.
الأصولية لا تمنع ولا تمانع، إنما هي انعكاس باهت لأصولية رافقت كل أطوار الحداثة في الغرب. هذه هي الحقيقة المرّة.
نرى اليوم صراعاً بين تيارين، أحدهما يريد أن يتحكم في الحداثة حتى يستطيع أن يوجهها توجيهاً مفيداً للمجتمع، والآخر يتظاهر بالرفض والممانعة، فيترك الحداثة تسير في صالح الغير. الكل يخشى المواجهة، فتُترك الساحة للتيار الأكثر تعلقاً بالماضي.
يقلّ الحسم، يعمّ التردد والتردّد دائماً خسارة.
هل الإصلاح أفقٌ مُقْفَل في المنظومة السنّية، كما يوحي بذلك كتابُك: «السنّة والإصلاح»؟
العروي: تتكون السنّة على مراحل عبر الزمن. في كل مرحلة تقول السنّة عن ذاتها إنها إصلاح، أو بعبارة أدق صلاح، أو استحضار الأصلح. تسير مع الزمن لكن تنظر إلى الخلف، لا إلى الأمام. لا تحيد عن الاتجاه المعاكس. لذلك تقول عن كل ما لا تتوقعه إنه نابتةٌ. منطق السنّة هو دفن النابت أو المستنبت.
إذا أردنا تصور إصلاحٍ من نوع آخر، يساير الزمن الفعلي، لا بد لنا من إبطال مفعول هذا الجهد المعاكس.
كيف؟ بالنبش عن الجذور. لا بد من الكشف عن كل مرحلة من مراحل تكوين السنّة وإعادة الاعتبار، على مستوى الفكر، إلى ما تصفه هي، أي السنّة المكونة، بالبدعة النابتة. البحث التاريخي الصرف، ما يسميه المحدّثون أسباب النزول، هو فقط فهم ما حصل والإبانة عن معقولية السنّة. لا بد، إذن، من الارتقاء من هذه النقطة إلى ما أسميه أنا الموقف التاريخاني. هذا يعتمد على مكاسب البحث التاريخي، ثم يتجاوزه إلى التصميم على قلب الاتجاه المعاكس للتطور الطبيعي. لا تظهر بدعةٌ إلا لسبب، ولا توصف بأنها بدعة سيئة يجب استئصالها إلا لسبب. ففضح ذلك السبب هو في آن كشفٌ عن منطق السنّة ونزع صفة الإطلاق عنها.
هذا ما فعلته في كتاب السنّة والإصلاح، مركزاً على الفرق بين مرحلة البحث التاريخي والحسم التاريخاني الذي هو أساس التجديد الحقيقي.
منطقُ العقيدة غيرُ منطق السياسة؛ ذلك ممّا يستفاد من كتابيْ: «السنّة والإصلاح»، و«من ديوان السياسة». هل نحن أمام منطقيْن متعارضين: الوجدان والعقل؟
العروي: قلت في خاتمة كتاب السنّة والإصلاح: إما مجاهدة وإما تذوق. وفي النصّ الفرنسي قلت Militantisme ou esthétisme. الكتاب كلُّه مؤسَّس على هذه الثنائية التي هي، في الوقت ذاته، واقعٌ ملموس (الروح مقابل الجسد) وأحد مكاسب أوائل الفلسفة (theoria vs. praxis). كما يقابل ابن خلدون قوةَ التميز وقوةَ الإنجاز أو الإنشاء.
من أين تنشأ الأيديولوجيا؟ من الإصرار على التوحيد القسري، تغليب النظر على العمل أو تغليب العمل على النظر.
بما أنني أرفض الأيديولوجيا، فإنِّي أقبل الثنائية وأعمل على توظيفها.
أقول إن الأفضل والأنجع، نظراً إلى محدودية معارفنا، أن نعمل على ملاءمة منهاج التفكير مع المجال الذي نفكر فيه.
نفكّر في نطاق الزمن، ونتأمل إنجازات الإنسان بهدف الإنشاء، بحسب عبارة ابن خلدون. علينا أن نمسك بالمنطق الملائم لهذا الغرض. لا يمكن لهذا المنطق الهادف أن يفرط في الموضوعية والواقعية، وإلا حاد عن خطّه. أستنتج أن هذا الشرط لا يتحقق إلا في المنهاج التاريخاني.
ما الذي دعا ابن خلدون إلى التحلّي بالواقعية؟ التفكير في الحضارة، والحضارة إنجازٌ بشري خاضع لسيرورة الزمن؟
ماذا يحصل عندما نطلّق الزمنَ والتاريخ والعمل الهادف، وما يرتبط بكل هذا؟ نعود إلى النفس، ننفصل عن الزمن، نتجرّد، نتوحّد … هذه مفردات من قاموس الحكمة، أكانت فلسفةً إلهية أو تصوفاً ربّانياً.
يتكلم ابن باجة على تدبير المتوحّد. التدبير عمل وإنجاز، لكن بهدف سعادة الفرد المنعزل، الذي لم يعُد يهتم بما وبمن حوله. لا يتطلع إلى تغيير أي شيء من الدنيا وترك آثار باقية. لا غرابة أن يصاحب هذا الموقفُ منطقاً غير الذي يلجأ إليه محلّل الإنجازات التاريخية.
يقرر الحكيم الانفصال عن الزمن، التاريخ، المجتمع، ماذا يهمه من أمر «الخارج» البرّاني؟ كل ما يهمه هو الوعي الجواني. كل العبارات والمفاهيم تؤخذ على وجه النقيض. من هنا اللجوء إلى منطق التأويل (herméneutique). المنهج التأويلي صالح لفهم ما «يُلقى في النفس»، وغير صالح لفهم ما يفعله الإنسان في «الخارج».
أشعر بكل قوة أن أي محاولة لتوحيد المناهج تعسفيةٌ وغير ناجعة. فأقِف عند الثنائية ولا أتخطاها. لكل مجال معرفي منهاج يوافقه. التاريخانية تناسب مجال السياسة. التأويلية تناسب مجال الحكمة. هذا ما دعاني إلى القول بالعلمانية التي لا تنفي في نظري الروحانيات. من يقول ذلك لا يعي ما يقول.
الحكيم نفسه يميّز بين طب الأجساد وطب النفوس.
تناولتَ مسألتيْ اللغة والتمثيل الديمقراطي ـ في جملةِ ما تناولتَه ـ في كتابك «من ديوان السياسة»؛ هل وجدتَ في التعديلات الدستورية (2011)، وفي الجدل الذي دار حول اللغة العربية الفصحى والعامية، بَصْماتٍ ما لأفكارك، أم أنك شعرت باستمرار حالةِ تجاهُلِ «المجتمع السياسي» للفكر؟
العروي: أصفّق بالطبع للتعديلات التي أدخلت على النظام السياسي في بلادنا. لا أنسى أن الدستور الجديد جاء نتيجة توافق بين الأحزاب، وبالتالي لا يلبّي رغبات كل الجهات. أرى أنه لا يرقى إلى ما تتطلبه وضعية المغرب في عالم اليوم.
البعض يقول إن الشعب المغربي، بمكوّناته جميعِها، غير مهيأ لإصلاحات أعمق وأشمل. كما يقال: لسنا في السويد. قد يكون الأمر كذلك. علينا، إذن، أن نتسلح بالصبر.
لماذا اخترتَ المواجهة المباشرة ـ بالكلمة والصورة ـ في المعركة حول اللغة، بينما ركنْتَ إلى الصمت حين اندلعت أحداث ما يُسمّونه «الربيع العربي»؟
العروي: في الجزء الرابع من كتاب الأيديولوجيا العربية المعاصرة تكلمتُ بإسهابٍ على الثقافة، مشدّداً على أن الفولكلور لا يمكن أن يحلّ محلّ الثقافة الكلاسيكية، أو ما يسمّى أحياناً الثقافة العليا (Haute Culture).
من لا يعرف هذه الثقافة، أو يعرف شذراتٍ منها عبر الترجمة، يعتبر أن المجتمع المغربي مجتمع إثنوغرافي، عارضتُ بشدة هذا الموقف، فلم يعجب ذلك الكثيرين. فانتقد بعضهم كتاباتي لا بعد تمحيص نظري، بل انطلاقاً من اشمئزاز نفساني، اشمئزاز الشاعر من تأكيدات المؤرخ.
الحق هو أني لا أعادي الثقافة الفولكلورية، ولا الأدب الشعبي، ولا أعارض التأليف باللهجة المحلية، أياً كانت، ولا البحث في أبْنيتها، لكني أرفض أن نتصرّف وكأننا أمّةٌ أمّية. خرجنا من الأمّية منذ قرون، وازدواجية اللغة بين مكتوبةٍ ومحكيةٍ ليس دليلاً على أننا ما زلنا أمّيين. هذه مفاهيم مغلوطة ورثها البعض عن كتّاب جُهَّال أو مغرضين. الرأي حرّ. من يعتقد أننا كنا وما زلنا أمّة أمّية، وأنّ علينا أن ننشئ ثقافة خاصة بنا مبنيةً على وضعنا الحالي، من دون أن نعبأ بما أنجز من قبل، وفي غير بلدنا، له ذلك. لكن ليس له أن يفرض نظرته على الجميع. وهذا بالضبط ما جاء في الدعوة الأخيرة، التي كانت تتمّةً لدعوة سابقة كُتب لها قسطٌ من النجاح. أراد البعض الاستفادة من هذه الخطوة وإحراز مكسب جديد يُرسّخ الوضع اللغوي بترسيم اللهجة الدارجة من دون اعتبار للتكلفة وللنتائج.
لو نجحتِ المحاولة لعُدنا بالفعل إلى حظيرة المجتمعات التي انتقلت، أو تحاول أن تنتقل، من البداوة إلى الحضارة، بحسب التعبير الخلدوني، كما لو لم يحصل هذا الانتقال، بالنسبة إلى كثير من أبناء شعبنا، أثناء القرن الثاني الهجري، ونتج منه تراث غزير.
يبدو المقترح تربوياً صرفاً، لا يمسّ في شيء الثقافة العامة. هذه مغالطة. لا بد من أن يُؤدّي تطبيق المقترح إلى نتائج ثقافية على المدى المتوسط. بعد سنوات قليلة تضمحلّ علاقتنا بالتراث العربي الكلاسيكي. كنا، وربما لا نزال، على وشك ارتكاب هذه الخطيئة الجمّة.
ما الذي دفعك إلى خوض تجربةِ ترجمةِ بعض مصادر الفكر الحديث إلى اللسان العربي؟
العروي: الدافع الأساس هو محدودية اطلاع المؤلفين العرب المعاصرين على الإنتاج الغربي المفيد. يكتفون بالملخصات. عادتهم الاعتماد على المراجع الثانوية، حتى عندما يتعلق الأمر بالمؤلفين المسلمين.
عنوان الفكر الحديث هو العودة إلى النصوص الأصلية، نصّ التوراة، لا ما قاله آباء الكنيسة، نص أفلاطون وأرسطو، لا ما قاله شُرّاح الإسكندرية.
قارن ما جاء في عقيدة روسو، وما جاء في السنّة والإصلاح، قارن ما جاء في تأملات مونتسكيو، وما جاء في من ديوان السياسة، ترى الفائدة من الترجمة.
أتمنى أن يقوم آخرون بترجمة نصوص من هذا المستوى، ولا يكتفون بتعريب روايات أغاثا كريستي.
المصادر:
(*) نُشر هذا الحوار في مجلة المستقبل العربي العدد 427 في أيلول/سبتمبر 2014.
وفي الأصل، نشر هذا الحوار في مجلة النهضة، العدد ٨ (ربيع – صيف ٢٠١٤ )، ص ٩- ٢٥ .
الرابط في موقع مركز دراسات الوحدة العربية
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.