على هامش قمة مجموعة السّبْع في فرنسا: وجوب الإنتقال من توصيف الوضع إلى صياغة البدائل، الطاهر المعز
تعزيز الإيديولوجيات الإستعمارية والعُنصرية:
إن مقولة “الإنتصار النّهائي للحضارة الغربية” المُعادية تمامًا لكل ما يُصنّف “شرقي” (من الصين إلى غرب إفريقيا)، تعنى، في نَظَر أصحابها والمُبَشِّرِين بها انتصار الإمبرياليات الغربية العنصرية على العالم، كما تَعْني تَبَنِّي كل الموروث الهمجي والعنيف لما يُصنّف “حضارة غربية” منذ الإمبراطورية الرومانية ومعاداتها لقرطاج، والحُروب التجارية التي خاضتها روما، ثم امبرطوريات وكيانات أوروبا التي مارست الغزو، باسم الدّين (كما الحُرُوب التي أطلقوا عليها صفة “الصّليبية”) وأشهرت هذه الكياناتُ العُنصُرِيّةَ وارتكبت المجازر والإبادات الجماعية لشعوب إفريقيا وآسيا والسكان الأصليين لأمريكي، خصوصًا منذ 1492، ولا تزال العنصرية سائدة، رغم رفع دول أوروبا وأمريكا الشمالية شعارات “حقوق الإنسان” و”الديمقراطية” و”الحُرِّيّة”، أو نَشْر “الحَضارة” و”التّمدّن”، بل تفاقمت العُنصرية، وريثة الإيديولوجيات الأوروبية، مثل النازية والفاشية، خلال العُقود الأخيرة، وهي انعكاس للهيمنة الطبقية، وتتجلى في تقسيم الفُقراء إلى بيض ضد السود والمُلَوّنين، ومَحلِّيِّين ضد المُهاجرين، والمسيحيين ضد المُسلمين، وغير ذلك من مظاهر العنصرية التي تتجلّى بشكل واضح في مؤسسات وأجهزة إعلام، وأجهزة دُوَل أوروبا وأمريكا واليابان وأستراليا، وحتى الهند، وأصبحت الأحزاب السياسية والزعماء والمترشحين للإنتخابات، يتبنّون العُنصرية ويُجاهرون بالعداء لأغلبية شعوب العالم، واتّسع نُفوذ هذه الأحزاب وعقيدتها العنصرية (وهي واجهة للعداء الطّبَقِي للفُقراء وللعمال) في كافة أرجاء أوروبا، وفي الولايات المتحدة، مما يعني إنها تمكنت من التّغلغُل في أوساط الجماهير، بفضل الإعلام والأجهزة الرسمية، والمؤسسات التي تُشرِّعُ الحروب في الخارج، وتَسُن القوانين المُعادية للفُقراء المحليين والمُهاجرين، وغير ذلك من مظاهر العداء لشعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، كما للفُقراء في داخل كل بلد، واقترنت هذه “الإنعطافة” نحو اليمين المتطرف، للمجتمعات “الغربية” بارتفاع منسوب العُنف، سواء عنف الشرطة وأجهزة الأمن ضد المواطنين المتظاهرين والمُحتجّين سِلْمِيًّا، أو الإعتداءات والإغتيالات ضد المهاجرين وضد النّساء وضد بعض المباني والمتاجر، لأسباب عُنْصُرِية…
ظروف انعقاد قِمّة آب/أغسطس 2019:
تنعقد القمة الخامسة والأربعون لمجموعة السبع، أو أكبر سبع دول صناعية، بعد إقْصاء روسيا (الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان) هذا العام 2019، في منتج “بياريتز” الفرنسي، بمشاركة وَرَثَة إيديولوجيات الهيمنة والعُنصرية، والهمجية المُدَجّجة بالسّلاح، ورغم الخلافات الثانوية بين هذه الدول الإمبريالية، بشأن التجارة والتنافس حول مناطق النفوذ، فإنها تُشارك جميعًا في الحروب العدوانية، ضمن حلف شمال الأطلسي، أو وراء الولايات المتحدة، أما الخلافات فتخص الرّسوم التجارية (التي أضَرّت كثيرًا بالشركات الأوروبية)، والمناخ، وكيفية التّعامل مع الصين أو إيران، وهي خلافات لا تتجاوز الشّكليات، من وجهة نظر الشعوب الواقعة تحت هيمنة هذه المجموعة، مُجتمعة أو كدول مُنْفَرِدَة، لتبْقَى الولايات المتحدة تَقُود هذه المجموعة، إيديولوجيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، رغم عجز دول المجموعة عن إصدار بيان ختامي، بسبب الحروب التجارية التي يرى القادة الأوروبيون إنها تؤدي إلى انكماش الإقتصاد العالمي، فيما لا يولي الرئيس الأمريكي أهمية لمصالح الدّول الأخرى، أكانت حليفة أو منافسة أو من “الخُصُوم”، وكان ردّ الإتحاد الأوروبي مائعًا، ولم يتجاوز التصريحات من قَبِيل: “إذا فرضت الولايات المتحدة رسوماً، فسيردّ الاتحاد الأوروبي بالمثل”، ولكن لم يفلح أحد في الضغط على دونالد ترامب (قائد العالم وزعيم الدّول الرأسمالية) ليَتراجَعَ عن الحرب التجارية، مع الصين، ومع كل العالم…
نَظْرَة “عَرَبِيّة” على مثل هذه القِمَم الإمبريالية:
رغم مُرُور قُرُون على الحروب “الصّليبيّة”، وعلى احتلال أمريكا الجنوبية والفلبين وإفريقيا وغيرها، لايزال الرؤساء الأمريكيون، الذي يرأسون أعظم دولة رأسمالية إمبريالية، يستخدمون “الله” و”التوراة”، والدّين، في حُروبهم العقائدية والعسكرية والإقتصادية، وبعد تلاعب “رونالد ريغن” بالدّين، أعلن جورج بوش الإبن أن الله أمرهُ شخصيّا باحتلال أفغانستان والعراق، وأعلن دونالد ترامب “كان على الرؤساء الأمريكيين السابقين خوض الحرب التجارية، منذ زمن طويل، لأنها تخدم مصالح الإقتصاد والشركات الأمريكييْن، ولكن الله اختارني لتنفيذ هذه المُهِمّة…”، في إشارة إلى عبارات وردت في التّوراة، وفي علاقة بقضايانا كعرب وفلسطينيين، ومُضْطَهَدِين، نلاحظ تزامُنَ هذه التصريح مع ما أورده أحد الصحافيين الإذاعيّين الأمريكيين، المشهورين بولائهم لدونالد ترامب، وملخّصُه: “إنّ الرئيس دونالد ترامب أكثر رئيس في التاريخ البشري، مُناصَرَةً بالنسبة لإسرائيل…”، وأضاف أن الصهاينة المُستوطنين في فلسطين “يعشقونه كما لو كان ملك إسرائيل”…
بَرز التّجانُسُ العقائدي بين الصهيونية والإستعمار والإمبريالية، منذ بدايات الحركة الصهيونية، في العقْدَيْن الأخيرَيْن من القرن التاسع عشر، وظهر تجانس الحركة الصهيونية مع الولايات المتحدة والمُستعمرات الإستيطانية الأخرى (كندا وأستراليا ونيوزيلاندا…) في مُمارسة الإستيطان، وخاصة خلال عُدوان 1947 – 1949، بدعم من الإستعمار البريطاني، ثم الإمبريالية الفرنسية والأمريكية، في تدمير القُرى والأحياء الفلسطينية وتهجير السكّان الأصليين من السواحل، ثم من باقي المناطق، إلى خارج فلسطين، عند ظهور صعوبة أو استحالة إبادتهم من خلال حوالي 250 مجزرة وقعت وتمّ توثيقُها… لذلك نُؤَكّدُ إن الصهيونية رَبِيبَة أو ابنة الإمبريالية والإستعمار، وأظهرت السياسة الأمريكية الحالية انحيازَها الكامل، لأكثر التيارات الصهيونية رجعيةً، عبر إنكار حُقُوق الشعب الفلسطيني في أرضه وَوَطَنِهِ، وإنكار حُقُوق اللاجئيين الفلسطينيِّين، وعبر النشاط الأمريكي المحموم (بدعم من الأُسَر المالكة لمشْيَخات الخليج، وصمْت بقية الأنظمة العربية)، لتصفية القضية الفلسطينية، ونقل السفارة الأمريكية إلى القُدس، وإلغاء مساهمة الولايات المتحدة في ميزانية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أنروا)، ضمن خطة أمريكية واسعة تتجاوز القضية الفلسطينية، وظهرت تجميد إنفاق وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية، في تقديم الإدارة الأمريكية خططًا لخفض حجم وقيمة “المساعدات” الخارجية، بنحو 4,3 مليارات دولار، بذريعة “الهَدْرِ وإساءَةِ استخدامِ المُساعداتِ الخارجية الأمريكية”، واعترَضَ أعضاءُ “الكونغرس” الأمريكي على هذه الخطةِ، لأن “المُساعدات” الخارجية هي دَعْمٌ مُباشر للشركات الصناعية والغذائية الأمريكية، ولكن أعضاء الكونغرس تَذَرّعُوا بما اعتبروه “محاولةً للالتفاف على السلطة التّشْريعية”، التي يُفْتَرَضُ أن تُراقب الإنفاقَ الحكوميَّ، ولكن خَفْض الإنفاق الحكومي، واعتراض أعضاء الكونغرس، لا يَشْمَلان بأي حال من الأحوال دَعم الكيان الصهيوني، ومن بينها مبلغ بقيمة 3,8 مليارات دولارا سنويا من الدّعم العسكري المَجانِي، حتى سنة 2027، بالإضافة إلى حوالي أربعة مليارات دولارا سنويًّا من المِنَح والتّبرعات التي تجمعها المُنظمات الصهيونية، لصالح مشاريع صهيونية استيطانية وعسكرية في فلسطين المحتلّة… ولا تَصل قيمة “المساعدات” الخارجية الأمريكية نسبةَ 2% من الميزانية الاتحادية، وتَعتَبِرُ إحدى وثائق الكونغرس الأمريكي “إن تمويل برامج دعم التعليم والصحة ومكافحة الفقر، بمثابَةِ استثماراتٍ تستهدف تَوْفِيرَ الأمن للولايات المتحدة، على المدى البعيد…”…
بعض نقاط ضُعْف الإمبريالية الأمريكية، رأس حِرْبَة الإمبريالية:
رغم التّصريحات والتّأكيدات التي أوردْناها في بداية هذه الوَرَقَة، بشأن “نهاية التّاريخ” والإنتصار النهائي” المزعوم للرأسمالية والإمبريالية، أَصَاب الإمبريالية الأمريكية (ومعها الإمبريالية العالمية) بعض الوَهَن، وتبدو مظاهرهُ جلِيّةً، لكت تأثيراته غير ظاهرة للعيان، وقَدْ يتطلب إضْعاف الولايات المتحدة عملاً مُقوِمًا دؤُوبًا لقَضْمِ هيمَنَتِها العسكرية والمالِيّة والإعلامية…
تُظْهِر وثائق الكونغرس الأمريكي، وصندوق النّقد الدّولي، تَوَقُّعات بارتفاع العجز في ميزانية الولايات المتحدة، إلى نحو 960 مليار دولارا، خلال السنة المالية 2018/2019، وإلى نحو تريليون دولار، في السنة المالية 2019/2020، مع احتمال تأثيرات سَلْبِية أخرى بسبب الحرب التجارية مع الصين، مع بقية دُوَل العالم، وتمويل الإنفاق على إجراءات أخرى، مثل إنْشاء السور على حُدُودِ المكسيك، وكانت المُفاوضات، بين إدارة الرئيس “ترامب” والكونغرس، قد أَسْفَرت عن اتفاق لزيادة عجز الميزانية بنحو 1,7 تريليون دولارا، خلال السنوات العشر المقبلة، بسبب الخفْض الكبير في ضرائب الشركات (منذ 2017)، مما يُخَفِّضُ إيرادات الحكومة الإتحادية، ويرفع قيمة العجز، رغم خفض الإنفاق في المجالات غير المُتعلّقة ب”الأمن” الداخلي والخارجي، ويتوقّعُ مكتب الموازنة في الكونغرس أن يرتفع العجز الفدرالي بقيمة تتراوح بين ثمانة مائة مليار دولارا وتريليون دولارًا خلال السنوات العشر المُقبلة، وأن يصل الدَّيْن القومي العمومي إلى “مُسْتوياتٍ غيرِ مسبوقةٍ منذُ نهايَةِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ”، فيما يتوقّعُ خبراء صندوق النقد الدولي، أن لا تؤدّي الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية، مثل فرض رسوم جمركية على السلع والخدمات الصينية، وإضعاف سعر صرف الدولار، من خلال خفض معدلات الفائدة، وغيرِها، إلى “تصحيح العجز التجاري” الأمريكي، أي إن الرئيس دونالد ترامب، مُخْطِئُ في مطالبة الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) بالإستمرار في خفض أسعار الفائدة لإضعاف سعر الدولار وتحفيز الاقتصاد، مع فرض الرسوم الجمركية على الصين، في نفس الوقت، ويرى خُبراء صندوق النقد الدّولي إن ذلك لا يُخَفِّضُ العجز التّجاري الأمريكي، بل قد تكون النتائج عكسية، وقد تُؤَدِّي إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي، وهو ما يَحصُل حاليًّا، بسبب تحويل الصين تدريجيًّا، تحويل التجارة إلى بلدان أخرى، وفق صندوق النّقد الدّولي، بالتّوازي مع الضّرَر الذي قد تُحدثُه الحرب التجارية، من إضعاف النمو المحلي والعالمي، وانخفاض الاستثمارات، واضطراب سلاسل الإمدادات العالمية، وارتفاع تكاليف المنتجات للمستهلكين، وقد يكون مُساعدو ترامب على دِراية بمجمل هذه المَخاطر، لكنهم يستهدفون تحقيق نتائج قصيرة الأمد، لا يتجاوز مدها 12 عشر شهرًا، لعلّها تُساعد الرئيس على تحقيق نتائج انتخابية إيجابية، في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، وسبق أن أشار تقرير لصندوق النقد الدّولي (بنهاية شهر تموز/يوليو 2019) إلى ظُهُور مُؤشرات على “تباطؤ النمو العالمي، وظهور مؤشرات على احتمال حدوث انكماش في الاقتصاد الأميركي”، لتبرير خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي، سنتيْ 2019 و 2020، وأشارت صحيفة “واشنطن بوست” (نقلاً عن بعض الإقتصادِيِّين الذي اسْتشَارَتْهُم) إلى “المخاوف من احتمال وقوع الإقتصاد الأمريكي في حالة رُكُود”…
هذه بعض نقاط الضّعْف، ووجب تعميقها وتكثيفها وزيادة عددها بالمُقاومة المُستمرة، وتوسيع رقعة جبهة مقاومة الإمبريالية، من داخلها ومن خارجها، عقائديًّا وثقافيّاً وسياسيّا واقتصاديًّا…
خاتمة:
كثيرًا ما أشرنا، سواء في نشرة الإقتصاد السّياسي أو في العديد من المقالات الأخرى، إلى حصر دور هذه المقالات في توْصِيف الوضع، لكن العمل على استغلال هذه المُعْطَيات والبيانات (المُوَثَّقَة) لإضعاف ومُحاربة الإمبريالية، بهدف إرساء نظام بديل، يخْدِمُ مصالح العُمال والأُجَراء والمُنْتِجِين والفُقراء، مَنُوط بعهْدَة الاحْزاب والتَّنْظيمات السياسية التي تهدف تغيير النظام الرأسمالي، على الصعيد المَحَلِّي، في كل بلد، وعلى الصّعيد العالَمي، بنظام “عادل” (اطلقوا عليه ما شئتم وشئتُنَّ من الأوصاف)، وتحرير الأرض والإنسان في فلسطين وأفغانستان وفي إفريقيا وأمريكا الجنوبية وغيرها…
وردت معظم المعلومات في مواقع “صندوق النقد الدّولي“، والموقع الإعلامي للكونغرس الأمريكي، ومواقع صحيفتَيْ “نيويورك تايمز” و“واشنطن بوست” الأمريكيّتَيْن + برقيات وتحاليل وكالات أ.ف.ب + رويترز + بلومبرغ، وبالخصوص من23 إلى 26/08/2019
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.