بريطانيا – دعم “اليسار التروتسكي” لعَسْكَرة البحث الأكاديمي؟ الطاهر المعز
تأسست كلية الدراسات الشرقية والإفريقية (جامعة لندن) سنة 1916 (في أوْج الحرب العالمية الأولى)، وتخصصت في رَفْد الإستعمار البريطاني بدراسات عن الشعوب المُسْتَعْمَرَة في آسيا وإفريقيا والمشرق العربي، وتوسعت اختصاصاتها سنة 1938، قُبَيْل الحرب العالمية الثانية، فأسست فُروعًا لها، وشملت الدراسات اللغات والثقافات والحقوق والعلوم الإنسانية والإجتماعية والفنون، وأصبحت تضم ستة مراكز و28 مركز “متعدد الإختصاصات”، للإشراف عن تصميم وتنظيم النّدوات والمؤتمرات، ونَشْر محتواها…
يُقدّر عدد الطلبة بنحو خمسة آلاف طالب، وركّزت الكُلِّيّة، خلال السنوات الأخيرة، على استقطاب شُبّان وشابات من البلدان المُعْتدى عليها من قِبل الإمبريالية، وخصصت منحة “فليكس”، وهي منحة قَيِّمَة لطلبة الماجستير من المُقيمين في العراق وسوريا وفلسطين، “حيث تغطي المنحة كامل تكاليف برامج الماجستير في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS). وخصم كامل على الرسوم الجامعية، وتعويض بدل معيشة (15,500 جنيه استرليني تقريباً) وتعويض عن تذكرة سفر العودة”، وفق الدّعاية التي نشرتها الكُلِّيّة…
اكتسبت الكُلِّية سمعة يساريّة ومعادية للإمبريالية، وتُشغل مُدَرِّسِين، من أصيلي البلدان المُستعمَرَة، أو الواقعة تحت الهيمنة، وكانوا من مناضلي “اليسار”، ومن بينهم الزعيم والكاتب التروتسكي السابق “جلبير أشقر (أصيل لبنان)، ليُساعدوها على بناء سُمْعَة “يسارية”، وعلى تَيْسِير الإتصال بطلبة وشباب البلدان الأصلية لهؤلاء المُدَرِّسِين، الذين تحوّل اهتمامهم من البحث عن وسائل إنجاز الثورة، إلى البحث عن سُبُل كسب الجاه والثّرْوة، دون التّمحيص في مصدر المال، أو في الأهداف الحقيقية للجامعة…
نَشَر طلبة كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (Soas) في لندن، مُؤَخّرًا، وثائق تُدين “عَسْكَرَة” هذه الجامعة، بفعل تكثيف تعاوُنها مع وزارة الحرب البريطانية، و”تقديم المَشُورة الثقافية” للجيش، عبر وحدة غير معروفة، في وزارة الحرب، تحت مسمى “الوحدة الثقافية العسكرية المُختصة” (تأسست سنة 2010، وكانت مختصة في دراسة تراث وتاريخ وعادات العراق وأفغانستان )، وتتمثل المهمة “العلمية، والبحثية” للجامعة في البحث عن الوسائل المُثْلَى للتعامل مع شعوب المُستعمرات، الحالية والسابقة، مقابل حُصُولها على ما لا يقل عن 400 ألف جنيه استرليني، بين 2016 و 2018، من الجيش البريطاني، وأعلنت مجموعة طلابية مُناهضة للإستعمار، إن الجامعة خَصَّصَتْ جُزءًا هامًّا من هذه الأموال لأعضاء هيئة التدريس الذين يُشرفون على إدارة أسابيع دراسية حول تاريخ وثقافة الشعوب في إفريقيا وآسيا والأمريكتين ، وفي العديد من المُستعمرات البريطانية السابقة، ومَكّن طاقم التدريس هذه الجامعة “اليسارية” من تعزيز هذه الإدارة المختصة في وزارة الحرب، ومَنْحِها وَجْهًا إنسانيا وحضاريا وثقافيا، وهي نُسخة من “وحدة نظام التّضرايس البشرية” التي يُشرف عليها الجيش الأمريكي، والتي أدانها الباحثون في “جمعية الأنتروبولوجيا الأمريكية”، ودافع عنها “نوعام تشومسكي”، الذي نَشَرَ كتابًا مُشتركًا مع “جلبير أشقر”، وتمكنت هذه الوِحْدَة البريطانية من إخفاء وَجْهِها العسكري، لتتوسّع بسرعة، وأصبحت تضم ما لا يقل عن 64 مستشارًا ثقافيّا، في 22 دولة حول العالم…
لما بدأ العدوان الفرنسي (والأوروبي) على مالي، خلال فترة رئاسة “الإشتراكي” فرنسوا هولاند، بدعم أمريكي مُباشر، بذريعة مكافحة الإرهاب في منطقة الصحراء الكُبرى، ارسلت بريطانيا (بحسب بيانات وزارة الحرب) ما لا يقل عن 250 جنديًا “لحفظ السلام ” مع عدد غير معلوم من أفراد “القُوات الخاصة”، وثلاث طائرات هليكوبتر من طراز “شينوك” تشارك في العمليات العسكرية في مالي، واستعانت وزارة الحرب بالمُدَرِّسِين “اليساريين”، ومن بينهم “جلبير أشقر” الذي أشرَفَ على حلقة دراسية، امتدت على فترة أربعة أيام، موجّهة للضُّباط ولموظفي وزارة الحرب، وموضوعها “الأصولية الإسلامية” ومواضيع أخرى مُتعلّقة، ضمن سلسلة نَدوات ودورات تدريب بدأت سنة 2017، وتتواصل سنة 2019، وفي شهر شباط/فبراير 2019، أشرَفَ جلبير أشقر (في قاعات الجامعة) على دورة تدريب للعسكريين تحت عنوان “نظرة عامة عن الحرب في منطقة الساحل الإفريقي” (المنطقة المُحيطة بالصحراء الكُبْرى)، واحتج اتحاد طُلاّب كلية الدراسات الشرقية والإفريقية “سواس” ( Soas ) على تنظيم هذه الندوة، وعلى قبول الجامعة أموالاً من وزارة الحرب، وعلى “عسكرة البحث العلمي والأكاديمي”، وعلى “دعم إدارة الجامعة والمُدرّسين للإستعمار”، في تناقض مع أهداف الجامعة المُعْلَنَة، والتي تتضمن “إنهاء الإستعمار”، ووجّه اتحاد الطلبة نَقْدًا شديد اللهجة للمُدرس والباحث الترُوتسكي، الأستاذ المُحاضر في الجامعة “جلبير أشقر”، الذي نَشَر ردًّا مكتوبا (ثلاث صفحات)، يُدافع عن برنامج تدريب الصباط البريطانيين، مُتعلِّلاً بأن مُحاضراته “حول الشرق الأوسط ، الموجّهة للجنود البريطانيين، تتعلق بشكل أساسي بالتاريخ والسياسة والاقتصاد الاجتماعي في المنطقة، والتي يقدمها علماء نقاد لأفراد عسكريين ذوي رتب منخفضة… وهي معلومات ينشرها الباحثون في كتاباتهم المتاحة للجمهور…”، وأعلن جلبير أشقر في مناسبة أخرى “إن المُفكر اليساري المُوَقّر نوعام تشومسكي (الذي نشر معه كتابًا مُشتركًا) هو الذي أقنعني بأهمية أن يسمع العسكريون رأيًا ناقدًا للإستعمار…”، وللعلم، يُلْقِي الأستاذ المُحاضر “نوعام تشومسكي” (المعهد الأعلى للتكنولوجيا في مساشوتس) محاضرات في أكاديمية “ويست بوينت” التابعة للجيش الأمريكي، منذ 2006 (فترة احتلال العراق)، وحثّ الباحثين في أمريكا وبريطانيا على النسْج على منواله، بذريعة “عدم ترك الساحة لليمين” !!! وهي “الحُجّة” (الذّريعة) التي استخدمها جلبير أشقر في رده الطويل على اتحاد طلبة “جامعتِهِ”…
كشفت مجموعة طلابية، تناضل من أجل “إنهاء استعمار العُقول”، عن هذا المُخطط، أو البرنامج الذي تُموّله وزارة الحرب البريطانية، ودَعَتْ الجامعة إلى “قطع كل علاقاتها مع وزارة الدفاع، بسبب الدور التاريخي للوزارة في خدمة الرأسمالية، ماضيًا وحاضرًا، وفي خدمة مصالح رأس المال في (الجنوب)…”
رفض جلبير أشقر الرد المباشر على نقد الطلبة، ولكنه صرح لصحيفة مورننغ ستار: “إن الخط الأحمر بالنسبة لي هو رفض أي نشاط يساهم في التخطيط للعدوان الإمبريالي، أو تقديم المشورة للمخططين الإستراتيجيين في الجيش أو المخابرات…” وردت معظم المعلومات في صحيفة “مورننغ ستار” 31/07/2019
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.