حوادث 8 ماي 1945: أسبابها ونتائجها، محمود الأطرش مقتطف من ”طريق الكفاح” مخطوط مذكرات ـ الجزء الثانين، نوفمبر 1972

ملاحظة من “كنعان”

وافاني الرفيق “بومدين لشلاش” بالوثيقة التالية التي كَتَبَها “محمود الأطرش”، وهو جزائري الأصل، من مواليد فلسطين (القدس – 1903)، ومن قيادات الحزب الشيوعي الفلسطيني، ومن قيادات “الأممية الشيوعية الثالثة”. 

نَشَرت “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” الجزء الأول من مذكراته سنة 2015، ولا يزال الجزء الثاني مخطوطًا… مع الإشارة إن يوم الثامن من أيار/مايو 1945 يُصادف يوم احتفال أوروبا بانتهاء الحرب العالمية (الإمبريالية) الثانية (ط. م )

فيما يلي تقديم الرفيق بومدين لشلاش: 

هذا مقتطف من ”طريق الكفاح” الجزء الثاني من مخطوط مذكرات رفيقنا محمود الأطرش القائد   الشيوعي الجزائري الفلسطيني عضو مجلس الأممية الثالثة ممثلا لأحزاب العالم العربي ما بين 1936 و 1938، يسرد فيه وقائع أحداث 8 ماي 1945  الأليمة التي مهدت لتفجير الفاتح من نوفمبر 1954 ويحللها من منطلق ماركسي ـ لينيني

تحيات نضالية

ب.لشلاش

ملاحظة

بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث خرج من الزنزانة بالجزائر نشط محمود الأطرش لسان حال الحزب الشيوعي الجزائري بصفته محرر رئيسي” الجزائر الجديدة” الذي كان عضوا في لجنته المركزية منذ التحاقه بالجزائر في 1939 بعد أن كان من رواد  الحزب  الشيوعي  الفلسطيني والحزب  الشيوعي السوري ـ اللبناني ما بين 1930 و 1936.  قريبا سيصدر الجزء الثاني من مذكراته.

الطاهر المعز

هيئة تحرير “كنعان”

■ ■ ■

   حوادث 8 ماي 1945: أسبابها ونتائجها، محمود الأطرش مقتطف من ”طريق الكفاح” مخطوط مذكرات ـ الجزء الثانين، نوفمبر 1972  

لم تكد تمضي بضعة أيام على اعتداءآت الشرطة الفرنسية على مظاهرة القوميين يوم أول ماي في الجزائر العاصمة، ولم تجف بعد الدماء التي أراقتها، والتي لم تكن سوى بداية محتشمة بالنسبة لحوادث   8 ماي 1945 في مدينة سطيف وما تبعها من اضطرابات دامية أودت بحياة 45 ألف جزائري، ذهبوا ضحية غدر غلاة المعمرين الفرنسيين، وانتقامهم الوحشي وتشفيهم من الروح الوطنية والاستقلالية، التي بدأت خلال الحرب العالمية الثانية، وإثرها تخمر الشعب الجزائري.

صادف يوم 8 ماي 1945، أي يوم نهاية الحرب العالمية الثانية في أوربا واستسلام آخر معاقل النازية للجيوش السوفييتية الظافرة والحليفة، صادف يوم السوق الأسبوعية في مدينة سطيف، ويؤم هذه السوق عادة من 10 إلى 15 ألف فلاح، يأتون للتسوق من مختلف القرى والدساكر المجاورة منها لمدينة سطيف، والبعيدة عـنـــها.

رخصت الإدارة المحلية، قبيل 8 ماي 1945، لجماعة من المسلمين الجزائريين، في القيام بمظاهرة، ووضع إكليل من الورود أمام تمثال الموتى. ولكن لمن أعطيت هذه الرخصة ؟ فإن حاكم مدينة سطيف الإداري(كما يقول فرحات عباس في كتابه “ليل الاستعمار”) يجهل أو يتجاهل ذلك. يدعي ذاك الحاكم أن جماعة من المسلمين أتت إليه بطلب الترخيص شفاهيا للقيام بهذه المظاهرة، وقد ظن حسب قوله أن تلك الجماعة كانت من “حزب أحباب البيان والحرية”. ولم يطلب منها طبقا للإجراءات القانونية، تقديم هذا الطلب كتابيا. وبقي رئيس بلدية سطيف بمعزل تام عما جرى حول هذه القضية، بينما علم والي قسنطينة، ليسترادكاربونيل، بالمظاهرة ووافق على قيامها، وأعطى أوامره من جهة أخرى بإطلاق النار على المتظاهرين إذا رفع العلم الجزائري. بهذه الكيفية نسجت خيوط تلك المؤامرة الفاشية والانتقامية الرهيبة.

بدأت المظاهرة سيرها من ضاحية المحطة، بالقرب من الجامع الجديد، إلى مدينة سطيف، والعلم الجزائري على رأسها. وأحاطت الشرطة بالمظاهرة من كل جانب، ولم تتدخل إلا بالقرب من “مقهى فرنسا الكبير” في مركز المدينة. وهناك تقدم، في البدء أحد ضباط الشرطة، الكوميسير “لافون” محاولا انتزاع العلم الجزائري من يد حامله، ورفض حامل العلم ومن حوله تسليمه، عندها أطلق رجال الشرطة نيران مسدساتهم على المتظاهرين، فقُتل واحد وجُرح عديدون. ومن ثم بدأت الاضطرابات وأعمال    القتـل والتـدميـــر.

تحول الاصطدام بالشرطة بسرعة البرق إلى اصطدام بين الأوربيين والمسلمين، فقتل وجرح عديدون، وبلغ عدد الضحايا من الأوربيين 102. هذا في الوقت الذي بقيت فيه الجماهير الشعبية الواسعة خارج تلك الاضطرابات والمعارك، وبوغت الشعب الجزائري الذي كان بعيدا عنها، بوقوعها. ومع ذلك فقد دفع ثمنها غاليــا.

انتقم غلاة المعمرين الفرنسيين من الجماهير الشعبية العاملة والفلاحين الجزائريين أشد انتقام، ومن الروح الوطنية والثورية الناهضة في الجزائر، وبالأخص على أيدي الجيش الفرنسي، من جنود اللفيف الأجنبي والسنغاليين والطابور المغربي والمشاة الفرنسيين والجزائريين والبحرية والطيران، بقيادة الجنرال الفرنسي دوفال، والكولونيل بورديلا، وغيرهما من الذين تكالبوا، في هجماتهم المسعورة، على القرى الآمنة والسكان الجزائريين المسالمين، يمعنون فيهم قتلا ونهبا.

لم يسلم أحد من أذاهم حتى الشيوخ والنساء والأطفال، واستخدم المعمرون الأوربيون بدعم من الشرطة والجيش الفرنسي، أشد أنواع الفتك بربرية بالسكان العزل، التي لم يؤت بمثلها في ظلمات العصور البربرية، سواء في سطيف وقالمة وعنابة وخراطة وواد مرسى وغيرها من منطقة قسنطينة. كانوا يعتقلون الشبان بالمئات، وبعدما يشبعون نهمهم وغرائزهم الوحشية بتعذيبهم، يطلقون الرصاص عليهم زرافات زرافات، حتى أصبح شعار “اصطياد البرنوس” أي اصطياد العربي، شعار المعمرين السائد، كما في بدء عهد الاحتلال.

أعلنت حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وسيق من بقي حيا من الشبان والرجال بالآلاف إلى مختلف السجون والمعتقلات، وشنت حملة إرهابية واسعة النطاق، كانت الأحزاب القومية والنقابات ضحيتها، وأعدت المحاكم العنصرية، التي توزع أحكامها “القراقوشية” الفاشية يمنة ويسرة، دون حساب، ودون التقيد بقوانين أو ما شابهها، على كافة المعتقلين والسجناء الجزائريين. وكان الكره العنصري هو لغة المنطق الوحيدة لدى المحاكم الفرنسية، مما زاد في الهوة القائمة بين الجزائريين والأوربيين اتساعا، وضاعف في عدم الثقة الموجود بينهما، وبقي حزبنا مخلصا لنظريته الأمة الجزائرية في طور التكوين بالرغم من الوجود الإمبريالي الفرنسي في الجزائر.

كان حزبنا، نتيجة تلك النظرية، لا يعترف، آنذاك، حتى بوجود شعب جزائري، بل بوجود سكان جزائريين. ويلاحظ من يطالع جرائد وأدبيات حزبنا خلال تلك المرحلة هذه الظاهرة. جاء في جريدته الأسبوعية بتاريخ 17 ماي 1945:

“إن المحرضين المأجورين للهتلرية من “حزب الشعب الجزائري” وحزب الشعب الفرنسي[1]، حاولوا تعكير مظاهرات التضامن والاتحاد الكبرى، التي قامت ضد الفاشية، وسببوا قيام اضطرابات في قالمة وسطيف، أريقت فيها دماء الأبرياء من الأوروبيين والمسلميـــن”. ثم يقـول:

 “يشهد الحزب الشيوعي الجزائري بمسؤولية أسياد الاستعمار “آبو، بورجو، وسردا والإقطاعيين المسلمين…بن قانا، بلقاسم، أورابح، وبتواطئهم مع كبار الفيشيين الذين أبقوا في الإدارة والشرطة والجيــش”.

   “إن أهداف هذا التحالف المجرم هي تجديد انقلاب فرنكو في الجزائر ضد الديمقراطية، وإثارة حرب أهلية، وقمع أعمى وحشي، لوضع حرية الصحافة والاجتماعات و التنظيم في خطر، ولإلغاء التدابير الديمقراطية الأولية التي تضمنها قرار 7 مارس 1944، للمسلمين.”

                                                                                                                                وجاء في المطالب السياسية ما يلي:

1 معاقبة المثيرين لهذه الاضطرابات بصرامة والخونة الفيشيين والمباعين للاستعمار الفاشي وللهتلرية.

2– عزل فورا المسيو بيرك مدير الشؤون الإسلامية، ، المسؤول الأول عن هذه الاضطرابات.

3– تطهير الإدارة والشرطة والجيش.

4عزل الحكام الفيشيين والقياد اللصوص المجوّعين،وتسليم السلطات في هذه القرى إلى رؤساء الجماعات.

5– العفو عن جميع العناصر الشريفة المدفوعة من طرف الخونة.

6– إجراء بأسرع ما يمكن انتخابات في الجزائر.

                                                                                                                                     وجاء أيضا في مقال تحت عنوان : قوميون مزيفون وجواسيس مجرمون وخَدَمَة للفاشية ما يلي :

“نزع المغامرون، قادة “حزب الشعب الجزائري” الأقنعة عن وجوههم، فظهروا كمسلمين وقوميين مـزيـفـيـن.”

“يقدر المسلمون الشرفاء جميعهم اليوم، بما فيهم شبان “حزب الشعب الجزائري” الذين ضللتهم ديماغوجية القوميين المزيفين البوليسية، الجرائم التي قام بها أعوان السادة المعمرين، والإقطاعيين الأوروبيين منهم والمسلمين والإستعمار الفرنسي.

لم يكن أي أحد من “قادة” “حزب الشعب الجزائري”، على رأس المظاهرات التي أقيمت للتعكير والحط من قيمة التجمع الديمقراطية”.

ثم يقول: “وبالعكس، فقد أعطيت في كل مكان اللوحات والشعارات، التي تمجد مصالي الحاج، وتطالب بالاستقلال، إلى أولاد ممزقي الثياب، وإلى رجال جائعين، ليرفعـوها بعـدما وعـدوهم بتوزيع الخبز واللباس عـليهـــم”.

ينظر أحد هؤلاء المحرضين في مدينة الجزائر، بكل احتقار، إلى ضحاياه، قائلا: خير لهم أن يموتوا في النضال من أن يموتوا بوباء التيفوس”.

حملة العـفـو عن ضحايا القمع الإمبريالي الفرنسي

صحح حزبنا الشيوعي الجزائر الكثير من مواقفه، فيما بعد، حول هذه الأحداث الرهيبة، وقام بحملة شعبية جماهيرية عارمة، جندت عشرات الآلاف من الجزائريين من مختلف الميول، في لجان “المبادرة للعفو” عن ضحايا الإرهاب الإمبريالي، ودعمها الحزب الشيوعي الفرنسي بقوة، سواء بتدخلاته في المجلس الوطني الفرنسي، وبسعيه الدائب لدى مختلف الهيئات المسؤولة والوزارات، أم بإرساله أشهر المحامين للدفاع عن المتهمين وضحايا القمع الاستعماري، وقيامه بحملة صحفية ساعدت على تتويج هذه الحملة الشعبية الكبرى بالنجاح، بعد عدة أشهر من النضال المتواصل المرير والدائب، تم خلالها تفكيك تلك المؤامرة الفاشية الغادرة، والتشهير بالقائمين بها من غلاة المعمرين الفرنسيين، وأعوانهم الفيشيين في الإدارة الاستعمارية والشرطة والجيش، وما سلطوه من أشد أنواع القمع البربري على رأس جماهير الشعب العاملة والفلاحين، بغية وضع حد للنهوض الوطني والثوري الجارف في الجزائر. ومنع تطبيق قرار 7 مارس 1944، وكل اعتراف، مهما كان طفيفا للشعب الجزائري، ولو بجزء من حقوقه الوطنية والديمقراطية.

انتزع حزبنا بفضل هذه الحملة الشعبية الهائلة قرار العفو، الذي صدر في 16 مارس 1946، وأطلق سراح السجناء والمعتقلين كلهم تقريبا، عدا من ثبتت إدانتهم بحوادث القتل أو ما شابهها وقليل ما هم. وخرج الشعب الجزائري مع فصائله الوطنية والثورية مرفوع الرأس من هذه المعركة، التي عززت معنوياته وزادت في استعداداته للنضال من أجل تحرره الوطني والاجتماعي.

كنا خلال تلك الحملة نقوم باجتماعات خاطفة، في الشوارع المزدحمة والمقاهي والأسواق ودور السينما وغيرها، يقف أحدنا على كرسي أو على طاولة إحدى المقاهي، أو أي مكان مرتفع آخر، وأحيانا على أكتاف الرفاق، بينما يقف آخرون لحراستنا من مباغتة الشرطة، ينادي جماهير المارة أو الواقفة أو الجالسة في المقاهي، إلى الانتباه، وبعدما يأتي على ذكر ما قدمه الشعب الجزائري خلال الحرب العالمية الثانية من أكبر الجهود وأغلى التضحيات، ومنها 250 ألف جندي من خيرة أبناء الجزائر، قتلوا من أجل تحرير الشعب الفرنسي، من نير الاحتلال النازي الألماني، يذكر هدف المستعمرين من حوادث 8 ماي الرهيبة، وما لاقاه الشعب الجزائري من التقتيل والتشريد والتدمير والقمع على أيدي الجيش والشرطة والمعمرين الفرنسيين، تلك المؤامرة الغادرة، التي ذهب ضحيتها 45 ألف قتيل من جماهير الشعب الجزائري والفلاحين، هذا عدا الجرحى، ثم يطالب جماهير المستمعين للانضمام إلى لجان العفو لإرغام الحكومة الفرنسية على إطلاق سراح الآلاف من إخواننا المعتقلين والسجناء ضحايا القمع والإرهاب الاستعمــاري.

وبعد التشهير بالقائمين بتلك المؤامرة نطلب منهم التوقيع على عرائض وقوائم، كنا نعدها مسبقا، تطالب بالعفو وبإطلاق سراح كل ضحايا الإرهاب وحوادث 8 ماي 1945. وكنا نقوم بمثل هذه الأعمال أيضا عند توزيع المناشير والمنشورات الحزبية، والبيع الجماعي لجرائد حزبنا. هذا عدا المساعدات التي كانت تجمعها منظمات حزبنا لإغاثة المعتقلين والسجناء وعائلاتهم.

أسهمت تلك الاجتماعات الخاطفة والأعمال في رفع معنويات جماهير الشغيلة والفلاحين الجزائريين، وتنشيط الروح النضالية لديهم. كثيرا ما كان يطلب منا الشبان الجزائريون الإسهام في حراسة الاجتماعات وتوزيع المناشير والنشرات الحزبية، ويدعوننا للقيام بمثل تلك الاجتماعات في أحيائهم، دون أن تكون لنا سابق معرفة بهم، ويسهمون في جمع التواقيع على عرائض المطالبة بالعفو، وكثيرا ما كانوا يدعمون عملنا هذا بحجج جديدة لم تخطر ببالنا. وهذا أيضا، عدا الاجتماعات العلنية الكبرى التي كانت تقيمها منظمات حزبنا مع لجان المطالبة بالعفو في سائر أنحاء القطر الجزائري.

بلغ عدد أعضاء الحزب خلال سنة 1945 وما بعدها نتيجة تلك الحملة، ثلاثة أضعاف ما كان عليه سنة 1939، ووصل طبع جريدة الحزب الأسبوعية “ليبرتي”(الحرية) 115 ألف عدد، مع 25 ألف مشترك. لم يتخل الحزب في نضاله المتواصل لانتزاع العفو، عن النضال من أجل تحسين حياة جماهير الشغيلة المادية، وإنجاز الإصلاحات الاجتماعية ومقاومة سلطات المائة سيد من كبار المعمرين الفرنسيين، كما كان يلح في طلب تطهير الإدارة الجزائرية والشرطة والجيش من غلاة المعمرين والرجعية…

أرغمت الحكومة الفرنسية إثر تلك الحملة على نقل وإبعاد المسؤولين عن حوادث 8 ماي 1945 أمثال: بيرك، المسؤول في الحكومة العامة عن الشؤون الإسلامية، والجنرال دوفال قائد منطقة قسنطينة العسكري، وليسترادكاربونال، والي قسنطينة، و أشياري نائب الوالي في مدينة قالمة وغيرهم…

وتلبية لطلبات حزبنا وإلحاحه، أجريت انتخابات خلال شهري جويلية وأوت سنة 1945، حاز فيها حزبنا، وكان الحزب العلني الوحيد في الجزائر، آنئذ، على 500 مقعد في مختلف المجالس البلدية، بدلا من 20 مقعد سنة 1939، كما فاز مع بعض التقدميين الجزائريين، في بلدية العاصمة الجزائر. ونال خلال انتخابات مجالس الولايات يوم 23 و30 سبتمبر 1945، 100 ألف صوت و12 مندوبا، بدلا من مندوب واحد سنة 1937، وتحصل في انتخابات المجلس التشريعي الفرنسي يوم 21 أكتوبر 1945 على خمسة نواب و220 ألف صوت، منها 135 صوت من مدينة الجزائر. وقاطع حزب أحباب البيان والحرية تلك الانتخابـات.

وبالنتيجة أرغم الإمبرياليون الفرنسيون على إطلاق سراح السادة فرحات عباس والدكتور سعدان قادة حزب أحباب البيان والحرية، والشيخ الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء وغيرهم، وألف في نفس الشهر قادة الحزب المذكور حزبا جديدا دعي بحزب “الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري”، كما أطلق سراح مناضلي “حزب الشعب الجزائري” وتم الاعتراف بحرية تأليف الأحزاب. وفي شهر أكتوبر من سنة 1946 رجع مصالي الحاج رئيس حزب الشعب الجزائري من باريس إلى الجزائر، حيث أقام في بوزريعة، إحدى ضواحي العاصمة الجزائرية.

وفي شهر نوفمبر 1946 ألف مصالي الحاج، مع جماعة من قادة حزب الشعب الجزائري: حسين لحول الأمين العام للحزب، وأحمد مزغنة، محمد خيضر، الدكتور الأمين دباغين، ومولاي مرباح وغيرهم… حزبا جديدا دعي بـ “حركة انتصار الحريات الديمقراطية”، وسار الحزب على أساس برنامج حزب الشعب  القديم: الاستقلال التام، جلاء الجيوش الفرنسية، استرجاع الأراضي التي اغتصبها المستعمرون، رد الثقافة واللغة العربية في المدارس، حرية الدين، استرجاع ما استولى عليه الفرنسيون من المساجد، وغيرها من المطالب، بإجراء استفتاء لتحديد مصير الجزائر، ومقاومة الاتحاد الفرنسي.

لماذا اختار غلاة المعمرين ولاية قسنطينة مسرحا لمؤامراتهم ؟

يتساءل البعض: لماذا اختار غلاة المعمرين ولاية قسنطينة مسرحا لمؤامراتهم، وليس ولاية الجزائر أو وهران ؟

تشكل ولاية قسنطينة في نظر غلاة المعمرين أكبر خطر يهدد كيانهم في القطر الجزائري، لموقعها الجغرافي المتاخم للحدود التونسية والليبية، ولأن بها أماكن حصينة منيعة مثل جبال الأوراس، وهي عدا ذلك، آهلة بالسكان العـرب و البربر، الذين لا يرتاح المعمرون الفرنسيون لوجودهـم.

ولأنها ولاية زراعية محرومة من سائر أنواع الصناعات العصرية عدا بعض المناجم، مثل مناجم الفوسفات في الونزة… وتمتلك فيها الشركات الاستعمارية مثل الشركة السويسرية وشركة شابو دو جندارم(قبعة الدرك)  وغيرها من غلاة المعمرين، مساحات شاسعة، من أخصب وأجود أراضيها في مناطق برج بوعريريج وسطيف والعلمة (سانت آرنو) وغيرها. فهي معرضة إذن لتمرد الفلاحين المحتاجين للأرض، وبؤرة للثورات الزراعية. هذا من جهة، ولقلة نمو النضج والوعي الوطني والاجتماعي آنئذ بين جماهير الفلاحين من جهة أخرى. كان نفوذ حزبنا، في هذه الولاية، أضعف منه في ولايتي الجزائر ووهـران.

ومع ذلك كانت منبعا للحركات القومية والإصلاحية، التي يمكن لتطورها أن يقضي على النظام الإمبريالي في الجزائر. وفيها غرس الشيخ عبد الحميد بن باديس بواكير أعماله السياسية منها والثقافية والدينية.

تلك هي بعض العوامل التي مكنت غلاة المعمرين من اتقان مؤامراتهم وتوجيه ضرباتهم القاسية للشعب الجزائري في هذه المنطقة بالذات، قصد إخضاعه لأجل غير مسمى لسلطانهم، ومنعه من كل مطالبة بحقوقه الوطنية والاجتماعية.

فاجأت تلك الحوادث الشعب الجزائري، الذي لم يفكر ولم يكن على استعداد للقيام بها، لا في مناطق قسنطينة والشرق الجزائري، ولا في الجزائر كلها، لأن الظروف المطلوبة للقيام بتلك الانتفاضة لم تتهيأ بعد، لا من الناحية السياسية والفكرية، ولا من الناحية التنظيمية والعسكرية، وأكبر دليل على ذلك هو:

أولا– هذا العدد الضخم من الضحايا، التي أخذت على حين غرة، وذبحت كالأغنام في منازلها وفي الطرقات والمقاهي والأسواق، دون أن تستطيع حتى الهروب، ووقعت فريسة بين مخالب الجند الفرنسي المهاجم، وقطعان غلاة المعمرين التي نكلت بهم شر تنكيل.

ثانيا– هو اقتصار تلك الاضطرابات على مناطق قسنطينة، دون أن تمتد لسواها من المناطق الجزائرية، كما وقع في حرب التحرير الجزائرية أول نوفمبر 1954.

ثالثا– عدم وجود جبهة تضم مختلف الأحزاب والمنظمات الوطنية والثورية في الجزائر، وعدم استعداد الأحزاب الوطنية نفسها، بما فيها حزب “أحباب البيان والحرية” لقيادة مثل هذه الحوادث، هذا إذا رغب حقا في قيادتها.

رابعا– كان الإمبرياليون الفرنسيون رغم ضعفهم، يحتفظون بقوات عسكرية كبيرة في الجزائر، ويستندون على أقلية قومية تعدادها على وجه التقريب مليون نسمة وتتصرف بمقدرات الجزائر، كما كانوا يتمتعون بتأييد ودعم الإمبرياليين الأمريكيين خاصة.

خامسا– كان الباشاغاوات والقياد، وهم إحدى الدعامات الأساسية التي يرتكز عليها الإمبرياليون الفرنسيون، يتمتعون آنئذ بنفوذ كبير لدى الفلاحين الذين كانوا في أكثريتهم الساحقة بعيدين عن التنظيم السياسي، رغم عطفهم على الحركة الوطنية.

سادسا– تخلي البرجوازية الوطنية العميلة عن كل نضال وطني، وإعلان ممثليها إخلاصهم للسلطات الفرنسية ولسياسة الاندماج.

سابعا– لم يقتنع الشعب الجزائري العامل بعد من تجاربه الخاصة بعدم فائدة النضال السلمي والطرق الانتخابية والبرلمانية، لانتزاع مطالبه وحقوقه الاجتماعية والوطنية، والتمتع بسيادته واستقلاله.

أجل ساعد وجود عناصر قومية جزائرية “يسارية” مغامرة، بعضها مأجور للإدارة الجزائرية وغلاة المعمرين، على نجاح تلك المؤامرة، باستغلالها العواطف القومية لدى فريق من المتظاهرين، دفعت بهم للرد دونما استعداد على تحرشات الشرطة الفرنسية وغلاة المعمرين والإدارة الجزائرية.

…وهكذا انقلبت مظاهرات الأفراح والابتهاج، بنهاية تلك الحرب المدمرة، بانهيار قوى الشر والاستعباد النازية والفاشية، وبانتصار قوى الحرية والسلم والمدنية التي بشر انتصارها بتدشين عهد جديد، عهد الحريات الديمقراطية واستقلال الشعوب، انقلبت فورا إلى مجازر بشرية وخراب وتدمير وأحزان بالنسبة لمجموع الجماهير الشعبية العاملة والفلاحين الجزائريين.

لم أزل أذكر صديق الشغل الذي أتاني خلال بيعنا الجرائد الحزبية في ساحة الشهداء في الجزائر العاصمة، يبكي بحرقة وألم ما وقع لسكان خراطة وقالمة وسطيف، ويستشيرني فيما يجب أن يصنع، وقد شاركته ألمه وحرقته، وأشرت عليه بالانضمام إلى حزبنا لتعزيز النضال الوطني ضد غلاة المعمرين الفرنسيين والإدارة الجزائرية المسببين الأساسيين  لتلك المجازر، ولانتزاع حرية شعبنا واستقلاله.

ليست في النتيجة حوادث 8 ماي 1945 الدامية، التي لقنت الشعب الجزائري دروسا قاسية، في جوهرها سوى انتفاضة ثورية هدفها التحرر من نير الإمبرياليين الفرنسيين وانتزاع الاستقلال الوطني التـام.

وقد برهنت حرب سنة 1954 التحريرية، أن دروس تلك الحوادث لم تذهب سدى، وأهمها وجود جبهة وطنية وحدت حولها في النضال سائر القوى الوطنية والثورية.

 

             محمود الأطرش            

   مقتطف من ”طريق الكفاح” مخطوط مذكرات ـ الجزء الثاني ـ نوفمبر 1972

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.

[1]حزب الشعب الفرنسي في الجزائر كان فرعا لحزب الشعب الفرنسي الذي ألفه المرتد دوريو (1945-1936) وكان ذا نزعة فاشية.