الجبهة الإقتصادية – ضرورة التّغْيِير، الطاهر المعز
من إنكار الأزمات إلى إدارتها:
تهيّأت الرأسمالية الليبرالية، بقيادة الولايات المتحدة، لانهيار الإتحاد السوفييتي، الذي بدأ يترنّحُ مع رئاسة “ميخائيل غورباتشوف” (1985 – 1991)، والهيمنة على العالم، بدون مُنافسة، من خلال عدد من القرارات والإجراءات، وأهمها لقاء واشنطن في حزيران 1989، أو ما سُمِّي “وفاق واشنطن”، قبل انهيار جدار برلين بحوالي خمسة أشهر، وأقر هذا الإجتماع (غير الرّسْمِي) عشرة شروط، وطلب من البنك العالمي ومن صندوق النقد الدّولي (المُشاركَيْن في اللقاء) فَرْضَها على جميع الدول، بدون مُراعاة مستوى التّطور والنّمو الإقتصادي، وأهمّها:
خصخصة القطاع العام، وتطبيق سياسة الانضباط المالي، وخفض سعر العملات المحلية، وخفض الإنفاق الحكومي، مع توجيهه نحو البُنْيَة التحتية التي تستفيد مكنها الشركات المُستثمِرَة، وزيادة الضرائب على دخل العاملين، مع خفضها على أرباح رأس المال (يُسمِّيها صندوق النقد الدّولي “توسيع قاعدة تحصيل الضرائب”)، وإلغاء القيود على السوق والأسعار والتجارة وعدم تدخّل الدّولة في سياسة تحديد الأسعار والأُجُور، وعدم تدخلها في قطاع التجارة، وترك الأمر للسوق، وعدم التضييق على الشركات الأجنبية التي ترغب استغلال الموارد المادّية والبشرية للبلدان الواقعة تحت الهيمنة، وترك الحرية للشركات متعددة الجنسية لِتُنافسَ الشركات المحلية، رغم عدم التكافؤ بين الطّرَفَيْن، ومنحها حق تملك العقارات والأراضي، الزراعية، وغير ذلك من القرارات التي تُخَرِّبُ اقتصاد بلدان إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وأوروبا الشرقية، ولكن مُنَظِّرِي الإمبريالية اعتبروا ذلك “نهاية التّاريخ”، وانتصارًا تاريخيا ونهائيًّا للرأسمالية الإحتكارية المُعَوْلَمَة…
اعتُبِرَ الخبير الإقتصادي الأمريكي “جون ويليامسون”، مُهنْدِس “وفاق واشنطن”، غير إنه كان ينتقد سياسة “تحرير رأس المال”، ومن أهم نظريّاته، تَطْوِير مفهوم “سعر الصّرْف المُتوازن”، وتَبَنّت الحكومة الأمريكية وحكومات أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا واليابان، فكرته الأساسية ل”وفاق واشنطن”، مع تعميمها على جميع دول العالم، دون مراعاة الشرط الذي طَرحَهُ صاحب الفكرة، والمتمثل في “النّموّ المُسْتَدام”، وأصبحت مؤسسات “بريتن وودز” تَفْرِضُ سيطرة الشركات العابرة للقارات على الموارد الطبيعية للكَوْن، وتُمارس الضّغُوط (في شكل شُرُوط للقُرُوض أو للإنتماء لمنظمة التجارة العالمية) لتطبيق برامج “الإصلاح الهيكلي”، والمتمثلة في خفض قيمة العملات المحلية وإلغاء القيود على التجارة وعلى واردات السلع الأجنبية، بالعملات القَوِية (الدولار بشكل أساسي)، تحت عنوان “تحرير الإقتصاد”…
أصبحت هذه المدرسة “النيوليبيرالية” مُسيْطرة على العالم، واعتبر “روبرت لوكاس”، من مدرسة “شيكاغو” الإقتصالدية الليبرالية، وهو من نفس جيل “جون ويليامسون” (كلاهما مولود سنة 1937)، “إن العلوم الإقتصادية أصبحت قادرة على “الوقاية من الأزَمات”، وبالتالي تُمكِّنُ من مَنْعِ حُدُوثها، وفاز بنظريته بجائزة المصرف المركزي السّويدي، سنة 1995، والتي يُسميها الإعلام الرأسمالي “جائزة نوبل للإقتصاد”، مع الإشارة إن “روبرت لوكاس” من تلاميذ “ميلتون فريدمان” و “غريغ لويس” و”سامويلسون”، والفيلسوف “جون ديوي”، وغيرهم، وسبق أن كتب ونَشَرَ، بداية من سنة 1970، مقالات وبحوثًا عن التوقعات الإقتصادية و”حِيادِية” المال، وعن السياسات النقدية والنّمو الإقتصادي، وعن التجارة الدّولية، وغيرها… لكن أظْهَرت الأحداث التاريخية خَطَأَ نظرية “الوقاية من الأَزَمات” وإمكانية مَنْعِ وقوعها، وأظْهرت زَيْفَ ادّعائه (سنة 2003) إن إلغاء القُيُود يُؤَدِّي إلى “تحسين وضع ومعيشة الأجيال الحالية (في بداية الألْفِية الثالثة)، مقارنة بالأجيال السابقة”، بفضل تطبيق الليبرالية الإقتصادية، وبعد خمس سنوات من هذه التصريحات، بدأت أزمة 2008/2009، بانهيار مصرف “ليمان برودرز”، ولا يزال العالم يُعاني تَبِعات هذه الأزمة، بعد أكثر من عِقْدٍ من الزمن، حيث مَنَحت المَصارفُ المركزيةُ المالَ العامَّ للقطاعِ الخاصِّ، للشركاتِ وللمصارفِ (تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح)، بدون فائدة تقريبًا، ولا تزال نسبة النّمو ضعيفة، في الدّول الرأسمالية المتطورة، بعد عشر سنوات من تبذير مال ضرائب الأُجَراء والفُقراء، وتعمّقت الفجوة الطبقية، لصالح الأثرياء، بفضل المال العام، بشهادة باحثين اقتصاديين، من المدرسة الرأسمالية الليبرالية، مثل “كاوشيك باسو” (خبير سابق في البنك العالمي)، و”جوزيف ستِغْليتز” (نائب رئيس البنك العالمي، سابقًا)، و”آدم تووز”، وغيرهم، أي أن الحكومات وزّعت مال الفُقراء على الأثرياء، مما زاد من حِدّة الفَوارق الطّبَقِيّة…
نهاية التاريخ أم “مَأْزَق“ الرّأسمالية؟
لم يتم حل قضية الركود، ولم يتم “تحقيق حلم الجميع”، كما أعلن “روبرت لوكاس”، ولم يتمّ منع الأزمات، ولم تُحقِّق “العَوْلَمَة” الإستقرار والإزدهار المَوْعُودَيْن، ولم تتحسن حياة الناس، بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، بل عاش العالم (إثر أزمة “الرّهن العقاري في الولايات المتحدة، سنة 2008) واحدة من أعمق فترات الركود منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعَمّمَ خُبراء مؤسسات “بريتن وودز”، سياسات التقشف والخصخصة وخفض الإنفاق الحكومي، على جميع مناطق العالم، وغرق اقتصاد أوروبا في ركود عميق، وتاريخي، أنْتَج الفَقْرَ والبطالة والبُؤس، من ناحية، وارتفاع ثروات الأثرياء (في أوروبا وفي العالم) من جهة ثانية… أما في البلدان الواقعة تحت هيمنة الشركات العابرة للقارات، وهيمنة صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، فقد ارتفعت حدة النهب، وزادت معها الحُروب العدوانية، وأصبحت هذه البلدان مُعَرّضة للتفتيت والتقسيم، وفق مقاييس مُسْتوردة ومفروضة، تستهدف طمس الشعور والإنتماء الوطني، في محاولة من الشركات المُعولَمة للوقاية من وحدة الشعوب ضدها، وضد عملية النّهب المُنَظّم، والمُسلّح في معظم الأحيان…
لم يتراجع “خُبَراء” الإقتصاد الرأسمالي، عن تأكيداتهم السابقة، والخاطئة، ولم يعتذروا ولم يُقدّموا نقدًا ذاتيًّا، بعد إخفاقهم في فهم الأحداث واستباق الأزمات، بل دَعَوْا إلى زيادة استنزاف جهود العمال وصغار المُنْتِجِين في العالم الرأسمالي والمتطور، وزيادة استنزاف موارد بلدان “الأطْراف” (أو “المُحيط”، مُقابل “المَرْكَز”)، وأدّى تطبيق هذه السياسات إلى زيادة بُؤَر التّوتّر في العالم، وعودة الحرب الباردة، بل “الفاترة”، بفعل التّهديدات الأمريكية، المباشرة أو بواسطة الحِلْف الأطلسي، ضد الخُصُوم والمُنافِسين على حد السواء، وإعلان “الحرب التجارية” (العبارة للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”) ضد العالم أجمع (باستثناء الكيان الصهيوني)، وبذلك “عادت حليمة إلى عادتها القديمة”، وعادت الإمبريالية إلى محاولة حل أزماتها عبر زيادة التّسلّح والتهديد بإشعال مزيد من الحُرُوب على حدود روسيا والصين وإيران وفي أمريكا الجنوبية، بالإضافة إلى العدوان المُسْتَمِر على سوريا والعراق واليمن وليبيا والشعب الفلسطيني وغرب ووسط وشرق إفريقيا…
يرفض قادة الدول الرأسمالية، وخُبراؤها الإقتصاديون والسياسيون، الإعتراف إن الأزمة “هيْكلية”، وليست أزمة “تقنية”، أو عابرة، ناتجة عن خَطَأ أو عن سوء تقدير، وسبق أن خرجت من أزمة 1929، بفعل الحرب وبفعل تطبيق توصيات “جون مينارد كينز”، بإعادة الدور المركزي للدولة ، بعد فشل الأسواق في تنظيم نفسها، وفي إعادة التوازن للإقتصاد، بل دافع أتباع مدرسة “ليون والراس” عن فكرة أن الأسواق تسمح بالوصول إلى توازن مثالي، عبر تقليل وزن ودَوْر الدولة – باستثناء دور القمع وتوزيع أموال الشعوب على الشركات والمصارف الخاصة- وتطبيق سياسة “الإصلاحات الهيكلية”، وتعني “الإصلاحات” خفض الرواتب وتأجيل سن التقاعد، وخفض الإنفاق الإجتماعي، وخصخصة قطاعات مثل الصحة والتعليم والنّقل، وغيرها…
ما البدائل؟
ما قدّمناه في الفقرات السابقة، لا يتجاوز التّوْصِيف أو إثبات فشل “الحُلُول” الرأسمالية، وهي خُطْوة أولى، لكنها غير كافية، لأن الهدف هو تغيير هذا الواقع الذي أنشأه الرأسماليون (وهم أقلِّيّة) لخدمة مصالحهم، واستبداله بنظام يُفيد (أو يَخْدِمُ مصالح) الأغلبية، أي العاملين والمُنْتِجِين من مُزارعين وحرفِيِّين، وأُجراء في أدْنى وَوَسط سُلّم الوظائف والرّواتب، وتتطلب صياغةُ برنامج يخدم الأغلبيةَ، الإجابة على بعض الأسئلة، ومن بينها، ما العمل ليواصل الناس مقاومة الإحتلال (في فلسطين مثلاً)، دون الخوف من الموت جوعًا، وما هي المشاريع الإقتصادية القادرة على الصمود والبقاء في ظل الإحتلال أو حالة الحرب (سوريا والعراق واليمن وليبيا وإفريقيا…)، وكيف يتمكن العاطلون عن العمل والشباب والنساء من مقاومة الأنظمة الحاكمة في بقية أرجاء الوطن العربي (وغيره) مع ضمان حدّ أدنى من العيش، وغير ذلك من الأسئلة التي تتطلب إجابات سياسية واقتصادية، وخطط عَمَلِية، قابلة للتمويل وللتطبيق وللإستدامة…
عندما انطلقت الإنتفاضات في الوطن العربي من المغرب إلى البحرَيْن، منذ عُقُود، ضد تطبيق شروط صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي، كانت أجهزة قمع الدّولة تقتل وتعتقل وتُنكّل بالمُعتقَلِين وأفراد أُسَرِهِم، في غياب مظاهر التّضامن العَمَلِي، بسبب غياب أو ضُعْفِ أُطُر وهياكل المنظمات البديلة، وفي غياب برامج نظرية وتطبيقية، وفي غياب التمويل، وغير ذلك من الأسباب…
إذا أردنا أن تتحول الإنتفاضات إلى ثَوْرَات، وجب التفكير في الأساليب والأدوات، وكذلك في الخطوات العملية، وفي طُرُق ملء الفراغ الذي يحدث، كما حَدَثَ في تونس وفي مصر، بدل انقضاض قوى رجعية على الحكم وعلى الدولة ومواردها…
لا تهدف هذه الورقة تقديم الحُلُول، وإنما تهدف المساهمة في النقاش، وطرح الأسئلة، لكي لا تضيع الفُرصة القادمة، وهي آتية لا مُحالة، وتتمثل المساهمة في طرح بعض الأسئلة، ومن بينها:
ما هي القطاعات التي يمكنها استيعاب العاطلين عن العمل، بمستوياتهم المختلفة من التعليم والتأهيل والخبرة؟
ما هي المشاريع التي يمكن خَلقُها أو تطويرها في المناطق الفقيرة والمحرومة؟
كيف يمكن تمويل هذه المشاريع، وهل توجد دراسات عملية قابلة للتطبيق فور توفير الموارد البشرية والمالية؟
كيف يمكن التوفيق بين القطع مع مؤسسات “بريتن وودز”، ومع أساليب النّهب الإمبريالي للموارد، ومواصلة “الإنفتاح على الخارج”، في غياب تعاون إقليمي أو عربي؟
أما أهم هذه الأسئلة: هل يُفكِر زُعماء اليسار الإشتراكي (أو الشيوعي ) في الإستيلاء (بشكل أو بآخر) على السلطة، وإدارة شؤون البلدان العربية، وخدمة مصالح الطبقات الكادحة، والفئات الشعبية، وإذا ما فَكّروا في ذلك، هل وفّرُوا الوسائل الضرورية لذلك؟
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.