إصدار 2019
هذه قراءة عرض للكتاب وليست تقريضا من جهة، ومن جهة ثانية، هي قراءة تورطك في عديد الاستدعاءات التي تفرض نفسها لتجد نفسك في الجمر نفسه.
كتاب الصديق الصحفي والإعلامي بسام الكعبي. لن اقول الأسير المحرر حيث أصبح الأسْر أداة لأسرى يستغلونها ويعرضونها لطواغيت السياسة كي تستغلها، رغم أن الكتاب بجِماعه عن الأسرى والأسر. وبكل مكاشفة، فبعد الوطن ضحايانا بايدينا إلى حد كبير هم الشهداء والأسرى لأننا لم ننصفهم/ن.
فالمشتبك مع العدو هو الشهيد، واليوم هم الأسرى، حيث الصراع بينهم وبين العدو في ضيق مكانهم وعُلو مكانتهم، مقابل اتساع فضاء العدو ووضاعة وجوده وإيديولوجيته بما هو كيان عميل للإمبريالية من عامل النظافة حتى رئيس الوزراء، وأعضاء الكنيست وخاصة العرب منهم، ولو هذا لما كان.
أما نحن ففي صراع على دولة أو دولتين أو دول، وأما الكارثة فكل ذلك بفخر. هذا عن السياسة أما عن الحياة اليومية فقد قادتنا أوسلو إلى حالة من البحثين:
-
باحثون عن لقمة اليوم
-
وباحثون عن صفقة القرن.
هل أحسن الكاتب اختيار التوقيت ليتحدث عن الأسرى في زمن استدخال الهزيمة وتحول المرحلة إلى مرحلة الأوغاد، ربما نعم وربما لا، ولكن بالتأكيد ليس “لَعّم”.
من الذي اصطلى أكثر بالجمر، هل هن الأمهات في العدو بين محطة واخرى، ومن شاحنة لأخرى، ومن صيف لآخر، وخلفهن جندي أو آخر، أم الذي اصطلى بأشد هم الذين وراء القضبان والأسيجه حيث دخلوا إلى هناك بانتظار تحرير وتحرًّر، فإذا بهم علامة للنسيان!
صبر وتحدٍ وتضحيات وقوة مثال ومواجهات وثقافة وإضرابات، كل هذا وراء القضبان والأسيجة، وهناك كذلك من أُلحقوا بالركب صدفة وبلا قصد منهم، وهناك من خرج وتخارج. نعم كل هؤلاء اسرى ذات يوم وذات زمن. وهناك من ناضل بشدة وقسوة، سواء كووطني او قومي أو ماركسي، ثم كوَّع داعيا لدولة معهم أو دولتين، فمسح ماضيه ومسحنا ماضيه.
كل هذا يُجيز ليَ السؤال: كيف يمكن لمن اصطلى بالجمر أن ينسى كل ذلك ويتحول إلى مسخٍ وأداة ضد قضيته؟ فالعبرة ليست في الاكتواء بل العبرة في أيلولة الحروق النفسية والقلبية والذهنية، وهل تحولت إلى الشق الديالكتيكي بان المادة لا تفنى بل تتحول بارتقاء أم ما كان للبعض أن يتحول/تتحول إلى معدن خسيس!
هذا الوصف اللئيم من جانبي قد لا يُعجب الكثيرين، لكن النقد هو ما يشفي الجراح ويُحيل الحروق المتأتية من الجمر إلى عبرة تضع على مدماك التاريخ لَبِنة من ذهب.
فما قيمة تضحيتك في وسط الجمر إذا ما انتهى وطنك فيك لتصبح أنت نفسك مثابة مُروِّج للاستدوال بدل التحرير؟ إذا ما شاركت في الفساد، وفي القمع والاعتقال والتنسيق الأمني والارتشاء؟ تباً للمرحلة، فلو مارست القعود في البيت لكنت اثقل من حجر الرحى.
ما قيمة نضالك حين تتحول إلى داعية ماركسية للتعايش مع العدو في وطن هو يقول بأن الأرض له حصراً، وأنت عليك الرحيل أو الاندساس تحت فرجه السياسي والاقتصادي والثقافي ايضاً؟
في المتن:
يورد الكاتب وقائع إنسانية عديدة كشواهد على وحشية الإنسان في قمع الإنسان. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، بين الأمثلة الواردة كان أنطونيو غرامشي الذي انبرى جسده قبل أن يُخرَج من السجن إلى القبر سريعاً. تهالك جسديا ولم يتهالك فكريا. تتفق في الكثير معه وتختلف في القليل فلا اكتمال للبشر.
جميل، كان الحارس يحول بين غرامشي والنوم، وكان حراس معتقل بل زنازين العبدلي في عمان 1965 يحولون بيننا وبين النوم طوال الليل، لكن ليس بفتح وإغلاق الباب بل بالقيام بتعداد المعتقلين ووجوب تنبيه من كان نائماً. هي مدرسة واحدة، فعلم التعذيب معولم، ونضال السجناء معولم كذلك.
من تفاصيل الكتاب عذابات بشير حاج علي : “العسف او التعذيب في الجزائر”. اذكر انني قرأته قبل خمسة عقود ونيِّف. ولست اليوم بصدد دقة الوصف والعرض بقدر ما أستحضر أطروحة فرانز فانون عن مآل ثورات بلدان المحيط وسيطرة الكمبرادور، وقيامها باستعادة الاستعمار حيث وجدَت أنها حصلت على كنز لا يمكنها إدارته إلا بالردة.
كتب فانون ذلك ورحل عام 1961 اي قبل النصر بعام، وها هي الجزائر تعيد المخاض بقسوة ومعاناة ولا احد يدري بعد اين المفر.
في الأدب التسجيلي لتجارب السجون يورد الكاتب العمل المبكر لخليل بيدس في حقبة الاستعمار، وليس الانتداب البريطاني، وصولا إلى “دفاتر فلسطينية” للراحل معين بسيسو عن السجون في الحقبة الناصرية ، وصولا إلى حقبة السجون في فترة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الإشكنازي بعد 1967 وكتاب أسعد بعد الرحمن، “أوراق سجين” .
كتاب اسعد عبد الرحمن كان الأول الذي تحدث عن أول إضراب في سجون العدو بعد 1967 وهو الذي قمت به لوحدي في تموز 1968حين لم تكن ثقافة الإضراب عن الطعام قد بدأت في المعتقلات. وبعد سبعة ايام اضطر قائد سجن بيت ليد لإدخال اول كتاب إلى السجون وهو The Political Parties تأليف موريس دوفرجيه الفرنسي وكان جزء من دراستي في الجامعة اللبنانية عام 1965. لا أنسى شعوري حين سلمتني الكتاب إدارة مشفى سجن الرملة وأعادتني في البوسطة إلى سجن بيت ليد.
يُعرِّج الكتاب على كتاب وليد دقة النوعي “صهر الوعي ، أو إعادة تعريف التعذيب”. وهذا أعاد لي حدث عام 1968 في سجن بيت ليد حيث عوقبت من قبل ضابد السجن وهو يهودي عراقي اسمه : مار:حبّة” يقرأ العربية جديا كعراقي، كان قد قرأ رسالة إلى اسرتي كتبت فيها: “إنهم يحاولون تحويلنا إلى اصفار”. طبعاً عوقبت بعدة ايام زنزانة.
مثل مختلف الكتب يحوي الكتاب مفارقات ومواقف متناقضة للبعض. أحدهم قضى عقدين من الزمن في السجن، لينتهي في تصالح عميق مع الكيان داعيا لدولة واحدة مع اليهود “الحضاريين” وبأن الكيان ليس هو وجهه العسكري الحربي بل “الثقافة والحضارة والديمقراطية…الخ” وربما نسي تغنيج المرأة في “اليويرةو فيجن” تبا للجوع إلى العبودية. عليك السلام يا مالك بن نبي. فليس وحده الإسلام الذي يجبُّ ما قبله بل كذلك التطبيع.
لعل الأهم مفارقة أخرى تناولها الكاتب بدرجة من التعاطف وهي الحالة التي قلما عرفها الناس هي المتعلقة ب نلسون مانديلا. مناضل قضى ردحا من الزمن في سجون الإمبريالية الرثة “جنوب إفريقيا، وخرج من السجن إلى الرئاسة. لكنه بدل أن يهدي تضحياته لشعبه أهداها في التحليل الأخير إلى الثورة المضادة فكان الفساد وكان الانتماء للسوق الراسمالية وعدم التنمية لتبقى جنوب افريقيا كما وصفتها في مقالة لي عام 1995 حين زرتها بأنها: ” سلطة بيضاء بوشاح اسود”. هنا لا يمكنك سوى ان تعقد مناظرة بين مانديلا وبين فرانز فانون. هذا هو الضد والضد في ديالكتيك ماركس، بل وديالكتيك دوقلة المنبجي في قصيدته “دعد”:
“ضِدَّان لمَّا أُستُجْمِعا حسُنا… والضد يُظهر حسنه الضدُّ”
تناول الكتاب ألوانا من المقاومة في السجون ومنها تشغيلهم في بناء سجونهم. وكما اذكر كان من أشد الصدامات مع العدو هي محاولات تشغيل السجناء في نسيج شبك تغطية دبابات العدو.
كثيرة هي القضايا التي مر عليها الكاتب، بعيدا عن تجربة الأسرى وأهاليهم/ن، مما يُغري بالذهاب إلى التداعيات التي تتوالد عنها، من ضمنها ما ورد عن عراق الرئيس صدام حسين، الرجل الذي اثار مواقف متناقضة منه متناقضة تناحريا. نَصفه بالشهيد لأنه الوحيد الذي قصف الكيان وهذا لم يفعله اي نظام عربي بعد، ويصفه البعض ب “المقبور” في سلوك بعضنا الذي هوى ليكون عميلا/ة للحليفة إيران!
ربما صار علينا الخروج من دائرة القول القبائلي في السياسة بأنه ما من حاكم علينا اعتباره قدوة. وهنا يكون الحد الأدنى من محبتنا لمن يقرؤوننا ومن نجلبهم للحياة أن يكونوا ذوي تفكير نقدي، وهذا لا يتاتى دون وعي وقوة ذاتية تسمح حين الضرورة بالاشتباك. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فهذا نفسه يخلق قدرة اشد قوة من الأولى وهي مراجعة المثقف لمواقفه ونقدها حين يرى تهالكها. لا قداسة أبداً ، ولكن يبقى للوطني فردا او قائدا مكانته مهما اعترته من ذاتية وحتى قمعاً، لأن الوطن كل شيء.
سئمت الحديث عن نفسي في علاقتها بموضوعات في الكتاب، لكن الكاتب عرَّج على ذكر هذا العروبي من “الإمارات البريطانية المتحدة غانم غباش وهو رجل يستحق ما يستحقه حيث عرفته في بريطانيا وتحديداً إبان التطورات التي قادت لاغتيال ناجي العلي ووصول خبر لي بأنني ضمن قائمة 14 إلى الجنة. كان بيت غانم غباش كل صيف مكان لقاء طلبة عرب عروبيين في كل اسبوع لنقاش الوضع في كل قُطر وقطر. ودعته يوم هربت من لندن وعلمت برحيله فيما بعد.
سيكون تآمراً على متن الكتاب إذا ما تابعت الحديث عن جوهره بما هو توصيف لمعاناة أهالي الأسرى ذلك لأن التدخل يصبح فظَّاً من جهة، ومن جهة ثانية، فأسلوب الكاتب هو الأفضل بلا مواربة.
بقي أن أختم بما قدم الكاتب عن تجربة جنوب إفريقيا، بأن محاولات نسخ هذه التجربة ألقت بنا في مهاوي أوسلو الأمر الذي جعل البلد تعج بالصرخات للاستسلام للكيان في دولة واحدة يقول مقابلها الكيان كل الكيان: هنا كرسي واحد لنا نحن! والكرسي قصير الأرجل حيث لا مجال لكم لتكونوا تحته.
ملاحظة: صدف تاريخ أهداء بسام كتابه إليْ 25-3-2019 ، هو يوم 25-3-1965 حيث اعتقلت من قبل الجيش الأردني على الأسلاك الشائكة لقرية بيت صفافا المحتل نصفها حينذاك حيث كنت مع رفاق من ابطال العودة نحاول الدخول إلى الوطن المحتل.


_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.