تونس – تطبيع “حلال”؟ الطاهر المعز

(1)

تَضُمُّ الحكومة التونسية التي يُهيمن عليها الإخوان المسلمون وأنصار نظام بورقيبة وبن علي ( الدّساترة) ورجال الأعمال، وزراء من جنسيات أجنبية ومُطَبِّعين، وربما صهاينة (بحسب مواقفهم- هن) من القضية الفلسطينية، وسبق أن أدْلى “راشد الغنّوشي”، زعيم الإخوان المسلمين في تونس، وأحد أقْطاب تّيار الدّين السياسي في الوطن العربي، بتصريحات، منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2011 لمنظمات صهيونية أمريكية، وأحاديث صحفية وإذاعية بشأن تَملُّقِهِ و”تسامُحِهِ” مع الصهاينة والكيان والصهيوني، وادّعائه أن لا علاقة لقضايا الشعب التونسي بفلسطين، ودأبت الحكومات المتعاقبة على إظْهار حفاوة مبالغ بها، “بالسّائحين اليهود”، الذين يحتفلون، خلال شهر أيار، من كل سنة، بمناسبةٍ ذات صبغة دينية في جزيرة “جربة”، حيث يوجد كَنِيس يهودي قديم، وبلغ “التّسامح” المزعوم بالحكومة التونسية، حدَّ استضافة الحاخام المتطرف “رفائيل كوهين”، لأنّه “مولود في تونس لأبوين تونسيّين”، بحسب تصريح وزير السياحة في حكومة الإخوان المسلمين، وتُنَظِّمُ وكالة الأسفار والرحلات التي يمتلكها هذا الوزير، رحلات من تل أبيب إلى جربة، ويدخل “الزائرون” بجوازات سفر دولة الإحتلال الصهيوني، وبَثّت هذا العام، بهده المُناسبة، قناة تلفزيونية صهيونية، تغطية إعلامية واسعة، لهذا الحدث، الذي حَضَرَهُ ستة آلاف، من بينهم المئات (وربما الآلاف) بمثل هذه الجوازات، وعلّل الإخوان المسلمون ذلك ب”عدم وجود بَنْد في الدّستور التّونسي يمنع دخول الإسرائيليين إلى البلاد” (ربّ عُذْرٍ أقبَحُ من ذَنْب)، وتناسَوا إن الكيان الصهيوني قصف ضاحية “حمام الشاطئ” (جنوب العاصمة)، وقتلت قنابله عشرات التونسيين والفلسطينيين، إثر هذه الغارة (01/10/1985)، واغتالت المخابرات الصهيوني (بتواطؤ مَحلِّي ) قادة فلسطينيين، من بينهم “أبو جهاد”، و”أبو إياد”، وسمحت سلطات الإخوان المسلمين والدّساترة، لوفد إعلامي من القناة 12 الصهيونية برافقة وفدٍ من هؤلاء الصهاينة المحتلين لفلسطين، ويستغلون أراضي مُصادرة من أصحاب البلاد الشّرْعِيِّين، وتجول الوفد الإعلامي مع الصهاينة، بحرية لا يتمتع بها الصحافي التونسي أو العربي، من جزيرة جِرْبَة، في الجنوب، إلى ضاحية “سيدي بوسعيد”، شمال البلاد، ومكّنت سلطة الإخوان المسلمين هولاء الصهاينة من تدنيس المنزل الذي اغتال فيه “الموساد” القيادي الفلسطينيّ “خليل الوزير” (أبو جهاد) مطلع التسعينيات، في العاصمة “تونس”، ورَفَعَ بعض المشاركين الصّهاينة شعارات داخل الحافلة التي كانت تُقلّهم (تحت الحراسة) من قبيل: “تَحْيَا إسرائيل، تحيا تونس”، وتدّعي السّلطات إن ذلك عنوان “التسامح”، الذي لم يتمتّع به المتظاهرون التونسيون الفُقراء (في ظل حكم الإخوان المسلمين)، في محافظات “سِلْيانَة” و”القصرين” وتونس (خلال قمع احتجاجات العاطلين عن العمل، ومُصابي انتفاضة 2010/2011 )…

تشترط دول مثل ألمانيا والولايات المتحدة وهولندا وغيرها، من حكومات الدول العربية “التخلي عن العداء لإسرائيل وتطبيع العلاقات معها”، قبل الموافقة على قُرُوض أو استثمارات (هي ليسَتْ مِنّة، أو هدية مجانية)، بينما يدّعي بعض الوزراء المُتصهْيِنِين (منهم رئيس الحكومة ووزير الخارجية ووزير السياحة …) “إن التونسيين المناهضين للتطبيع أقليّة متطرفة”، بحسب تصريح أحدهم لقناة صهيونية، مما جعل بعض الأحزاب تُصْدِرُ بيانات للتنديد بهذه المُمارسات التّطبيعية، لكن الأمر لم يتجاوز حد البيانات، بينما غَرِقت حكومة الإخوان والدّساترة في وحل التطبيع، وإجازة تنظيم رحلات بين تل أبيب وتونس، ورحلات من تونس إلى القُدْس، بذرائع مختلفة، لكنها واهية، وتنظيم وكالات سياحية تونسية رحلات دوريّة تشمل مدناً داخل فلسطين المحتلة…

أظْهَرَتْ بيانات منظّمة التجارة العالمية أنّ قيمة الصادرات التونسيّة إلى الكيان الصهيوني تجاوزت 5,5 مليون دولار سنة 2017، وما هذا الرقم سوى أحد المؤشّرات العديدة، التي تُثْبِتُ تورّطَ عديد الأطراف الرسمية و غير الرسمية في علاقات مع دولة الاحتلال، ويكشف التوجّه الرسميّ للدولة التّي فتحت العديد من قنوات الاتصال مع الكيان الصهيونيّ منذ خمسينات القرن الماضي، حيث طَوّر بورقيبة وحزبه علاقات مع زعماء صهاينة، منذ ما قبل اتفاقية 20 آذار/مارس 1956 (وثيقة “الإستقلال” الشكْلي)، وتعززت هذه العلاقات بمرور الزّمن،  ودعا معهد واشنطن ( “واشنطن إنستِتْيُوت”، الذي أسّسته “آيباك”، أكبر منظمة صهيونية بأمريكا، وربما بالعالم ) راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، الذي ألقى كلمة في مُؤتمره، وأعلن بوضوح لا يقبَلُ التّأْوِيل، معارضة حزبه الذي لم يكن حاكمًا آنذاك، تجريم التطبيع عبر الدستور أو عبر القانون، وفق موقع “ويليك ستاندرز”، عن صحيفة “إسرائيل هايوم”، في كانون الأول/ديسمبر 2011، وكان زوج ابنة راشد الغنوشي (احتل منصب وزارة الخارجية ) قد شارك بنشاط في مؤتمر للتطبيع الاقتصادي، مع شخصيات صهيونية، في “الدوحة”، عاصمة مشيخة قَطَر، راعية الإخوان المسلمين، ويشارك ممثلون عن “النهضة” في الجمعية البرلمانية المتوسطية، بمعية نواب صهاينة، أما على الصعيد غير الرسمي فإن عددًا من الفنانين ومسؤولي منظمات غير حكومية، يُشاركون في نشاطات مختلفة في فلسطين المحتلّة، منذ عُقُود، وكانت النشاطات سرية، وظهرت إلى العَلَن لأن الصهاينة يفضحون كل من يتعامل معهم، خصوصًا بعد انتفاضة 2011، وعطّل حزب الإخوان المسلمين (النهضة التي تمتلك أغلبية نسبية في البرلمان) مشروع قانون تجريم التطبيع، في مناسبات عديدة، أهمها،ىسنوات 2012 و 2014 و2015 و 2018، لإرضاء حكومة الولايات المتحدة، ونَوَّهَ أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي خلال زيارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد في تموز/يوليو 2017 بالجهود التي تقوم بها أحزاب “الإسلام السياسي المُعتدل” (النهضة) لمحاربة “الأقلية المتطرفة التي تنادي بمقاطعة الكيان الصهيوني”…

في المجال الإقتصادي، يُسْتَنْتَجُ من بيانات منظّمة التجارة العالمية، والأمم المتحّدة، انخفاض قيمة السلع الصهيونية  الداخلة إلى تونس، بين 2007 (2,2 مليون دولارا) و 2012، ولكنها عادت إلى الإرتفاع، منذ هيمنة تيار الإسلام السياسي على المجلس النيابي والحكومة في تونس، لتصل إلى 15 مليون دولار، فيما بلغت قيمة الصادرات التونسية سنة 2017، ما يعادل 5,5 ملايين دولارا، وشمل التبادل الإنتاج الزراعي والنّسيج واستوردت تونس من الكيان الصهيوني الأسمدة، والمواد الكيماوية و المعدّات الفلاحية والأدوية والمعدات الطبية…

على الصعيد الشعبي، أعلن “أَرْيل شارون”، رئيس حكومة العدو الأسبق: “مشكلتنا ليست مع الحكومات العربية وإنما مع الشعوب، التي ترفض التعامل معنا”… مواقعالأخبار” + “الميادين12/06/2019

(2)

تقاطعت بيانات عدة تقارير محلية ودولية، عند تَقْوِيم وَضْع اقتصاد البلاد، بنهاية 2018، واتّسَم اقتصاد تونس بتدهور قيمة العملة (وهو ما أَمَر به صندوق النقد الدولي)، وأدى هذا التدهور إلى ارتفاع عدد الفقراء إلى نحو 1,7 مليون (من إجمالي عشرة ملايين نسمة)، وفق مركز دراسات رسمي، وإلى انخفاض مستوى معيشة المواطنين بنحو 40%، ويستهلك 75 من الموظفين والأُجَراء عُموما رواتبهم خلال الأسبوعيْن الأولَيْن من كل شهر، فاضطر المواطنون (الأُسَر) إلى زيادة “الاقتراض” لسد حاجاتهم الأساسية، وتعود هذه النسبة المرتفعة من المُقترضين، إلى أكثر من عشر سنوات، بحسب بيانات البنك العالمي، وزاد اقتراض الأُسَر بشكل كبير، خلال السنوات الأخيرة، بعد 2012، وفقًا لدراسة قام بها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، وَوَرَد في الدراسة إن العملة التونسية (الدينار) فقدت نحو 60% من قيمتها مقابل الدولار بين سنتيْ 2014 والربع الأول من سنة 2019، ليصل سعر الدولار إلى 2,9 دينار، مما يُفَسِّرُ ارتفاع معدلات التضخم إلى 7,6% في تشرين الأول/اكتوبر 2018، فارتفعت أسعار الطاقة أربع مرات خلال سنة 2018، ومع ذلك ترفض الحكومة الزيادات في الرواتب، لتغطية زيادة الأسعار الناجمة عن التضخم، على الأقل، مما اضطرّ الأُسَر إلى الإقبال على القروض، رغم نسبة الفائدة المُرتفعة، وزادت قيمة القروض للأفراد بنسبة 117% في الفترة بين كانون الأول/ديسمبر 2010 وحزيران/يونيو 2018، لتصل قيمتها إلى ثمانية مليارات دولارًا، ويُصنّف نصف هذه القروض ضمن فئة القروض “الاستهلاكية”، لأُسَر لا تمتلك مُدّخرات…

أكّدت دراسة نشرها “المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية” (يترأسه وزير سابق) إن مستوى الرواتب في تونس هو الأدنى في دول البحر الأبيض المُتوسّط، وأقل 8 مرات من دول جنوب أوروبا، في تناقض تام مع مستوى الأسعار التي ارتفعت بشكل جنوني بين سنتيْ 2015 و 2019، سواء على مستوى أسعار المواد الأساسية الضّرورية، إذ ارتفعت أسعار الخصار بنسبة 232,4%، أو على مستوى ما يمكن اعتباره “كماليات” مثل أسعار الحواسيب المحمولة التي ارتفعت بنسبة 354,5%، خلال نفس الفترة، باعتبار انخفاض قيمة الدّينار، مقابل الدّولار و”اليُورو”، ودَعَا مدير عام “المعهد الوطني للاستهلاك”، إلى “تدخل الدولة لوقف تدهور مستوى معيشة المواطنين، من خلال تدخل الدولة، وتعزيز الرّقابة، للسيطرة على تنظيم توزيع وبيع المواد الأساسية، وتحسين جودة خدمات الرِّعاية الصحية والنقل والتعليم، والتخفيف من عبء الضرائب على رواتب العُمّال والموظفين من متوسطي الرواتب، الذين تتراوح رواتبهم السنوية بين 1700 و 6900 دولارا، فهم يشكلون نحو 60% من إجمالي قيمة الضرائب، فيما لا يحصل سوى 10% من “دافِعِي الضرائب” على رواتب تفوق 6900 دولارا سنويًّا، مما يتطلب مراجعة النّظام الضّرِيبي، لكن الدولة تستنزف الأجراء، ليتبجّح رئيس الحكومة بارتفاع إيرادات الضرائب بنسبة 22,1% خلال الربع الأول من سنة 2019، مقارنة بالرّبع الأول من سنة 2018، بفعل زيادة الضريبة على الدّخل (ضريبة مباشرة) بنسبة 48%، وعلى القيمة المضافة (ضريبة الإستهلاك)، وهي ضريبة غير مُباشرة، بنسبة 14,5% وتُصنّف كضريبة غير عادلة، لأنها تُساوي بين الفقير والغَنِي، وتبعًا لذلك، ارتفعت إيرادات الضريبة غير المباشرة (غير العادلة) بنسبة 7,2%، بحسب وزير المالية، ورغم زيادة موارد الدولة، زاد حجم القُروض الخارجية، خلال الربع الأول من سنة 2019، فارتفعت خدمة الدّيْن العمومي إلى 2811 مليون دينارًا (حوالي 951 ألف دولارا)، خلال الربع الأول من سنة 2019 (دولار أمريكي = 2,953  دينارً تونسيا، عند تحرير الخبر)، ولا تزال الحكومة التونسية تبحث عن دُيُون خارجية جديدة، بقيمة 2,5 مليار دولارا (بالعملة الأجنبية)، سنة 2019، لتُسَدّدُها أجيال الفُقراء والأُجَراء، الحالية والقادمة، وحصلت الحكومة من صندوق النقد الدولي على القسط السّادس (247 مليون دولارا، أو حوالي 730 مليون دينارًا) من قرض بقيمة 2,9 مليار، سنة 2016، بشروط مُجْحِفَة، يُغلِّفُها الصندوق بعبارة “إصلاحات اقتصادية”، في بلد انخفضت قيمة صادراته (رغم ارتفاع الحجم أحيانًاً، كما في حال التّمور وزيت الزيتون ) وانخفضت إيرادات السياحة، رغم ارتفاع عدد السائحين، وما ينتج عن ذلك من استهلاك للموارد المحلية ومن تلوث للمناخ وللثقافة والحضارة المحلية، ومن حرمان المواطن من البحر ومن السمك وغير ذلك من ثروات البلاد…

من نتائج قلة الإنتاج والصادرات، وَرَد في موقع المعهد الوطني للإحصاء (يوم الإربعاء 12 حزيران 2019) ارتفاع العجز التجاري من 6,6 مليار دينارًا خلال الأشهر الخمسة الأولى من سنة 2018 إلى 8,1 مليار دينار (2,75 مليار دولار) خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام 2019، بسبب ارتفاع قيمة الواردات إلى 27,7 مليار دينار، بينما بلغت قيمة الصادرات 19,6 مليار دينارًا، وأفاد بيان المصرف المركزي التونسي (31/05/2019 ) تراجع الموجودات الصافية من العملة الأجنبية إلى مستوى 13,050 مليون دينارًا أو ما يُعادل 74 يومًا من التوريد بنهاية شهر نيسان/ابريل 2019، مقابل 84 يومًا بنهاية نيسان/ابريل من السنة الماضية 2018، بسبب ارتفاع قيمة خدمة الدين الخارجي التي سددتها البلاد… (دولار أمريكي = 2,953  دينارً تونسيا، عند تحرير الخبر) وكالةرويترز” + وكالة وات” (حكومية تونسية) + موقع المصرف المركزي التونسي والمعهد الوطني للإحصاء 11 و 12/06/2019 + مراجعات لبيانات سابقة

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.