رأسماليّة 1948: الماضي والحاضر، مجد كيّال

■ رأسماليّة 1948: الماضي

رأسماليّة 1948: الحاضر

ملاحظة من “كنعان”

  • ● ●

ملاحظة من “كنعان”:

تنشر  “كنعان” المقالتين التاليتين للكاتب مجد كيال مبدية الملاحظات التالية:

بُنيت المقالتان على تحليل نقدي وجذري، ولذا نستغرب لماذا لم يتحدث الكاتب عن أن التناقض تناحري مما يجعل كافة الإصلاحات من الطرف الصهيوني والتوجهات الاستتباعية باسم المساواة من الطبقة/تين الفلسطينييتين نقيضا للحل الجذري. والغريب ان تحليل الكاتب كان يجب ان يصل هذا الاستنتاج القطعي.

كما ان تسمية طبقة برجوازية ووسطى فلسطينية في المحتل 1948 أمر يحتاج لنقاش وتدقيق نظريين.

وهل يمكن القول ب راسمالية فلسطينية في 48 وأخرى في 67 وأخرى في الشتات؟ من حيث اكتمال كل واحدة وتحديد نمط الإنتاج الذي ترتكز عليه،  وما تناقض وتناغم هذا مع المسألة الأساس وهي: أن الشعب الفلسطيني يخوض صراعه الوجودي ضد الكيان أي ان جامعه القومي السياسي هو الأساس وبأن الاندماجات الطبقية في الاقتصاد الصهيوني عبر الإصلاحات لا تخفي او تموه المسألة الطبقية لفلسطينيي 48 بل تموه المسألة القومية اساساً.

واضح ان الكاتب يرفض الاندماج ، كما انه يركز على المسألة الطبقية أكثر من المسألة القومية، وهذا يعيدنا إلى ورقة قدمها الدكتور عادل سمارة لمؤتمر حركة ابناء البلد  يوم 6 حزيران عام 1998:”تفكيك الدولة الإشكنازية بالمشروع القومي” ونشرتها “كنعان” الفصلية في العدد 93 تشرين الثاني 1998 ص ص 9-46. وملخصها أن يقوم فلسطينيو 48 بطرح مشروع الانفصال عن الكيان وخاصة في الجليل اقتداء او استغلالاً لما قامت به الإمبريالية من تخليق الموجة القومية الثالثة التي قضت بتفكيك الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا حيث دعمت انفصال إثنيات وقوميات عنهما، فلماذا لا نستغل هذا ونستخدمه كحق لنا . أي تفكيك الكيان لإعادة توحيد فلسطين بتحريرها. ولا زلنا نعتقد أن فك الارتباط ومحاولة الانفصال عن الكيان سوف يخلق مناخا صداميا وتجميع ذاتي فلسطيني ومربكا للكيان.

مسألة الانخراط الفردي وخاصة للمتفوقين والتي ينقدها الكاتب بشكل جيد، كان قد اشار إليها منذ سبعينات القرن العشرين نائب رئيس بلدية القدس سابقا ميرون بنفنستي حينها ولكن عن الضفة والقطاع حيث قال بأن الاحتلال يخلق نجاحا لأفراد وإفقارا للأكثرية الساحقة.

كما أن عزمي بشارة بترشحه لرئاسة الوزراء هو المثال الساطع على الاندماج والارتفاع الفردي من جهة كترشُّح وتنازله لصالح باراك من جهة ثانية كاندماج بالمطلق. ولا ندري لماذا لم يذكره الكاتب.

في مقالة  “رأسماليّة 1948: الماضي” ورد:

“…تأسست الحركة التقدمية وتمثّلت في الكنيست لدورتين، ثم مع تراجع “التقدمية” تأسست حركة “ميثاق المساواة” عام 1992، وضمّت عزمي بشارة وجمال زحالقة وباسل غطّاس ومناضلين يهود معادين للصهيونية مثل ميشال فارشافسكي وغيرهم.” وميشيل فارشافسكي ليس معادياً للصهيونية بل هو من تيار تهذيب الصهيونية وجعل الصراع او التناقض مع صهيونية الدولة وليس مع استيطانيتها.

وكتب ما يلي:

“…ولعل المثال الأبرز على هذه الدالة هو صيرورة الحركة التقدمية في الثمانينيات، والتي بدأت كقائمة عربيّة – يهوديّة تضم يهوداً يساريين عرّفوا أنفسهم كاشتراكيين ثوريين معادين للصهيونية، وانتموا سابقاً لحركة “ماتسبن” (ومعناها البوصلة). ولكن الحركة سرعان ما أصبحت قائمة فلسطينية فقط، وكان ذلك بعد أن استقال اليهود منها احتجاجاً على موقفها الداعم لصدام حسين إبان غزو الكويت. بيد أن هذه “القشة” التي قسمت ظهر البعير نتجت عن تراكم التوجه القومي الصرف لقيادة الحركة.”

لا نرى أن الكاتب كان موفقا في وصف استرجاع الكويت ب “الغزو” بما هي المقاطعة رقم 19 من العراق لم تنفصل حتى بإرادة سكانها، إن كان لهم حق الانفصال عن البلد الأم، وإنما بقرار استعماري. وهذا هو الفارق بين خطأ التوقيت من صدام حسين وبين حق الاسترجاع.

وهل اليهود الذين ضد استعادة الكويت يساريون واشتراكيون وثوريون ومعادون للصهيونية؟ على ماذا ارتكز موقفهم؟ هل هو على أكذوبة ان الكويت دولة عضو في الأمم المتحدة؟ وهل اقتطاع منطقة من بلد بالقوة الاستعمارية يبرر تحولها إلى دولة عضو في الأمم المتحدة؟  فالكيان عضو مع أنه لم يستوف الشرط المركزي لقبوله وهو عودة اللاجئين؟ إن موقف هؤلاء اليهود هو عدائهم للقومية العربية باعتبار ان الوحدة العربية فقط هي التي تحرر فلسطين وبالتالي فالقومية العربية هي عدوهم الفعلي.

يقول الكاتب:

“…وجدت البرجوازية الفلسطينية في الهوية القومية المفتاح لعدة أبواب: الحفاظ على كبرياء يزدري شخصية الفلسطيني الذليل بعد النكبة، والأرضية لإقامة مؤسسات فلسطينية “مستقلّة” تُنمّي نفوذها بناءً على تعريفها لنفسها كأقلية قومية، وصياغة سياسية – هي مناهَضة يهودية الدولة – تكافح من خلالها لتحصيل “تكافؤ الفرص” للتقدّم والتوسع في المؤسسات الإسرائيلية التي كانت تشهد خصخصة، واكتملت عملية تحولها لسوقٍ رأسمالي صرف”.

لم يذكر الكاتب موقفه من استخدام البرجوازية الفلسطينية للهوية القومية؟ بمعنى رفضه قيامها بتوظيف الهوية القومية وليس اعتماد الانتماء النضالي القومي. ولم يدفع تحليله إلى مداه بمعنى العمل للانفصال عن الكيان. ولم يشرح إن كان ممكنا إقامة مؤسسات فلسطينية مستقلة؟ ما معنى أو مدى اهمية هذا الاستقلال؟ وخاصة أنه يكتفي بمناهضة يهودية الدولة. أما أن الخصخصة اكملت تحول مؤسسات الكيان إلى سوق راسمالي صرف! فهو هكذا اصلاً.

“كنعان”

■ ■ ■

رأسماليّة 1948: الماضي

كانت “سياسات الدمج” واحدة من استراتيجيات وأد الانتفاضة التي تبنتها الحكومة الإسرائيلية بعد أن أوصت بها لجنة “أور” التي حقّقت بأحداث “أكتوبر 2000”. يتفحص هذا الفصل الأول أشكال التعامل الفلسطيني مع هذه الاستراتيجيات، ويستكشف أسسها وتعبيراتها السياسية والفكرية والاجتماعية. وسيتناول الفصل الثاني “الحاضر”، فيما يطل الفصل الثالث على “المستقبل”.

2019-08-08

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا

“رأسمالية الاقتصاد أقوى من عنصرية نتنياهو وجماعته”. هذه جملة جاءت على لسان الباحثة نسرين حدّاد، وهي مديرة “برنامج العلاقات اليهودية العربية” في “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”. وعلى الرغم من أن الجملة، للإنصاف، قيلت في سياقٍ سياسي معقول، إلا أنّها تكشف ببساطة ووضوح عن فصلٍ مفاهيمي مقلقٍ بين الرأسمالية والعنصرية، بل وتصوِّرهما كعاملين متناقضين. وهي تعبِّر عن رؤية سائدة اجتماعياً تقول بأن قوة السوق وحاجاته، كما وحرية المنافسة فيه، يمكنها أن تشكِّل وسيلةً لتجاوز العنصرية وتذويبها. أن قدرة الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 أن يجتهدوا تعليمياً ومهنياً كفيلة برفع مكانتهم وتغيير واقع القمع والتمييز ضدهم. وأنّ المشكلة هي في وجود “سقف زجاجي” يمكن تحطيمه من خلال اجتهادنا من جهة، وتخصيص الدولة للموارد من أجل تمكيننا وتوجيهنا السليم نحو سوق العمل من جهة أخرى.

تخلق هذه المقولات أوهاماً، ولكن مشكلتها أنها تتضمن فصلاً يبرّئ الرأسمالية من الغبن والعنف الجوهريين فيها، ويصوّرها كعامل مستقل عن الحُكم السياسي والسلطة، ثم يغفل توظيف المسارات الاقتصادية العميقة في إخضاع المجتمع الفلسطيني وقمعه. ومن جهة أخرى لا تقل خطورة، فإن هذا الفصل يتعامل مع العنصرية كأنها صفة خلقية جامدة لدى جماعة ما، وليس كظاهرة اجتماعية وسياسية تتغلغل في المجتمعات وتتغير من خلال الأيديولوجية التي يدفع بها رأس المال الاستعماري. أي أنها، عملياً، تفسّر العنصرية بشكلٍ عنصري.

هناك رؤية سائدة اجتماعياً تقول بأن قوة السوق وحاجاته، وحرية المنافسة فيه، يمكنها أن تشكِّل وسيلة لتجاوز العنصرية وتذويبها. وهذا يتضمن فصلاً بين الأمرين، ويُبرّئ الرأسمالية من الغبن والعنف الجوهريين فيها، ويصوّرها كعامل مستقل عن الحُكم السياسي والسلطة، ثم يغفل توظيف المسارات الاقتصاديّة العميقة في إخضاع المجتمع الفلسطينيّ وقمعه.

إن هذا الفصل المفاهيمي – الذي يُمكن أن نجد آثاره في ما لا يُحصى من المضامين السياسية والاجتماعية في فلسطين في العقود الأخيرة – يقوم على نفي العلاقة بين ديناميات السوق الإسرائيلي من جهة، وممارسات النظام العنصرية والقمعية من جهة أخرى. فلا يعود بالإمكان تشكيل فهم حقيقي وواقعي لا لهذه ولا لتلك. وهذا الفصل من شأنه أن يُخفي ويغطّي سياسة إسرائيل: سياسةٌ توظّف شغف الإنسان وطموحاته وحاجاته الشرعية في خدمة نظام سياسي غير شرعي. هنا، تُصاغ لدى الفلسطينيين قناعات حول التقدم المهني والعلمي، حول النجاح وتحقيق الذات، وتتحول هذه القناعات إلى قيم عليا تتفوق على أي اعتبارٍ سياسي أو أخلاقي آخر. بكلمات أبسط: يُمكن للأفراد الفلسطينيين تحقيق أحلامهم وطموحاتهم الشرعية والصحية (بل والجميلة والهامة!) إنما بشرط التماهي مع مؤسسات النظام الصهيوني.

الفرسان الثلاثة

ضجّت الصحافة الإسرائيلية والفلسطينية، واحتفلتا مطلع حزيران/ يونيو الفائت بخبرٍ تاريخي: انعقد مجلس إدارة مصرف “ليئومي” الإسرائيلي لينتخب رئيسه الجديد، ووقع الاختيار على الاقتصادي الفلسطيني د. سامر حاج يحيى. ثاني أكبر بنك في إسرائيل وأحد أعمدة اقتصادها – والذي أسسته المنظمة الصهيونية عام 1902، واعتُمد كبنكٍ مركزي للاستعمار، وأصدر أول عملة إسرائيلية بعد النكبة – يرأسه الآن رجل فلسطيني. قبلها، تولّى حاج يحيى مناصب دولية مرموقة في شركات مالية عالمية رائدة، ومناصب في كبرى الشركات والمؤسسات الإسرائيلية، إلى جانب عضويته في العديد من المجالس الإدارية لشركات. وهو حائز على الدكتوراه عام 2004 في مجال الاقتصاد الكلي من جامعة MIT الأمريكية، وكانت أطروحته قد عالجت في ثلثها الأول تأثير “الإرهاب” الفلسطيني على المستهلكين والمستثمرين في إسرائيل.

الصحافة الإسرائيلية أكدت أن سامر حاج يحيى ينتمي لعائلة متميّزة. ويهمّنا هنا تفصيل إنجازات هذه العائلة، ليس من باب الشخصنة وإنما لأنها – مجتمعة – تعرض مسارات وأنماطاً متعدّدة لما يُسمى “التقدم المهني” وعلاقته بالسلطة. رئيس إدارة بنك “ليئومي” هو الأخ الأوسط بين سليم وراني. قبل شهورٍ قليلة، ضجت الساحة الفلسطينية بشأن الأخ الأكبر، بروفيسور سليم حاج يحيى “الإسرائيلي جداً” (على حدّ تعبيره في صحيفة هآرتس) هو أحد جراحي القلب السباقين عالمياً، وأستاذ متمرّس في كليّة الطب في جامعة بريستول البريطانية. رئيس حكومة السلطة الفلسطينية السابق، رامي الحمد لله، استدعى الطبيب المقيم مع عائلته في مدينة غلاسكو السكوتلنديّة، ليؤسس أول مستشفى جامعي فلسطيني في “جامعة النجاح” (التي كان الحمد لله رئيسها منذ 1998) بمدينة نابلس. شغل الطبيب منصب المدير العام في المستشفى ومنصب عميد كلية الطب في جامعة النجاح. وكان الحمد لله قد تولّى رئاسة مجلس الأمناء وجنّد أموالاً لإقامة المستشفى. في آذار/مارس 2019، وإثر نهاية “شهر العسل” بين الحمد لله وحاج يحيى، أقيل الأخير من منصبه وأعلن أنه سيغادر البلاد، ويعود إلى عمله في المملكة المتحدة.

أما الأخ الأصغر، راني حاج يحيى، فيتولى منصب المدير العام لمشروع “بوابة الأردن”، وهو أضخم مشاريع التطبيع الاقتصادي بين الأردن وإسرائيل، ويضم منطقة صناعية وتجارية حرة بين الدولتين. كذلك يشغل راني منصباً في مجلس إدارة “عابر إسرائيل”، مشروع الطريق السريع (“شارع إسحاق رابين” أو “شارع 6”) الذي يقطع البلاد من شمالها حتى جنوبها. ويُعدّ هذا المشروع أحد أعنف المشاريع من حيث مصادرته لأراضي الفلسطينيين، ولا تزال المخططات المستقبلية لتوسيعه تعتمد على مصادرة المزيد من أراضي القرى والمدن الفلسطينية. ليس ذلك فقط، إنما لعب هذا المشروع دوراً تخطيطياً مركزياً في تطويق البلدات لمنع توسعها مستقبلاً. لنأخذ – على سبيل المثال لا الحصر – المدينة التي وُلد فيها الأخوة الثلاثة، الطّيبة، ويحدّها الخط الأخضر وجدار الفصل من الشمال ومن الشرق، وتخنقها من الجنوب مستوطنة “كوخاف يائير” (ثم أضيفت مستوطنة جديدة اسمها “تسور يتسحاك” لتستحوذ على المساحات المتبقية جنوباً). وبعد خنق المدينة من الجهات الثلاث، جاء شارع “عابر إسرائيل” ليحدّها ويغلقها من الغرب أيضاً. إنما لا بأس، مع هذا، لا مانع لدى الابن الأصغر، راني، من أن يحقّق إنجازاً تلو الآخر ضمن هذا النوع من الشركات، وأن يكون محل فخرٍ واعتزاز لأبناء مدينته المحاصرة وأبناء شعبه المحاصر.

ناهضوا البنك ولو في الصين

اتّخذ النقاش حول انتخاب حاج يحيى رئيساً لإدارة بنك “ليئومي” مساراً اعتيادياً: من جهة أولى نجد المحتفلين بالإنجاز، ممن اعتبروه مثالاً لقدرة الفلسطينيين على تحقيق أحلامهم وطموحاتهم إذا ما اجتهدوا فأجبروا الإسرائيليين على تقديرهم. ومن الجهة الثانية من اعتبروا تولّيه المنصب أسرلةً خالصةً، وخدمةً لأحد الأعمدة المركزية في اقتصاد إسرائيل، وعددوا ما يتورط به المصرف الصهيوني من جرائم بحق الفلسطينيين، مؤكّدين على أن النجاح الفردي ضمن المؤسسة لا يُمكنه أن يقارع الاستعمار. لكنّ المثير أنّ ما سقط واختفى من هذا النقاش هو الموقف من المصرف ذاته – أي مصرف – مؤسسة يجدر نقدها ومكافحتها ومواجهة ممثليها. أن تعيين “ابننا” رئيساً لإدارة مصرف / ذراع للعنف السلطوي الأعمق في المجتمع – في كل مجتمع – يجب أن يثير حفيظتنا، حتّى لو كان البنك في الولايات المتحدة أو في سويسرا أو في الصين. هذا الموقف الذي يُفترض أن يكون ألف باء كل إنسان مناهض للرأسمالية وينادي بالعدالة الاجتماعية… اختفى كلياً.

اختفاء هذا الموقف يعبِّر عن اندثار مفاهيم العدالة الاجتماعيّة من قاموس الخطاب الوطني الفلسطيني، إثر صيرورة اجتماعية وسياسية طويلة. لدينا اليوم رؤيا سياسية قومية أهملت التحليل المادي في فهم الصهيونيّة وأدوات قمعها. بل الأنكى من ذلك أن تطور الخطاب القومي همّش وسخّف بل وهاجم القراءة الطبقية لإسرائيل واعتبرها، بسطحية مخجلة، ضرباً من ضروب الأسرلة. ولعلّ المثال الأوضح على ذلك خطابياً هو الخلاف الشرس بين قوميي “التجمع الوطني الديمقراطي” الذي أسسه عزمي بشارة في التسعينات الفائتة، وشيوعيي “الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة”. هاجمت “الجبهة” حزب التجمّع بوصفه “شوفينياً” وراديكالياً، وهاجمها هو بدوره، بوصف رؤيتها “العربية اليهودية” و”فهمها الطبقي” للصراع تواطؤاً مع الصهيونيّة.

لكن اندثار القراءة الاجتماعيّة لم يأت من جهة الخطاب القومي فقط، إنما أيضاً من جهة “الخطاب الطبقي” الذي قدمه الشيوعيون بشكلٍ دوغمائي لا يعرف من الماركسية غير رموزها المتحجرة. وقد أدى بها هذا الجمود الفكري إلى تفادي أي اصطدام مباشر مع الأيديولوجيا الصهيونية، وإخماد كل ما هو ثوري في الخطاب.

حدث اندثار لمفاهيم العدالة الاجتماعيّة من قاموس الخطاب الوطني الفلسطيني، إثر صيرورة اجتماعية وسياسية طويلة. وسادت رؤيا سياسية قومية (عروبية) أهملت التحليل المادي في فهم الصهيونيّة وأدوات قمعها. بل أن تطور الخطاب القومي همّش وسخّف وهاجم القراءة الطبقية لإسرائيل واعتبرها، بسطحية مخجلة، ضرباً من ضروب “الأسرلة”.

يرجع جذر هذا التشنّج إلى تحوّلات اجتماعية أنشأت نخباً رأسمالية فلسطينية (وإن كان حجمها متواضعاً ولا يُقارن بنظيرتها الإسرائيلية)، واتّسعت طبقة وسطى، وبرزت منها نخب سياسية وفكرية وثقافية. هذه الشرائح البرجوازية الجديدة أعادت صياغة الخطاب الوطني بحسب مصالحها، واستخدمت التعددية الحزبية للتنافس بشكلٍ ديمقراطي فيما بينها من خلال انتخابات الكنيست، واستخدمت أدوات المجتمع المدني لتبني مؤسساتها وتتوسّع فيها، منشدةً تحقيق ممكناتها. ولئلا يُحرّف هذا النقد المادي للخطاب القومي الذي برز في هذا السياق، ويتحوّل إلى مجرّد أداة للتراشق والمزايدة، فلا بدّ من قول المفهوم ضمناً: أن هذه الدوافع المادية والمصلحية لم تكن بالضرورة مُدْرَكَة بين أبناء هذه الشرائح، وهي ليست بالضرورة دوافع مبيّتة وخبيثة وانتهازية (طبعاً)، كما أن توصيفها لا ينتقص لا من وطنية الناس، ولا من صدقهم. ولكن فهم هذه الدوافع المادية ووظيفة الطبقة الناشئة في الخطاب السياسي هو الإمكانية الوحيدة لفهم ما وصل إليه واقعنا السياسي اليوم.

السبعينيات: الرأسمالية تحتضن الوطنية

معروف أنّ يوم الأرض علامة تاريخية هامة في تغيّر سياسة الفلسطينيين في الداخل. لكن الأقل ذكراً هو الصيرورة الأعمق التي بدأت تظهر مع قرار الحزب الشيوعي الإسرائيلي (وكان في حينه التيّار السياسي الوحيد الذي مثّل الفلسطينيين دون أن تحظره إسرائيل) توسيع صفوفه من خلال تشكيل تنظيمي أوسع يدعى “الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة”، يكون قادراً على تجاوز صفوف الحزب، والتوسّع من خلال ضم شرائح نخبوية جديدة نشأت من دون انتماء مباشر له (أيّ الحزب) ولا إلى القيادات العشائريّة العميلة لإسرائيل. وكانت بدايات هذا التوجه قد ظهرت بقيادة توفيق زياد في مدينة الناصرة عام 1974، حيث تحالف الحزب الشيوعي مع هيئات مثل رابطة الأكاديميين أو لجنة التجار وأصحاب المصالح الخاصة. هذا التغيير في الحزب الشيوعي جاء بعد سلسلة تطورات ليس هنا المكان لتفصيلها، ولكنها بالمحصلة زادت من الطابع الفلسطيني للحزب، رغم أنه بقي حزباً عربياً – يهودياً ويُعرِّف نفسه كإسرائيلي.

في الثمانينيات، بدأت تتجسد حركة الطبقة الوسطى الفلسطينية سياسياً بالارتباط بالحركة الإسلامية الصاعدة (في منطقة المثلث خاصةً وبدايةً) ومراهنة رؤوس الأموال على قاعدة الحركة الشعبية المتعاظمة.

تشكّلت هذه الشرائح “النخبوية” التي ضمّها الحزب الشيوعي في “جبهته” مع بدايات تطور رأسمال فلسطيني بعد عقد من الزمن نضجت فيه ظروف إثر تغيرين هامين: الأول، نهاية الحكم العسكري الذي فُرض على فلسطينيي الداخل، واتساع رقعة “الحريات” المتاحة للناس بالتعلّم الجامعي أو ممارسة المهن وغيرها، وتحسّن في الأوضاع الاقتصادية عامةً. والثاني هزيمة 1967 وما تلاها من دورٍ لفلسطينيي الداخل في الوساطة بين السوق الإسرائيلي من جهة، واليد العاملة الفلسطينية في الضفة وغزة من جهة أخرى. وهي وساطة كدّست رأسمال فلسطيني في الداخل بتسارعٍ استمر حتى اندلاع الانتفاضة الأولى.

في مقالٍ نشره الباحث عاز دكور في مجلة “الدراسات الفلسطينية” في شتاء 2017، يصف الكاتب هذا التقارب بين النخب الجديدة والحركات السياسية في السبعينيات بهذه الكلمات: “تقلصت المسافة القيمية والمصلحية/السياسية بين أصحاب رؤوس الأموال والطبقة الوسطى من جهة، والنشاط السياسي الوطني فكراً وممارسةً من جهة أخرى، وتطورت إثر ذلك لغة وآليات تجمع ما بين الهوية الوطنية والمصلحة الاقتصادية ورأس المال العربي من دون أن تُوقعهما في تناقض”.

لكن “عدم الوقوع في التناقض” لم يكن نهاية القصة، إنما بداية العلاقة. فالحقيقة أن النخب الجديدة تحرّكت ضمن الخارطة السياسية وطورتها. أي أنها لم تجلس على حياد ما، ولم تكتفِ بعدم التناقض مع الحركة السياسية. أنتجت هذه الطبقة محامين وأكاديميين ومثقفين وغيرهم، ممن تعرّفوا على العمل السياسي، وانخرطوا فيه، وكانوا قادرين على وصل الجسور مع التنظيمات والشخصيات التي هُمِّشت سياسياً بسبب الحظر الإسرائيلي والملاحقة على مدى سنوات طويلة (والتي تراجعت تدريجياً)، ويُمكن أن نذكر منهم الدوائر التي أسست حركة “الأرض” سابقاً، أو المنتمين لحركة “أبناء البلد” وغيرهم، وهي دوائر اجتماعية وسياسية تطوّر شبابها أيضاً من حيث المستوى التعليمي والمهني.

كيف تجسّدت الطبقة سياسياً؟

في الثمانينيات، بدأت تتجسد حركة الطبقة الوسطى الفلسطينية سياسياً بشكلين: واحد هو الارتباط بالحركة الإسلامية الصاعدة (في منطقة المثلث خاصةً وبدايةً) ومراهنة رؤوس الأموال على قاعدة الحركة الشعبية المتعاظمة. كانت الحركة الإسلامية معنية بالأعمال والمصالح التجارية منذ مرحلة مبكرة، ولطالما دعمت رجال الأعمال من خلال تحريك مؤيديها كقوةٍ شرائية، ثم تسهيل المصالح من خلال المجالس المحلية التي سيطرت عليها الحركة. بالمقابل، استفادت الحركة من هذه المصالح لدعم مؤسساتها الاجتماعية، وكانت هذه العلاقة جوهرية في صعود الحركة الإسلامية.

أما التجسّد الثاني فكان من خلال ما تطوّر في الشق العلماني من الخارطة السياسية، وهو التشكيلات السياسية الجديدة التي لطالما تناغمت مع انشقاقات في “الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة”. وقد نتجت عن هذه الصيرورة تشكيلات سياسية جديدة، وهي بالوقت ذاته غيّرت في خطاب الجبهة. ولكن ديناميات الحزب لم تحتمل قوة الدفع “القومي” التي حملتها هذه النخب الجديدة، لا فكرياً ولا تنظيمياً.

مع التسعينيات الفائتة، وفي أراضي 1948، كانت الطبقة الوسطى الفلسطينية ونخبها قد نمت وأثبتت جدارتها في التعليم والتقدّم المهني داخل المؤسسات الإسرائيلية، من الجامعات وصولاً إلى مؤسسات المجتمع المدني، وسعت للتقدم ولتطوير مكانتها المالية والاجتماعية.. لكنها سرعان ما اصطدمت بالحدود التي تفرضها الهيمنة الصهيونية في كل مجالات الحياة.

تأسست الحركة التقدمية وتمثّلت في الكنيست لدورتين، ثم مع تراجع “التقدمية” تأسست حركة “ميثاق المساواة” عام 1992، وضمّت عزمي بشارة وجمال زحالقة وباسل غطّاس ومناضلين يهود معادين للصهيونية مثل ميشال فارشافسكي وغيرهم. ثم تأسس بعد أعوامٍ قليلة “التجمع الوطني الديمقراطي” الذي لعب دوراً مركزياً فيما بعد. ويُمكن ملاحظة أن تطوّر هذه الأحزاب اتّسم بالتوجه نحو الخطاب القومي بشكلٍ تدريجي كدالة للانفصال عن نهج الحزب الشيوعي الذي اعتُبر مهادِناً مع السلطة. ولعل المثال الأبرز على هذه الدالة هو صيرورة الحركة التقدمية في الثمانينيات، والتي بدأت كقائمة عربيّة – يهوديّة تضم يهوداً يساريين عرّفوا أنفسهم كاشتراكيين ثوريين معادين للصهيونية، وانتموا سابقاً لحركة “ماتسبن” (ومعناها البوصلة). ولكن الحركة سرعان ما أصبحت قائمة فلسطينية فقط، وكان ذلك بعد أن استقال اليهود منها احتجاجاً على موقفها الداعم لصدام حسين إبان غزو الكويت. بيد أن هذه “القشة” التي قسمت ظهر البعير نتجت عن تراكم التوجه القومي الصرف لقيادة الحركة.

التسعينيات: “بناء مؤسسات” وإعادة فهم الصهيونية

وصلت هذه الصيرورة أوجها في التسعينيات. وكان تأسيس حزب “التجمع الوطني الديمقراطي” تعبيراً جدياً عن تصور البرجوازية الفلسطينية الجديدة لعلاقتها مع السوق الإسرائيلي.

نمت الطبقة الوسطى ونخبها. أثبتت جدارتها في التعليم والتقدم المهني داخل المؤسسات الإسرائيلية، من الجامعات وصولاً إلى مؤسسات المجتمع المدني. سعت للتقدم ولتطوير مكانتها المالية والاجتماعية، لكنها سرعان ما اصطدمت بالحدود التي تفرضها الهيمنة الصهيونية في كل مجالات الحياة. كبر مع هذه الطبقة وعيها للتمييز ضدها على أنه تمييز بسبب هويتها القومية، والفهم بأن هذا التمييز جوهري في تعريف الدولة لنفسها كدولةٍ يهودية. ورأت أن تحقيق مصالحها مرتبط بما يُسمّى “رفع مكانة العرب في إسرائيل” من خلال التشديد على البُعد الهويّاتي في الصراع، ليُلقى الضوء على “يهودية الدولة” مقابل “المواطنين العرب”. هذا الوعي تجاه “يهودية الدولة” لم يظهر من قلب هذه الفئات فقط، لكنها تنبهت لإشكالية التعريف ضمن مرحلةٍ انشغلت فيها المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية بالسؤال حول تعريف الدولة ونظامها. وقد تأثرت النخب الأكاديمية الفلسطينية بهذا الجدل وأسقطته على حالتها. وكانت هذه البرجوازية، ونتيجة ما حقّقته من تقدمٍ علمي ومهني، قد أدركت أن إنكار الهوية الوطنية الفلسطينية، والتذلل لإسرائيل أو حتى التعاون معها من أجل التقدّم الشخصي (كما في الستينيات مثلاً)، لا يُحقق المصالح التي ترتئيها، ولا يُكسبها غير الفتات الذي لا يُشبع طموحاتها، وعلاوة على ذلك أن المكانة التي اكتسبها أبناء هذه الشرائح خلال عقودٍ ثلاثة سلّحتهم بكبرياء يطمح للنظر إلى الإسرائيلي بندّية على المستوى الشخصي.

شهدت التسعينيات الفائتة تكريساً جدياً لخطاب حقوق الأقليات الإثنية، خاصةً بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وحروب يوغوسلافيا وقرار الأمم المتّحدة عام 1992 بشأن “حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية”، ما يعني اهتمام الجهات الدولية المموّلة بخطاب “الأقلية العربية في إسرائيل”.

بدأت، ضمن هذه الحالة، تنبني مؤسسات فلسطينية مستقلة. بدأت النخب الجديدة هذه تنفصل عن المؤسسات الإسرائيلية التي نشأت فيها، وتدربت على استخدام الأدوات التنظيمية وتجنيد الموارد. تنظّمت من خلال الجمعيات بالأساس، واعتمدت على تجنيد التمويل الأوروبي والأمريكي. فقد شهدت التسعينيات تكريساً جدياً لخطاب حقوق الأقليات الإثنية، خاصةً بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وحروب يوغوسلافيا، وقرار الأمم المتّحدة عام 1992 بشأن “حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية”، ما يعني اهتمام الجهات الدولية المموّلة بخطاب “الأقلية العربية في إسرائيل”. ولطالما وُصفت هذه بأنها مرحلة “بناء مؤسسات” يُفتخر بها وطنياً، إذ نشأت فيها أغلب الجمعيات الأهلية الهامة اليوم. لكن ما يغيب عن الوصف أن هذا الهم الوطني ببناء المؤسسات كان محمولاً على أكتاف نُخب جديدة تؤسس نفوذها كلٌ في مجاله، وكلٌ في مهنته. اختلطت المصالح المادية بالبناء الوطني، وقد لا يجوز الحكم “الأخلاقي” على الدوافع، ولكن الأكيد أن النتيجة أمامنا اليوم تقول إن معظم مؤسسات المجتمع الأهلي باتت مرتبطة كلياً بشخوص رؤسائها أو الدوائر الضيقة التي تديرها. هذا أولاً. ثم يُمكن رؤية مدى نخبوية هذه المؤسسات وابتعادها عن القواعد الشعبية المستضعفة فعلاً. وهو ما يُفسِّر ما وصلنا إليه بعد كل هذه السنوات من عدم قدرة هذه المؤسسات والأحزاب على أن تكسب التفاف هذه الطبقات التي تشكّل أغلبية شعبنا.

من “الخطاب القومي” إلى “الخطاب القومي الديمقراطي

في هذه اللحظة التاريخيّة، نشأ التجديد الأهم في الخطاب القومي الفلسطيني في الداخل: نشأ “حزب التجمع”، وقدّمت كتابات عزمي بشارة – والذي تتلخّص في خلفيته الاجتماعية وسيرته الذاتية وأطباعه الشخصيّة مُجمل “الفنتازيا” البرجوازية في تلك “المرحلة الجديدة”- ما بات يُعرف بالخطاب “القومي الديمقراطي”، باعتباره تجديداً للخطاب القومي الذي كان موجوداً في حركات هامشية. ومصطلح “الديمقراطية” في هذا السياق لطالما عُرِض في “التجمع” على أنّه موقف ضد التعصب للقومية، وضد تحويلها أيديولوجياً. وهذا موقف مفهوم وهام. ولكن السؤال: هل أتى استخدام “الديمقراطية” هنا ليصف نوع الهوية القومية التي يتمسك بها الحزب؟ هل كانت “الدمقرطة” موجهة لمجتمعنا ورؤيتنا الوطنية؟ أم أن “الديمقراطية” هنا تعني تصورنا لدولة إسرائيل وكيف يجب أن يكون نظامها؟ الحقيقة أنّ “دمقرطة” الخطاب القومي كان معناها أن يطور الخطاب طموحات ديمقراطية تجاه النظام الإسرائيلي – باستخدام مفاهيم “المواطَنة” و”التعددية الثقافية”.

التغيير الحقيقي الذي نشأ هنا هو تحوّل الخطاب القومي من خطاب يتنافى مع وجود الاستعمار الإسرائيلي، إلى خطاب هوية قومية يُمْكن ممارستها ضمن الاستعمار الإسرائيلي، ويُمكنها أن تشكّل دافعاً لدمقرطته. وبكلمات أدق، أن “الهوية القوميّة” يجب أن تُحفظ في داخل “المواطَنة الإسرائيليّة الكاملة”، وليس كنقيضٍ لهذه المواطنة. صحيح أن الموقف بقي مناهضاً للصهيونية بشكلٍ حادٍ ومباشر. فعلاً. ولكن الخطاب “القومي الديمقراطي” أعاد صياغة مفهومنا للصهيونية بأدوات الديمقراطية الليبرالية، بحيث تُركِّز المعركة مع الصهيونية على مسألة “يهودية الدولة”. هكذا، تبدّل تصورنا للصهيونية: لم تعد مشكلة الصهيونية في تاريخها الذي يطرح أسئلة عن حقّها في الوجود، إنما في حاضرها الذي يُمكنه أن يتغيّر للأفضل. كأننا نقول: المشكلة ليست في استعمارية الصهيونية، المشكلة في يهوديتها. المشكلة، بحسب الخطاب القومي الجديد، ليست في أنها تؤسس كياناً أجنبياً يخدم مصالحاً للرأسمالية الغربية في المنطقة، ويفعل هذا من خلال سرقة الأرض والتطهير العرقي، والاستغلال الحقير للهولوكوست وضحاياه، واقتلاع يهود الشرق والمغرب العربي من أوطانهم، واستغلالهم وارتكاب الجرائم بحقّهم أيضاً، وإلى آخر ذلك من أعمدة الصهيونية الأساس. المشكلة في أنها تعرِّف نفسها كدولةٍ يهودية، وفي أن هذا التعريف يجعلها جوهرياً تُميِّز ضد “الأقلية العربية”.

مع “حزب التجمع” وما بات يُعرف بالخطاب “القومي الديمقراطي”، تحوّل الخطاب القومي من خطاب يتنافى مع وجود الاستعمار الإسرائيلي، إلى خطاب هوية قومية يُمْكن ممارستها ضمن الاستعمار الإسرائيلي، ويُمْكنها أن تشكّل دافعاً لدمقرطته.

أحد أبرز القوانين التي سنّها عزمي بشارة في الكنيست كان “قانون التمثيل الملائم في الشركات الحكومية”، وهو يُلزِم الدولة تخصيص مقاعد للمواطنين الفلسطينيين في مجالس إدارة شركاتها، وهذا مثال على تحوّل المطالبة بالحقوق القومية إلى مطالبة بالاندماج في الاقتصاد الإسرائيلي.

هذا التحوّل جاء أيضاً في سياقٍ عام إسرائيلي طُرحت فيه مسألة الديمقراطية الليبرالية بقوة، وهي، علاوةً على التحولات الاقتصادية في إسرائيل، شهدت أيضاً ما يُسمّى “الثورة الدستورية”، ومن ضمنها قوانين الأساس التي سُنّت، مثل “قانون حرية الإنسان وكرامته” و”قانون حرية مزاولة المهنة” وقرارات أخرى للمحكمة العُليا قادها القاضي الإسرائيلي أهارون باراك. وقد راكم العمل السياسي والقانوني ادعاءاته أمام إسرائيل مستنداً لهذه القوانين.

بناء المؤسسات: بديل يناهض الدولة أم ساحة أخرى للرقص؟

وجدت البرجوازية الفلسطينية في الهوية القومية المفتاح لعدة أبواب: الحفاظ على كبرياء يزدري شخصية الفلسطيني الذليل بعد النكبة، والأرضية لإقامة مؤسسات فلسطينية “مستقلّة” تُنمّي نفوذها بناءً على تعريفها لنفسها كأقلية قومية، وصياغة سياسية – هي مناهَضة يهودية الدولة – تكافح من خلالها لتحصيل “تكافؤ الفرص” للتقدّم والتوسع في المؤسسات الإسرائيلية التي كانت تشهد خصخصة، واكتملت عملية تحولها لسوقٍ رأسمالي صرف.

أحد أبرز القوانين التي سنّها عزمي بشارة في الكنيست كان “قانون التمثيل الملائم في الشركات الحكومية”، وهو قانون يُلزِم الدولة بأن تخصص في مجالس إدارة شركاتها مقاعداً للمواطنين الفلسطينيين بحسب نسبتهم في الدولة. وهو أحد الأمثلة الأبرز على تعزيز المساواة من خلال الاندماج في إدارة اقتصاد هذه الدولة، وفي كيفيّة تحوّل المطالبة بالحقوق القومية إلى مطالبة بالاندماج في الاقتصاد الإسرائيلي. أهمية هذا المثال أنه يكشف كعب أخيل الطرح “القومي الديمقراطي”، وهو أن “بناء المؤسسات الوطنية والمستقلة” لم يكن في أي يومٍ من الأيّام يهدف لإحداث القطيعة مع مؤسسات الدولة، ولم يتخذ التيار القومي أي خطواتٍ تُذْكر تدفع للانعتاق من مؤسسات إسرائيل. إنما كان “بناء المؤسسات الوطنية” عبارة عن فتح سوقٍ موازٍ لسوق الدولة الصهيونية، ومساحة وطنية أخرى ينمو فيها نفوذ النخب إضافةً للمساحة القائمة (والتي يُناضلون لتوسيعها) داخل الدولة، والتي لا يسائل شرعيتها أحد- بل العكس. فقد حاول الخطاب القومي الديمقراطي (الذي أثّر على جميع الأحزاب دون استثناء) أن يثبّت ويزيد حضور الفلسطينيين في المؤسسات الإسرائيلية. ولو عُدنا مثلاً لحالة شركة “عابر إسرائيل” التي تصادِر الأرض وتخنق الفلسطينيين، لوجدنا أن الخطاب القومي الديمقراطي لم يدفع الفلسطينيين لرفض الجلوس في إدارة الشركة، إنما طالب بتحصين مكانهم فيها. بكلمات أخرى، لو رفض راني حاج يحيى أن يشغل منصباً إدارياً في هذه الشركة الاستعمارية، لكان على الشركة أن تخلق الفلسطيني الذي يقوم بهذا الدور.

***

هذه بذور الاندماج “الوطني” في المؤسسات الإسرائيلية. وهي أنتجت إمكانية “نيل الحقوق” من خلال التقدّم في الجهاز القمعي أيضاً. وهو عملياً ليس نيلاً للحقوق إنما مشاركة في امتيازات القامع. يغيب تاريخ الإطار أو معناه الاجتماعي والسياسي، ويبقى المهم أن يكون المتقدِّم فيه يحمل “كبرياءً وانتماءً” بفلسطينيته ولها. يولِّد هذا الاعتبار قدرتنا على أن نتجاهل كل مستويات القمع التي تمارسها الصهيونية كونها حركة استعمارية تتأصل فيها مطامع رأس المال الغربي، الذي ينهش ويعربد في العالم كله. ولا يبقى لنا إلا أن نرى من الصراع مبناه العلوي فقط – العرب ضد اليهود. ويخلق عندنا القدرة أن نُحيي فلسطينياً يترأس بنكاً قومياً صهيونياً ونفخر به، ولكننا نهاجم بشراسة مظاهرات اليهود الأثيوبيين المسحوقين فعلاً، لأن هويتهم اليهودية تجعلهم “تلقائياً” جزءاً من طائفة المستعمِرين. إن الفهم الاجتماعي والمادي للصهيونية وقمعها لم “يسقط” من القاموس ولم “يغب”. لكن من قاد السياسة الفلسطينية في الداخل كان محكوماً بمصالح فئته الاجتماعية المعنية برأسمالية الاقتصاد الإسرائيلي. وهنا تكمن الإجابة على سؤال الحركات الوطنية اليوم عن سبب عزوف الناس عنها، وعن قوتها السياسية المتآكلة.

مع انفجار الانتفاضة الثانية وخروج فلسطينيي الداخل في ما يُسمى “هبّة أكتوبر 2000″، اتخذت إسرائيل تدابيراً جذرية هدفت إلى وأد احتمالات الانتفاضة المقبلة. وكانت حصة فلسطينيي الداخل من هذه السياسات هي التوجه لتوطيد علاقة هذه الفئات الاجتماعية بسوق العمل الإسرائيلي. لم يعد لدى إسرائيل شأن بمحو الهوية الثقافية، لكنّها تركّز على ربط الاستقرار الاقتصادي باستقرار النظام. وبنت منذ العام 2006 منظومة هائلة تشتغل بميزانيات هائلة لتوجيه التعليم باتجاهات محدّدة، وتشغيل الفلسطينيين في السوق الإسرائيلي بما يخدمه، وإقناعهم بأن هذا الطريق – طريق السباق والتقدم في مكان العمل – هو ما يجعل الإنسان متساوياً وكريماً، وهو توجّه جعل الحق القومي الجمعي، ومناطحة “يهودية الدولة” مسألةً ثانويّة لم تعد تُطْرق حتّى حين يتظاهر الفلسطينيون ضد “قانون القومية”.

  • ● ●

رأسماليّة 48: الحاضر

هناك خطاب باتت تتفق على خطوطه العريضة كل الأطياف الاجتماعية والسياسية المركزية، بل يُطرح كخطابٍ وطني في دوائر التنشئة الثقافية والسياسية الوطنية في الداخل، وهو يعتبر أن تسلّق سلّم المؤسسات الإسرائيلية بفضل التفوق العلمي والمهني (وليس بواسطة التذلّل أو إنكار المرء لثقافته وذاته) هو بحد ذاته “انتصار” في المعركة من أجل “المواطَنة المتساوية”.

2019-08-16

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا

برزت في السنوات الأخيرة بين فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 شخصيّة تتمتّع بتقديرٍ تُجمِع عليه الشخصيات السياسية المتناحرة، والدوائر الاجتماعية على تعدّدِها وخلافاتها. تتابعها الصحافة بإعجاب، ويتكرر ظهورها في شبكات التواصل الاجتماعي بسياقات إيجابية. ويُمكن لهذا الاجماع أن يعكس إلى حدٍ بعيد أرضية قيمية سائدة في مجتمع الداخل. اسم هذه الشخصية “حسام حايك”، وحيثما وُجد هذا الاسم رافقه الاحتفاء ولازمته المباركة، المباركة له ولشعبنا وللإنسانية جمعاء.

حصل الشاب المولود في الناصرة عام 1975 على شهادة الدكتوراه في الهندسة الكيميائية من المعهد الإسرائيلي للعلوم التطبيقية – “تخنيون”. واصل دراسات ما بعد الدكتوراه في معهد وايزمان للعلوم، ثم معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ثم عاد إلى “التخنيون” محاضراً في قسم الهندسة الكيميائية، ومديراً لمختبر الأجهزة المعتمدة على تقنية النانو. منذ سنوات، برز البروفيسور الشاب في الإعلام بعد أن نال عدة جوائز إسرائيلية ودولية، وضمّته مجلّة MIT Technology Review في العام 2008 إلى قائمة العلماء الشباب الرائدين عالمياً. الإنجاز العلمي الأبرز الذي قدّمه حايك كان تطوير جهاز “أنف اصطناعي” قادر على التشخيص المبكر لعددٍ من الأمراض، ومن ضمنها أنواع من السرطان، من خلال استنشاق وتحليل زفير الإنسان وفحصه. وبالطبع، فإن التشخيص المبكّر للأمراض هو أحد العوامل الأهم لزيادة احتمالات الشفاء.

يطور البروفيسور حايك ابتكاره، ويطوف العالم، يتحدث عن هدفه الجديد: تحويل “الأنف الاصطناعي” إلى لاصقٍ صغير الحجم، يُثبَّت على جسد الإنسان بشكلٍ دائم ويكون قادراً على تشخيص احتمالات المرض مبكّراً والإشعار بها. بهذه الكلمات يصف العالِم الشاب ابتكاره: “إنه يتتبّع إشارات فيزيولوجيّة بشكلٍ مستمر (…) فتخيّلوا أن يرافق هذا اللاصق كلّ إنسان، غني أو فقير، منذ ولادته وحتى وفاته. يرصد ويراقب صحة الإنسان لحظة بلحظة. هل يبدو ذلك حلماً؟ خيالاً علمياً؟ أعتقد أن هذا الخيال العلمي سيُصبح يوماً ما عِلماً”.

تحدّث حايك عن ابتكاره مؤخراً في حدثٍ إعلامي شغل وسائل التواصل الاجتماعي: “العالِم العربي الإسرائيلي” يقدّم خطاباً باللغة العبريّة أمام 4 آلاف إسرائيلي على منصة TEDx في تل أبيب، يعرض قصة نجاحه، ويحكي عن تقنيّته القادرة على تغيير مجال الصحة والطب. أما مغزى الخطاب وعنوانه فهو: “كيف يكون العلم حلاً من أجل تحقيق المساواة الاجتماعية”.

كيف ننتصر على العنصريّة بحسب البروفيسور؟

ما يجعل حايك مادةً تستحق التمعّن أنه، وبخلاف نماذج سابقة تنتمي للطبقة ذاتها وللتوجهات الاجتماعية السياسية ذاتها، لا يكتفي بالعمل والتقدّم الفردي، إنما يبذل جهوداً حثيثة لتعميم خطابه، ويشارك بشكلٍ فاعل في تربية أجيال من الأكاديميين وطلاب المدارس على هذه الأفكار، وذلك من خلال منصبه الجامعي في “التخنيون” الذي يشهد ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الطلاب الفلسطينيين، ومن خلال المؤسسات والجمعيات التي تحثّ على “الاندماج الاقتصادي” في مجالات التكنولوجيا والعلوم، ومن خلال ظهوره الإعلامي المتكرر. وهو ليس وحده، بل انتقلت “البرجوازية الفلسطينية الجديدة” من محاولات التقدّم في المناصب وتوسيع المصالح، إلى دور الوكالة الفاعلة لتوسيع دائرة الاندماج. فما الذي يُمكن أن نتعلمه من حايك مثلاً عن طبيعة خطاب “الاندماج” ولغته؟

خطاب الرجل ليس منافقاً للإسرائيليين، ولا متذللاً ولا مُنكراً لهويته. بالعكس، رؤيته متمسكة بالانتماء العربي الفلسطيني – كهوية ثقافية وإثنيّة شخصية. ولكن الترجمة السياسية لهذا الانتماء الثقافي تتلخّص بمطلب أن تتحول “الأقلية العربية في إسرائيل” إلى جزء يتساوى في الفرص والمنافسة على موارد ومؤسسات “الدولة” التي يحتكرها “اليهود” – أي تحدي يهودية الدولة. وانطلاقاً من هذا، فإن تسلّق سلّم المؤسسات الإسرائيلية، بفضل التفوق العلمي والمهني (وليس بواسطة التذلّل أو إنكار المرء لثقافته ولذاته) هو بحد ذاته “انتصار” في المعركة من أجل المواطنة المتساوية. هذا خطاب باتت تتفق على خطوطه العريضة كل الأطياف الاجتماعية والسياسية المركزية، بل يُطرح كخطابٍ وطني في دوائر التنشئة الثقافية والسياسية الوطنية في الداخل.

خطاب “حايك” ليس منافقاً للإسرائيليين ولا متذللاً ولا مُنكراً لهويته. بالعكس، بل هو متمسك بالانتماء العربي الفلسطيني – كهويّة ثقافية وإثنيّة شخصية. ولكن الترجمة السياسية لهذا الانتماء الثقافي تتلخّص بمطلب أن تتحوّل “الأقليّة العربية في إسرائيل” إلى جزء يتساوى في الفرص والمنافسة على موارد ومؤسسات “الدولة” التي يحتكرها “اليهود”.

يدّعي حايك في خطابه المذكور (والذي نشرته وموّلت إعلانه على فيسبوك مؤسسات إسرائيلية) أن التفوق العلمي للإنسان، والسعي العنيد نحو المزيد من التقدم في سلّم النجاح هو الإمكانية الوحيدة لتحطيم “السقف الزجاجي” و”نيل المساواة الاجتماعية”. بحسبه، فإن التفوق العلمي والمساواة مصطلحان متلازمان، يصفهما باعتبارهما “رايةً واحدةً علينا أن نقف تحتها جميعاً”. يقول الآتي: “أقول لكل طفلة وطفل يعيشون تحت أو إلى جوار السقف الزجاجي: اسعوا للتفوق لأن هذه هي الطريق التي ستوصلكم إلى المساواة”. ولكي يُبيّن البروفيسور حايك قصده، بدأ خطابه بقصة. قصة عن التمييز العنصري والتفتيش المُهين الذي كان يتعرض له طوال حياته في مطار بن غوريون الإسرائيلي كونه فلسطيني، وبسبب اسم والده المقيّد في جواز سفره: جهاد. يحكي كيف قرر في أحد الأيام أن يتحدى هذا التمييز العنصري، ويُرغِم أمن المطار على معاملته بمساواة، وكيف استخدم مكانته العلمية المرموقة ليرفض أوامر الأمن المذلة، وجَعْلهم يعرفون “من هو” وأجبرهم على معاملته باحترامٍ ومساواة.

أكتوبر 2000″: من زرع ومن حصد؟

نهاية أيلول/ سبتمبر العام 2000، ومع دخول شارون إلى باحة المسجد الأقصى، واستشهاد محمد الدرة، خرجت القرى والمدن الفلسطينية في الداخل لتتظاهر وتواجه الأمن الإسرائيلي. تحوّلت فلسطين كلها، دون استثناء، إلى ساحة معركة شعبية ضد الإسرائيليين. لم يشهد تاريخ الشعب الفلسطيني منذ النكبة هذا الشكل من الوحدة السياسية النضالية بين الداخل والضفة الغربية وقطاع غزّة. لكن إسرائيل سرعان ما قمعت المظاهرات في الداخل. قتلت 13 شاباً، وجرحت وسجنت الآلاف، ثم حاصرت القرى والمدن الفلسطينية وقطعت جميع الخدمات الحيوية عنها ما أدى إلى إخضاعها سريعاً – بسرعةٍ تتناسب طردياً مع مدى ارتباط الناس في الداخل بالسوق الإسرائيلي. لكن الأهم أن ما كان تفاعلاً طبيعياً وعضوياً وانسجاماً مع انتفاضة الشعب الفلسطيني، تحوّل بسرعة البرق إلى “أحداث أكتوبر 2000″، و”هبّة القدس والأقصى”، أي أُعطي تسميةً وتعاملاً يميزانه، ويفصلانه عن الانتفاضة كحدثٍ وطني جامع. أول ما فعله الإسرائيليون، من خلال الصحافة ومؤسسات الدولة، كان التفريق بين ما حدث في الداخل، وما استمر في الضفة الغربية وقطاع غزّة والقدس. لكنّ ما جذّر هذا الفصل (المُختلق والمفتعل) فعلياً، كان نشاط وخطاب النخب السياسية والحقوقية الناشئة في المجتمع المدني ومعها الصحافة الفلسطينية في الداخل، وقد ذهبت هذه نحو اتهام إسرائيل بقتل “مواطنيها” ولاحقاً المطالبة بالمشاركة في لجنة التحقيق الرسمية التي عيّنتها الحكومة الإسرائيلية – لجنة “أور” – التي بلورت مجريات تحقيقها ونتائجها تصوّرنا السياسي للهَبّة الشعبيّة كحدث موازي للانتفاضة، وليس كجزء عضوي فيها.

نهاية أيلول/ سبتمبر العام 2000، ومع دخول شارون إلى باحة المسجد الأقصى، واستشهاد محمد الدرة، خرجت القرى والمدن الفلسطينية في الداخل لتتظاهر وتواجه الأمن الإسرائيلي. تحوّلت فلسطين كلها إلى ساحة معركةٍ شعبية ضد الإسرائيليين. لم يشهد تاريخ الشعب الفلسطيني منذ النكبة هذا الشكل من الوحدة السياسية النضالية بين الداخل والضفة الغربية وقطاع غزّة.

نشاط النخب السياسية والحقوقية الفلسطينية، ومعها الصحافة الفلسطينية في الداخل، وخطابها اتهم إسرائيل بقتل “مواطنيها”، وطالب بالمشاركة في لجنة التحقيق الرسمية التي عيّنتها الحكومة الإسرائيلية – لجنة “أور” – التي بلورت مجريات تحقيقها ونتائجها تصوّرنا السياسي للهَبّة الشعبية كحدث موازي للانتفاضة وليس كجزء عضوي فيها.

تكمن أهمية تقرير لجنة “أور” النهائي، والذي صدر عام 2003، في أنه يحمل أولى الاعترافات الرسمية الإسرائيلية بالتمييز العنصري الإسرائيلي ضد المواطنين الفلسطينيين. ورأت اللجنة الحكومية أن أسباب انتفاض الفلسطينيين في الداخل تعود إلى التمييز الذي يعانون منه في مجالات العمل والإسكان والمعيشة وغيرها من الفجوات الاقتصادية. وأوصت اللجنة الحكومة الإسرائيلية بالعمل على سدّ هذه الفجوات كأداة لعدم تكرار “الأحداث”. وقد تبنّت الحكومة الإسرائيلية بالفعل التوصيات المتعلّقة بهذا الجانب، وبدأت تمارس إصلاحات رسمية في السنوات التالية تهدف إلى دمج الفلسطينيين في سوق العمل واحتوائهم اقتصادياً. وكانت هذه السياسات، بالمناسبة، شبيهة (في مبدئها أكثر من شكل تطبيقها) باستراتيجيّة إسرائيل في الضفة الغربية في السنوات ذاتها تحت مسمى “الإصلاح الاقتصادي” وسائر استراتيجيات وأد الانتفاضة في حقبة ما بعد عرفات.

خرج الناس إلى الشوارع عام 2000، انتفضوا وواجهوا القمع بشجاعة. خرجوا، ببساطة، لأن شارون تحدّاهم كفلسطينيين حين دخل المسجد الأقصى، ولأنهم رأوا في محمد الدرّة تكراراً لقتل أطفال كفر قاسم ويوم الأرض وقانا وشاتيلا وغزّة… والأهم، رأوا فيه صورة أولادهم وأحبّتهم. خرجوا بدافعٍ وطني عميق وحر. إلا أن هذا العمق الإنساني وقع ضحية نخب اجتماعية امتلكت قوة “صياغة الخطاب”. فئات ذات نفوذ سياسي وأكاديمي ومهني، في الصحف والجمعيات والأحزاب. هكذا تم تسطيح التضحيات وإرجاعها للبعد المطلبي “المدني” الضيق الذي لم تستفد منه إلا فئات زادت نفوذها المادي، وبات ذلك مدخلها للسباق في السوق الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته مدخل إسرائيل لسياسات الاحتواء و”الدمج”.

أذرع “أور” الضاربة

صرفت الحكومة الإسرائيلية ميزانيات طائلة لدمج الفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلي. أسست في العام 2007 “سلطة التطوير الاقتصادي للوسط العربي والدرزي والشركسي” التابعة لمكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، ومن وظيفتها تطوير المبادرات والاستثمارات في “وسط الأقليات”، ودمج السلطات المحلية العربية في “المناطق الصناعية الإقليمية” وتشجيع المصانع العربية على التعامل مع الحكومة الإسرائيلية وتزويدها بالخدمات والسلع، وغيرها. وتأسست في العام ذاته “سلطة تطوير البدو في النقب”، والتي، علاوةً على أنّها تقوم على فكرة فصل فلسطينيي النقب عن سائر الفلسطينيين في الداخل، كانت ولا تزال الذراع المركزي في هدم قرى النقب من أجل فرض “التمدين القسري” من خلال تطوير “الفرص الاقتصادية” في “المدن” التي تبنيها الحكومة لتهجّر إليها أهالي القرى غير المعترف بها.

ركز التحقيق الإسرائيلي على التمييز ضد الفلسطينيين في مجالات العمل والإسكان والمعيشة، وأوصى الحكومة بالعمل على سدّ هذه الفجوات كأداة لعدم تكرار “الأحداث”. تبنّت الحكومة الإسرائيلية التوصيات المتعلقة بهذا الجانب، وبدأت تمارس إصلاحات تهدف إلى دمج الفلسطينيين في سوق العمل واحتوائهم اقتصادياً.

وعلى إثر هذه التحولات أُنشِئت عدة جمعيات ومؤسسات تدور في فلك “تطوير العرب”، وبميزانيات هائلة، وبذلت جهوداً حثيثة في ما يُسمّى “التوجيه الأكاديمي” الذي يُرشد طلاب المدارس قُبيل دخولهم إلى الجامعات، ويوجههم لدراسة المواضيع التي “تلائمهم”، ومن ثم تعمل على دمجهم في سوق العمل. عزّزت هذه المؤسسات وكرّست توجه الطلاب نحو المواضيع التقنية والعلوم الدقيقة وعلوم الطبيعة، وهي “مواضيع لا تترك وقتاً للانشغال بالقومجية”. وهذه الجملة الأخيرة، هي جملة من وثيقة “كينغ” التي كُشفت في العام 1976، وهي وثيقة هدفت إلى إرشاد تعامل الحكومة الإسرائيلية مع فلسطينيي الداخل بعد يوم الأرض. وقد رأت وثيقة كينغ ضرورةً في إبعاد الفلسطينيين عن دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما شجّعتهم على التعلّم خارج البلاد. وقد تضخّم فعلاً عدد الطلاب المتوجهين للدراسة الجامعية في الأردن وفي شرق أوروبا.

تأسست مراكز ومؤسسات توجيه الطلاب، وأبرزها مثلاً مركز “تسوفن” (ومعناها إشارة أو توجيه)، الذي يُعنى بدمج الطلاب العرب في سوق التكنولوجيا الإسرائيلي، و”كاف مشفيه” (“خط المساواة”) الذي يعمل على دمج الأكاديميين العرب في سوق العمل. وكذلك تأسست في الفترة ذاتها مشاريع “تكافؤ الفرص” في الجامعات الإسرائيلية، وهي مشاريع تابعة لعمادة الجامعة، تنظِم النشاطات المهنية والتعليمية والترفيهية للطلاب العرب. وفي الفترة ذاتها، بدأت أيضاً وزارة الخارجية الأمريكية بتخصيص برنامج منح تعليمية للطلاب العرب للدراسة في الولايات المتحدة، وغير ذلك الكثير…

بعد العام 2000 بات ابتعاد الطلاب الفلسطينيين عن العمل السياسي أكثر ارتباطاً بتناقض مزعوم بين العمل السياسي والتفوق الأكاديمي، وهذا شكل من أشكالٍ كثيرة تحوّل فيها التقدم المهني والأكاديمي إلى نقيض للعمل السياسي. وهكذا كانت الأحزاب السياسية “الضحية” الأولى لخطاب المساواة الذي طرحته هي بنفسها.

تسهّلت المهمة الإسرائيلية أولاً لأنها تماشت مع المطالب السياسية الفلسطينية التي تنادي “بالمساواة”. ولكن الأهم أنها انسجمت مع تحولات اقتصادية وتكنولوجية عالمية خضعت لها المجتمعات ورغبت بها بشكلٍ طبيعي. تفشّت في الجامعات الإسرائيلية ثقافة تعليم “تايلورية” (أي تسعى الى التنظيم “العلمي” للعمل وتعتمد معيار أفضل “فعالية” ممكنة). ورأى الطلاب الفلسطينيون في الجامعة وسيلة لتحصيل مهارات تقنية تمكنهم من دخول سوق العمل، وكان هذا التوجه الأداتي للجامعة ممكناً بسهولة بسبب غربة الطالب الفلسطيني أصلاً في الأكاديمية الإسرائيلية، وعدم قدرته على أن يكون جزءاً من جماعة بحثية تُنتج معرفة. ضربت هذه التحولات أحد أهم أركان الحركة الوطنية الفلسطينية، أي الحركة الطلابية في الجامعات التي لعبت قبل ذلك دوراً سياسياً وتثقيفياً هاماً. وباتت صور العمل الطلابي توصف اجتماعياً كإعاقة للتقدم والتعليم، ورُسمت صورة الطالب الجامعي المسيّس على أنه ذلك الذي يبقى في الجامعة سنوات طويلة، ويفشل في تحصيل شهادة جامعية. ويمكن الانتباه، مثلاً، إلى أن ابتعاد الطلبة عن الحركات السياسية في السبعينيات أو الثمانينيات مثلاً، كان بسبب خوف الطلاب من ملاحقة المخابرات، أو من “النقطة السوداء” (أي أن تضعك المخابرات على لوائحها السوداء وتمنعك من مواصلة تعليمك)، لكن لغة هذا الابتعاد بعد العام 2000 باتت أكثر ارتباطاً بتناقض مزعوم بين العمل السياسي والتفوق الأكاديمي. وهذا شكل من أشكالٍ كثيرة تحوّل فيها التقدم المهني والأكاديمي إلى نقيض للعمل السياسي. وهكذا كانت الأحزاب السياسية “الضحية” الأولى لخطاب المساواة الذي طرحته هي بنفسها.

أين تتجسّد البرجوازية الجديدة في هذا العقد؟

هناك ما تغيّر في تجسّد البرجوازية الجديدة: فقد برزت هذه الشريحة في التسعينيات الفائتة والعقد الأول من الألفية الثالثة، من خلال التعبير السياسي والثقافي بالأساس، أي من خلال قيادة الأحزاب وبنائها، كما بتأسيس الجمعيات الأهلية والمؤسسات الثقافية والصحافية. لكن التغييرات التي قادتها إسرائيل بعد الانتفاضة الثانية فتحت وسهلت إمكانية توسع هذه الشريحة من خلال السوق الإسرائيلي، وتراجع بالتالي “التعبير السياسي عن الذات” بعد أن استنفذ دوره.

باتت “البرجوازية الفلسطينية الجديدة” تتجسد وتُنتِج وتتوسع من خلال مجالات بعيدة كل البعد عن أطر العمل السياسي والاجتماعي الفلسطينية، ما أدى إلى تراجع تاريخي في فعالية وشعبية هذه الأحزاب، وإلى تصاعد قوة رؤساء المجالس المحلية، المنتخبين على أسس حمائلية غالباً، كمسؤولين مباشرين عن “التطوير الاقتصادي” للقرى والمدن الفلسطينية، وهم ممن تربطهم علاقات مباشرة مع الوزراء الإسرائيليين.

تمركز ثقل هذه الشريحة في القطاع الإسرائيلي الخاص والعام. وبرز وجودها بالأساس في المجالات العلمية والتكنولوجية ومجال الصحة. فتذكر الإحصائيات الإسرائيلية ارتفاع عدد المهندسين والمبرمجين الفلسطينيين في شركات التكنولوجيا الإسرائيلية من 350 (1 في المئة) عام 2008، إلى 5000 مهندساً (4 في المئة) في العام 2018. كذلك في مجالات الصحة حيث ارتفع عدد الأطباء الفلسطينيين من 9.6 في المئة عام 2008 إلى 15 في المئة عام 2015، وذلك من مجمل الأطباء في جهاز الصحة الإسرائيلي. وتذكر الإحصائيات ذاتها أن هذا الارتفاع لم يكن متساوياً بين الفلسطينيين جميعهم، إنما تحقق بالأساس لدى الشرائح الاجتماعية “الأقوى” – الفلسطينيين المسيحيين، والفلسطينيين المسلمين في حيفا والشمال – كما ظلّت الأغلبية الساحقة من الأطباء الفلسطينيين من الذكور. أما في مجال الصيدلة فإن أكثر من 40 في المئة من الصيادلة في إسرائيل فلسطينيون (2017). تذكر الإحصائيات الإسرائيلية كذلك ارتفاعاً في نسب الطلاب الفلسطينيين في مجالات الحسابات والاقتصاد وإدارة الأعمال: بين عامي 2013 و2016 ارتفعت نسبة الطلاب الفلسطينيين من 19 إلى 27 في المئة من طلبة الحسابات في إسرائيل، من 6 إلى 13 في المئة من طلبة إدارة الأعمال.

باتت “البرجوازية الفلسطينية الجديدة” تتجسد وتُنتِج وتتوسع من خلال مجالات بعيدة عن أطر العمل السياسي والاجتماعي الفلسطينية، فقد تمركز ثقل هذه الشريحة في القطاع الإسرائيلي الخاص والعام، وبالأساس في المجالات العلمية والتكنولوجية ومجال الصحة.

كذلك ظهر بين 2010 و2015، ارتفاع بنسبة 3 في المئة للموظفين الفلسطينيين في الوزارات الإسرائيلية. وكانت أبرزها وزارة القضاء، على الرغم من أن من تولّت هذه الوزارة في السنوات الخمس الأخيرة كانت آيليت شاكيد – وهي قيادية في أكثر الأحزاب الصهيونية تطرفاً. خلال السنوات الستّ التي شهدت هجمة قانونية غير مسبوقة على الفلسطينيين (من قوانين “مكافحة الإرهاب” وصولاً إلى “قانون القومية”)، تضاعف عدد الموظفين الفلسطينيين في وزارة القضاء، بل وتولت وزارة القضاء مسؤولية رفع نسبة الفلسطينيين في جميع المؤسسات الحكومية. من 242 موظف في وزارة القضاء عام 2012 ارتفع العدد إلى 502 موظف عام 2018. في العام 2004 وُظّف محاميان فلسطينيان فقط في النيابة الإسرائيلية العامة، لكن العدد ارتفع حتى العام 2016 إلى ما يزيد عن 50 محامياً فلسطينياً يمثّلون النيابة الإسرائيلية.

كيف تعاملت القوى الوطنية مع الواقع الجديد؟

لم تتوقف أي من القوى السياسية في الداخل لتبحث بشكلٍ جدي في هذه التغييرات، ولا في أثرها على الوعي السياسي للناس، ولم تتخذ بالطبع مواقفاً من استراتيجية الحكومة الاسرائيلية هذه. بل شارك العديد من النشطاء والقيادات الحزبية والجمعيات والنخب بشكلٍ فاعل في مشاريع ومبادرات تخدم سياسات “الدمج”. كان مطلب العدالة – ولا يزال – محكوماً بإطارٍ فكري رأسمالي، فلا تُصاغ مطالب “المساواة” إلا باعتبارها “مساواة في تكافؤ فرص الربح” في السوق الإسرائيلي. هنا، تسقط القراءة الاجتماعية. فحين تتجذر رؤية تبحث عن “مصالح الأقلية القومية” كمصلحة مجموعة إثنية داخل الدولة القائمة، تسقط الرؤية التحررية الشاملة في معادتها للصهيونية كحركة استعمارٍ استيطاني.

في خطابه، يستخدم حايك مرةً تلو الأخرى الكلمة العبرية “متسويانوت”، ويقصد بها التفوق العلمي أو التفوق المهني. وللمفارقة فإن هذه الكلمة لو حاولنا ترجمتها إلى العربية، لكشفت اللغة على الفور التناقض الجذري في الادعاء بأن “المتسويانوت” هي الطريق إلى المساواة. لأن الترجمة العربية الأدق للكلمة هي “امتياز”: مفردة تحمل ثقلاً سياسياً جوهرياً لفهم العنصرية وانعدام المساواة. أما الترجمة الأخرى فهي “التفوق”، وهي كذلك ليست عبارةً من معجم المساواة.

يفشل البروفيسور، كما تفشل النخب الفلسطينية عموماً، ويفشل أصحاب النفوذ في كل مكان، في فهم الفكرة البسيطة التي يُمْكن لأي طفلٍ في المدرسة أن يفهمها: معنى المساواة أن تكون الحياة الكريمة والحرية مكفولة لكل الناس بغض النظر عن قدراتهم أو طموحاتهم أو رغباتهم. ومعنى ذلك أن العدالة لا علاقة لها بالتحصيل، وأن قيمة الإنسان لا علاقة لها بما يكسبه من مالٍ أو مكانةٍ أو نفوذ. إنهم، ببساطة، لا يفهمون (أو لا يريدون الفهم) بأن معنى التمييز هو أن يتلقّى إنسان معاملة أفضل من غيره لأنه يحظى بمنصب باحثٍ مرموق، أو ممثل مشهور، أو رئيس حكومة. أن التفوق العلمي، كما يصفه حايك، وتصفه النخب الجديدة وتصفه إسرائيل، ليس طريقاً للمساواة، إنما هو طريق الإنسان ليقفز من دائرة المظلومين إلى دائرة الظالمين، من دائرة المميَّز ضدهم، إلى دائرة الممَّيز لصالحهم. وهذا يعكس إلى حدٍ بعيد الطموحات الحقيقية للفئات الفلسطينية التي راكمت وتراكم ثروتها أو نفوذها من خلال تلك الاستراتيجية الاسرائيلية الجديدة .

الرأسماليّة “بأبهى” أشكالها

إن الرؤية الرأسمالية التي تقع في صلب هذا الخطاب تحوِّل التقدم والمنافسة إلى هاجس مركزي لدى الإنسان، إذ تُصبح لقمة عيشه وحريته وكرامته مرتبطة بهما. تحقيق التقدم يتحوّل قيمةً عليا. فلسطينياً، يجري تصوير العنصرية الصهيونية على أنها تحاول إبقاء الإنسان الفلسطيني في الحضيض، وبالتالي يُصبح إنجاز الإنسان الفلسطيني علمياً أو مهنياً هدفاً قائماً بحد ذاته، ويصبح قصة انتصار “رغم الظروف”. و”رغم الظروف” هذه معناها بوجود الظروف ودون تغييرها. ومع تحوّل هذا إلى قيمة عليا، يُصبح هاجس الإنسان كيفية “الوصول”، ولا يعود “المنصب” ومعناه وأثره سؤالاً مطروحاً. تُصبح إسرائيل ككل، بمؤسساتها، جزءاً من السوق المعولم، من رأسمالية كونية تقنعنا بأنها طبيعة مطلقة غير قابلة للتغيير. لقد بات المجتمع الفلسطيني يقدّس التقدم – التقدم الأكاديمي والمهني والتجاري والثقافي. وبات هذا المعيار غالباً على كل شيء: على القيم الأخلاقية، وعلى القيم الإنسانية البسيطة التي بتنا بتجاهلها نتجاهل الأهوال التي تُرتكب بحق الناس، بحق الفلسطينيين الفقراء أولاً، وبحق الفلسطينيين عموماً، وبحق الشعوب التي تشارك إسرائيل في قمعها حول العالم.

كان مطلب العدالة – ولا يزال – محكوماً بإطارٍ فكري رأسمالي، فلا تُصاغ مطالب “المساواة” إلا باعتبارها “مساواة في تكافؤ فرص الربح” في السوق الإسرائيلي، وتسقط القراءة الاجتماعية، وتسقط معها الرؤية التحررية الشاملة.

لكن الأمر لا يتوقّف هنا، إنما تنجر هذه “الطبقة البرجوازية الجديدة” إلى خطابٍ خطير من نوعه يأتلف تماماً مع خطاب المؤسسة الإسرائيلية، ويقول الآتي: إن كان حسام حايك قادراً بتفوقه أن يحصّل مساواة اجتماعية مع أنه فلسطيني، فإن كل إنسان فلسطيني قادر على التفوق وتحصيل المساواة. وإذا لم يحصّل الفلسطيني المساواة، فيبدو أنه لم يبذل ما يكفي من الجهد. إن الإنسان الفلسطيني الذي لم “يشدّ حاله” (كما يقول البروفيسور) من المنطقي ألا يجد فرصة عمل، أو مسكن، وأن يُهان في المطار أو يُهدم بيته، ويكون “ذنبه على جنبه”. هذه بداية تحميل الضحية مسؤولية الجريمة المرتكبة بحقها. وهي شأن موجود حيثما وُجد الظلم ووُجدت علاقات القوة: حيث الرجل الأبيض يحمّل الأمريكيين السود مسؤولية الفقر الذي يعيشونه وينعتهم بالكسل، وحيث الرجل يبرر اغتصاب امرأة بما كانت تلبسه، والإسرائيلي يبرّر هدم البيوت “بتخلف” البدوي الذي يرفض “التمدين” الخ… وهكذا، ومع الوقت، يتحول المجتمع إلى تحميل ذاته مسؤولية الجريمة المرتبكة في حقّه، بل وإلى الاعتقاد بوجود صفات جوهرية فيه تجعله دونياً.

إن ما يجعل هذا الخطاب (وغيره من الخطابات السياسية الكثيرة التي نواجهها في العالم كله) خطاباً مجحفاً وقمعياً هو أنّه لا يُبقي مكاناً وحقاً للضعفاء ولا يراهم. لا مكان فيه لمن هو غير قادر، لمن لا يريد أن يكون متفوقاً، ولا ممتازاً، ولا سوبرمان. هذا نوع من الرؤى التنافسية الرأسمالية التي تحتقر الاكتفاء وتدوس البساطة. وهي جوهرية في الثقافة المنتصِرة في العالم كله. هذا ألف باء الوحشية التي لا تتوقف هنا البتة، إنما تنسحب بسرعةٍ هائلة على من لا يجد العمل، ومن لا يوفّر لمخصصات الشيخوخة، ومن لا يستطيع دفع التأمين الطبي، ومن لا يستطيع تسديد إيجار المنزل في المدن التي يمتص الأثرياء مراكزها، ويطردون الفقراء منها.

.. هذه آفة كونية، وهي موجودة في فلسطين، وتتخذ طابعاً قومياً يُترجم الهيمنة الاستعمارية والرأسمالية إلى مبنى علوي يتقنّع بـ”القومية اليهودية” على حساب سرقة أراضي الفلسطينيين. وعلينا أن ندرك أن النظام الصهيوني بات اليوم في مرحلة يُقنع فيها فئات من الفلسطينيين بأنهم قادرون على المشاركة في إدارة السرقة والجريمة والاستفادة منها، إذا ما تجاهلوا أنها سرقة، وإذا ما أقنعوا العالم أن إسرائيل ليست مجرمة ولا سارقة. وبهذا نصل إلى ختام قصة البروفيسور.

عودةٌ إلى المطار

ما الذي حدث مع البروفيسور ذلك اليوم في المطار؟ كيف نجحت مكانته العلمية المرموقة في أن تنقذه من أنياب الإهانة والتفتيش المُذِل؟ كيف تحقّقت “المساواة”؟ نستودعكم مع القصة كما يرويها البروفيسور حسام حايك: “في أحد الأيام وصلتُ إلى المطار لأسافر إلى إنجلترا. وتزامن ذلك مع تصاعد التهديدات بمقاطعة الأكاديمية البريطانية لإسرائيل. وأنا فكّرتُ في حينه بأنّي أستطيع في هذه الأوقات الصعبة أن أكون سفير العلم والعلماء في البلاد”. بعد أن طلب منه أمن المطار أن يقف جانباً ليخضع لتفتيش دقيق، رفض حايك قائلاً: “إذا لم أتلقّ تفتيشاً متساوياً هذه المرة، فأنا من لا يريد الصعود إلى الطائرة ولا أريد السفر. ولكن هذه المرة، صدّقوني، لستُ أنا الخاسر، وليذهب شخص آخر يمثّل الدولة ضد حركة المقاطعة!”. تنتهي القصة بانتصار البروفيسور، ودخوله المطار دون تفتيش مُهين. ثم يحكي مفخرة شعبنا كيف مرّت سنوات قليلة، ثم في المطار ذاته الذي أُهين فيه، عُلِّقت صورته ضمن معرضٍ يستقبل زائري إسرائيل الوافدين.

صورته ضمن أبرز “علماء الدولة”… على بعد أمتار قليلة من الشعار الضخم الذي يطغى على جدران المطار: “الصهيونية هي المثالية اللانهائية”!

:::::

المصدر: “السفير العربي”

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.