إفريقيا – خطوة نحو الإستقلال الإقتصادي؟ الطاهر المعز  

كتب القائد الوطني الغاني “كوامي نكروما”، سنة 1964:

“إن الاستعمار الجديد هو نظام يسمح بالهيمنة السياسية والإقتصادية على الدول الإفريقية، التي منحها استقلالاً شكْلِيًّا، لتحقيق الأهداف التي كان الإستعمار المُباشر يسعى لتحقيقها عبر الإحتلال العسكري المُباشر”

بعد ثلاثة عُقُود من النقاشات والمُفاوضات، قرر زعماء 15 دولة من إفريقيا الغربية، من مجموعة “إيكواس” (بنين، بوركينا فاسو، الرأس الأخضر، ساحل العاج، غامبيا، غانا، غينيا، غينيا بيساو، ليبيريا، مالي، النيجر، نيجيريا، السنغال، سيراليون وتوغو )، يوم 29 حزيران 2019، استخدام عملة موحّدة تحت اسم “إيكو”، بدلا من الفرنك (سي إف أي )، المرتبط باليورو، بضمان فرنسي (وهو ضمان مرتفع الثمن)، وعملات وطنية لسبعة دول، لتسهيل التبادل التجاري بين هذه البلدان التي يعد سكانها نحو 300 مليون نسمة، وسيدخل القرار قيد التنفيذ في بداية سنة 2020، وذلك بعد مفاوضات دامت ثلاثة عقود كاملة، وكانت نيجيريا تُطالب باستمرار، وبإلحاح منذ 2017، بفصل عملة المُستعمرات الفرنسية السابقة (ثمانية دول) عن اليورو، وعن الخزينة الفرنسية والمصرف المركزي الفرنسي الذي يتحكم بالسياسات المالية لهذه الدّول…  

تستخدم ثمانية دول، من ضمن 15 دولة، تشكل “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” (ECOWAS) الفرنك ( سي إف أي )، وسوف يؤدّي استخدام عملة موحدة مع سبع دول أخرى، إلى نهاية هذه العملة، التي فَرضتْها فرنسا، خلال الإستقلال الشّكْلي الذي أبْقى ماليتها تحت إشراف وزارة المالية الفرنسية ، مع التزام البلدان الأفريقية بإيداع نصف احتياطياتها من العملات الأجنبية لدى الخزانة الفرنسية، ولم تُنْشر تفاصيل عن خطة فصل مالية هذه الدّول عن الخزانة الفرنسية التي اشترطتها نيجيريا، التي تَعُدُّ 180 مليون نسمة، ويشكل اقتصادها نحو 60% من إجمالي الناتج المحلي للمجموعة، وهي أكبر منتج إفريقي للنفط…

يَصِف منتقدو مشروع العملة الموحدة، بأنّه “نسخة تقريبية من اليورو”، دون المُقوّمات التي أدّت إلى إنشاء اليورو، لأن العملة الجديدة تحتاج، لكي تُصادفَ النّجاحَ، سُلْطة مالية قوية، وتحتاج إقرارَ برامج اقتصادية ومالية مُشتركة، وحدًّا معقولا من التنسيق السياسي والإقتصادي، حيث لا يتجاوز حجم التبادل التجاري بين هذه الدول 9,4% من الحجم الإجمالي لتجارتها، سنة 2017، وتحتاج تحديد أهدافٍ مُشتركة، وإن غياب هذه المُقوّمات الدُّنيا، يهدد هذا المشروع – بصيغته التي نُشرت – بالفشل، لأن معظم البلدان الإفريقية تُعاني مشاكل العجز في الميزانية، وتعاني ارتفاع البطالة وسوء حال البنية التحتية (مما لا يُسهِّل التبادل التجاري فيما بينها)، وعدم توازن القطاعات الإقتصادية، إذ تُصدّر معظمها المواد الخام، وتستورد الطاقة والمواد المُصنّعة، والغذاء، وتهيمن الشركات متعددة الجنسية على اقتصاد معظمها…

أكّد البيان الختامي الذي أصْدَرَهُ المجتمعون في عاصمة نيجيريا “أبوجا”، يوم السبت 29/06/2019، على النهج التدريجي لاعتماد العملة الموحدة، واعتماد معايير، مثل تقارب مستوى التضخم، وعجز الموازنة، وعيبُ هذه المعايير إنها معايير مالية، بدل البدْء ببرامج تكامل اقتصادي، تُسَهِّل التكامل، ثم الإندماج، في مرحلة أخرى قادمة،  كما أكّد البيان على اعتماد مبدأ نظام سعر صرف مرن، وسياسة نقدية تركز على السيطرة على التضخم بشكل رسمي…

تُشكل قارة إفريقيا نموذجًا للإستعمار الجديد (أو الإمبريالية)، ونهب مواردها، وإشعال حُروب أهلية، تقف وراءها شركات متعددة الجنسية، تنهب موارد البلدان الإفريقية، ونظمت فرنسا بشكل خاص، انقلابات أطاحت بحكومات لا ترضى عنها، وتشرف فرنسا وبلجيكا على حرب إبادة لا تنتهي، في الكونغو الغني جدّا بالنفط وبأنواع عديدة من المعادن الثمينة، منذ أكثر من خمسة عقود، وتمتلك فرنسا قواعد عسكرية عديدة في جُلِّ مُستعمراتها السابقة، ثم لحقت بها الولايات المتحدة، خصوصًا بعد إقرار “أفريكوم” (القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا)، المتواجدة في 32 بلد إفريقي، وأبْدَى قادة فرنسا ( كيفما كان لونهم السياسي) حماسًا كبيرًا للإعتداء على شعوب إفريقيا، وتهجير السّكان من المناطق القريبة من المناجم (ليبيا ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى…) وغيرها (سوريا)، فيما يُركّز الإعلام الفرنسي على تغلغل الصين في قارة إفريقيا، وتمتلك فرنسا (وكذلك الولايات المتحدة) أربعة عشر قاعدة عسكرية معروفة، وحوالي عشرين قاعدة عسكرية غير ثابتة (مُؤَقّتة، أو متحوّلة)، بالإضافة إلى المليشيات التي أنشأتها الشركات متعددة الجنسية، لتحمي مصالحها، بالقوة المُسلّحة…

أجهضت الدول الإمبريالية، وفي مقدمتها فرنسا، كافة محاولات الإستقلال، بعد مرحلة الإستعمار المباشر، ليتم إبعاد أو اغتيال القادة الوطنِيِّين، ومن بينهم كوامي نكرومة وباتريس لومومبا وتوماس سنكارا، ومعمر القذافي، لأنهم حاولوا (كل على طريقته) إعادة النّظر في العلاقات غير المتكافئة بين “المركز” الرأسمالي (أوروبا وأمريكا) و”المحيط” (البلدان الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية)، ونشطت المخابرات الفرنسية والجيش الفرنسي، بشكل خاص، ضد أي زعيم إفريقي يطرح التخلي عن الفرنك الافريقي الاستعماري (CFA) الذي فرضَتْهُ فرنسا قبل سبعة عقود…

كان معمر القذافي من رُوّاد فكرة التّخلّي عن الدولار واليورو في المعاملات بين الدول الإفريقية، وفي تجارة النفط والمعادن والثروات الأخرى، وكان من رُوّاد الدّعوة إلى اعتماد “عملة موحدة مُقَوَّمَة بالدّينار الذّهَبِي”، وفق تقرير روسي، ووفق ما نشرته صحيفة “إلمانفستو” الإيطالية، وموقع “غلوبل ريسيرش” الكندي، في عدة مناسبات، وصرح نائب رئيس الوزراء الايطالي “لويجي دي مايو” (وهو من اليمين المتطرف) بأن “فرنسا التي تتشدّق بحقوق الإنسان، تنهب ثروات إفريقيا، وتحرم أربعة عشر دولة إفريقية من التمتع بثرواتها ومن التنمية”، لأنها تسك عملة 14 دولة إفريقية، ولا يُعتبر “لويجي دي مايو” تقدّميًّا أو مناهضًا للإستعمار (حاشاه)، ولكن تصريحه وَرَدَ ضمن خُصُومة بين قُوّتَيْن استعماريتَيْن، بشأن نهب ثروات ليبيا النّفطية…

تُسكَّ فرنسا الفرنك الإستعماري ( سي إف أي )، العملة الرسمية لأربعة عشر دولة إفريقية، وهي مرتبطة باليورو، وتشترط على هذه الدول إيداع نسبة 65% من مخزونها من العملات الأجنبية في المصرف المركزي الفرنسي، قبل أن تتكرّم فرنسا بتخفيض النسبة إلى 50% سنة 2005، وتستغل الدولة الفرنسية هذا المخزون الضخم، وتجني منه أرباحاً طائلة، قُدِّرت بنحو 12 مليار يورو، سنة 2014، ولا حق لحكومات هذه الدّول تغيير سعر صرف عملتها، بل تُحدّد فرنسا سعر الصّرف، وعينت حكومة فرنسا مُديرين فرنسيين في المصارف المركزية للدول، وفي المصرف المركزي لدول مجموعة إفريقيا الغربية، ويتمتعون بحق النّقض (فيتُو)، كما تتمتع الشركات الفرنسية بالأولوية في كافة ميادين الإقتصاد والتجارة في هذه البلدان، ثم تُحَوّل أموالها إلى فرنسا، بإشراف فرنسا، خارج رقابة الحكومات المَحَلِّيّة…

عاشت الدّول الإفريقية المرتبطة بفرنسا عددًا من الأزمات التي عصفت باقتصادها، ومن بينها خفض عملتها بنسبة 50% أثناء إقرار العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، فارتفع العجز التجاري لهذه الدول، وارتفعت دُيُونها، وعجز بعضها عن تسديد الدّيون التي حل أجل استحقاقها، رغم الثروات التي “تمتلكها”، وتتصرف بها الشركات الأجنبية، والفرنسية بالخصوص، وفي كانون الثاني/يناير 2017، تظاهر المواطنون في ساحل العاج، وفي مالي والسنغال والكونغو وبركينا فاسو، والمهاجرون في بعض العواصم الأوروبية، من بينها باريس وبروكسل ولندن، وطالَبَ المتظاهرون بالتخلي عن عملة الإستعمار (سي إف أي) التي تُمثل رمزًا للنهب والتبعية، وتحكم فرنسا في اقتصاد افريقيا، لكن الإعلام الفرنسي، وبعض القوى المحسوبة على “اليسار” أو “التّقدّمِيّة”، والنّقابات، تتجنب الخوض في هذا الموضوع، بل يدّعي الإعلام أن الفرنك الإستعماري “عملة مُستقرّة وقوية استفادت منها الدول الإفريقية في مبادلاتها مع الإتحاد الأوروبي”، وهو تأكيد مناقض للواقع، واتهمت وسائل الإعلام الفرنسية المناهضين للفرنك الإستعماري ب”دعم سيطرة الصين على ثروات واقتصاد إفريقيا”…

تمكّنت فرنسا من الاحتفاظ لنفسها بالسيطرة على الوحدة النقدية الأساسية في وسط وغرب أفريقيا والمعروفة باسم الفرنك الإستعماري الإفريقي، وتأمين تدفّق العائدات النقدية ل 14 دولة أفريقية، من بينها 12 مستعمرة فرنسية سابقة، وتدعم فرنسا الحكومات المطيعة، وتُنظّم الانقلابات والاغتيالات السياسية، ضدّ القادة الذين يُحاولون مُعارضتها، ويُقدّر عدد “التّخلات العسكرية” الفرنسية (أي العُدوان والحروب) في إفريقيا بنحو خمسين مرة من سنة 1960 إلى سنة 2016، فضلا عن القُوات الخاصة وفِرَق الإستخبارات التي تعتمد على قوى محلية وأجنبية (مرتزقة) لحماية المصالح الفرنسية، في إفريقيا، وكانت المخابرات الفرنسية قد روجت كميات كبيرة من العملة المُزيّفة في غينيا، لكي ينهار الإقتصاد، بعد رفض الرئيس  “أحمد سيكوتوري” الفرنك الإستعماري، ورفضه توقيع بعض الإتفاقيات التي تضمن لفرنسا الهيمنة على بلاده، ونظمت المخابرات العسكرية الفرنسية انقلابًا ضد رئيس التُّوغو “سيلفانوز اليمبي” (كانون الثاني/يناير 1963)، بسبب إصداره عملة وطنية، بدل الفرنك الإستعماري، ونصّبت فرنسا مكانه عميلا لها ( الجنرال غناسنغي أياديما) الذي حكم البلاد من بعده 38 سنة…

تُهيمن الشركات الفرنسية على ثروات النفط والغاز، وعلى اليورانيوم، الذي تستخدمه فرنسا للإنتاج الطاقة النووية، وكذلك السلاح النووي، وأفادت الكيان الصهيوني بالخبرات التكنولوجية واليورانيوم الإفريقي كما تحتكر فرنسا تصدير السلاح والدواء والغذاء ووسائل النقل، والتجهيزات، وغيرها، إلى المستعمرات الإفريقية “السّابقة”…

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.