تونس، على هامش الإنتخابات الرئاسية، الطاهر المعز  ​​

خَدَم أجداد “الباجي قائد السّبْسي” نظامَ البايات (الباي هو المُمثل المحلي للسلطة العثمانية)، والدّولة العُثمانية التي احتلت تونس لأكثر من أربعة قرون، والإحتلال الفرنسي المُباشر، من 1881 إلى 1956، وخدم الباجي قائد السبسي النظام، خلال فترة الهيمنة الإمبريالية (الإستعمار الجديد)، منذ 1956 خلال فترة رئاسة “الحبيب بورقيبة”، كما خلال فترة حكم الجنرال “زين العابدين بن علي”، ثم أصبح رئيسًا حتّى تاريخ وفاته عن 92 سنة، سنة 2019، قبل انتهاء فترة رئاسته ببضعة أشهر، وأدّت وفاته إلى تقديم الإنتخابات الرئاسية (يوم 15/09/2019) على التشريعية، مما أجْبَر القوى السياسية على إعادة النّظر في رُزنامتها وفي تحالفاتها.

أعلنت “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” قُبول ملفات 24 مترشح، ومُترشِحَتَيْنِ (26 في الجملة) للإنتخابات الرئاسية، وقَدَّمَ بعض المُترشّحين، الذين رَفَضَت الهيئةُ ملفّاتهم، طُعُونًا لدى المحكمة الإدارية…

يتبارى المُترشّحون في تقديم وُعُودٍ لا يُؤمنون بجَدْوى تحقيقها، أو وعود بإنجاز خطَطٍ لا تشملها صلاحيات الرئيس، بحسب دستور 2014، ويشترك معظم المترشحين (مع استثناءات قليلة) في ضبابية البرامج وضحالة مستوى النقاش الذي يَعْكِسُ بدوره فَقْرَ برامج الأحزاب التي يُمثلونها وخُلُوّها من مُقترحات عملية لحل مشاكل البطالة والفَقْر والتفاوت الطّبَقِي والمناطِقِي (الجِهَوِي) والدّيون الخارجية المُرتفعة، وأولويات الإستثمار ومصادر تمويل برامج التنمية، وغير ذلك من القضايا الإقتصادية، في ظل اختناق الإقتصاد تحت خُف صُندوق النّقد الدّولي وبقية الدّائنين، إلى جانب علاقات التبعية وهيمنة الإتحاد الأوروبي على ثروة البلاد، وبالتالي هيمنة الدّائنين والإتحاد الأوروبي على القرار السّياسي في تونس وفي البلدان ذات الأوضاع المُماثِلَة…

يوجد من بين المترشحين (ومن نواب البرلمان ومن قِيادِيِّي بعض الأحزاب) من يحملون جنسية دول امبريالية، وتدعمهم منظمات أجنبية مشبوهة، أو شركات متعددة الجنسية (شركات الطاقة والنفط، على سبيل المثال)، ومنهم من دعم نظام الحكم خلال رئاسة الجنرال زين العابدين بن علي، أو من الإخوان المسلمين الذين “يميلون مع النّعماء حيثُ تميلُ”، وتدعمهم الإمبريالية الأمريكية، ويرتاح لهم الكيان الصهيوني، وتُصنّفهم الإمبريالية مُمثلين للإسلام السياسي “المُعتدل”، وتعكس الترشحات هيمنة الإخوان الملسمين والدّساترة (ممثلي الحكم السابق من 1956 إلى 2010)، ورجال الأعمال المحليين، في قطاعات غير منتجة (الإعلام والإتصالات وتمثيل مصالح الشركات الأجنبية)، وتعلقت ببعض المترشحين قضايا فساد وغسيل أموال، وتهرّب ضريبي، وتحيّل، وغير ذلك من التُهم المُعيبة لمن يطمح لإدارة شؤون البلاد، وأظهرت العديد من وسائل الإعلام انحيازها المكشوف لبعض الفاسدين، واتفقت قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات الأُجَراء) مع نقابة أرباب العمل، على دعم عددٍ من المترشحين الذين يدافعون عن الليبرالية الإقتصادية والخصخصة، وعن المَيْز ضد النساء (نصف المجتمع والإنسانية) وبعض الفئات الأخرى من الشعب، ويحظى هؤلاء المترشحون بدعم الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، أهم القوى الإمبريالية في عصرنا، ودعم بعضهم عدوان هذه القوى على الشعوب العربية (ليبيا وسوريا…)، ودعم بعض المترشحين، وهم يحملون جنسيات أجنبية (جمعة والشاهد والصيد، وغيرهم) اتفاقيات ذات صبغة استعمارية، وأهمها  “اتفاقية التبادل الحر المعمق والشامل”، واتفاقيات الهجرة، مع الإتحاد الأُوروبي، وإرساء قواعد عسكرية أجنبية (أمريكية بشكل خاص) في تونس، ودعموا العدوان العسكري على الشعب الليبي، انطلاقا من أرض تونس، وساهم البعض في تشجيع الشباب التونسي على “الجهاد”، ليس في سبيل تحرير فلسطين، وإنما لتفتيت سوريا (عبد الفتاح مورو ومنصف المرزوقي…).

لعب المال السياسي دَوْرًا هامًّا في الإنتخابات السابقة، كما لعب الإعلام والشبكات الإعلامية الخاصّة دورًا هامّا في الدّعاية لبعض المرشحين (قناة “نسمة” في تونس، وشبكة “الجزيرة” القَطَرِيّة، والإعلام الأوروبي وغير ذلك)، مما يجعل من العسير على مُرشّح من خارج دائرة الفساد والأعمال أن يفوز، ويبُثُّ ممثلو اليسار في هذه الإنتخابات، والتي سبقَتْها، وَهْمَ إمكانية تحسين وضع الفُقراء والمناطق المحرومة، عبر زيادة عدد ممثليهم (ممثلي اليسار) في البرلمان، والواقع إن لا أحد يستطيع الفوز بانتخابات وضعت البرجوازية والإمبريالية (عبر مُسْتشاريها ومنظماتها العديدة، وممثلي مصالحها في الداخل) قواعدَها وشُرُوطَها، دون الإعتماد على قُوّة العدد، عدد الفُقراء والمُنْتِجين، وعلى فَرْضِ مصلحة الأغلبية (العمال وصغار الفلاحين وصغار الموظّفين والعاطلين…) على حساب مصالح الأقلية التي تملك السلطة الإقتصادية والسياسية والإعلامية، وتمسك بجهاز الدّولة، مدعومة بالشركات والقُوى الأجنبية الإمبريالية…

وَجَدَ المَحْرُومون أنفُسَهُم خارج قواعد اللُّعْبَة، بعد أن أطلقوا انتفاضة 2010/2011، وتحالفت بعض قوى اليسار مع أعدائهم الطّبقيين قبل أن يجف دم شهداء الإنتفاضة، وتواصل نضال الفُقراء والعاطلين عن العمل في الشمال الغربي (سليانة والدهماني…) وفي الَوسَط الغربي (القصرين وسيدي بوزيد) والجنوب (منطقة الحوض المنجمي وبنقردان وتطاوين وغيرها)، ومناطق أخرى، في الأحياء الشعبية لمدينة تونس، وغيرها، وأضرب العُمّال والأُجَراء وتظاهروا وتجمهروا أمام محلاّت اتحادهم النقابي، ولم يحَظوا بالدّعم المَأمول، وصَمَدَ مُزارعو وعمال واحات النخيل في “جمنة” (الجنوب الغربي) ولا وحدتهم وصمودهم، لما تمكنوا من الحصول على بعض المكاسب الجُزْئِيّة، التي لا تزال تحتاج للدعم وللتطوير…

أظْهَرتْ هذه النّضالات الجماهيرية المُتنوّعَة، وغيرها الكثير مما يعسُرُ حَصْرُه، مثل نضالات أُسر الشهداء والمُصابين والمفقودين في تونس وفي الخارج، ونضالات مختلف الفئات الإجتماعية الأخرى، أظْهَرت ضُعْفَ وَوَهَنَ اليسار، وافتقادَهُ لبرنامج وخطط عَمَلِيّة وذات مِصْداقية تجعله يكسب دَعْمَ وتعاطُفَ الفئات الطبقية والإجتماعية التي يَطْمَحُ إلى تمثيل مَصالحها، ولم تُظهر المؤشرات إن هذا النوع من اليسار استخلص الدّروس من انتفاضات تونس ومصر (2010 و 2011) وما سبقها وما لحقها من احتجاجات وتحركات جماهيرية أسفرت عن سقوط ضحايا واعتقالات، دون ردّ مناسب يَرْدَعُ الأنظمة والتحالف الطبقي المُعادي للفُقراء والعُمال والمُنْتِجين…

يُؤسفني أن تكون خاتمة هذه الورقة: لا زلنا نفتقد لبرنامج سُلْطة بديلة، على أنقاض الوضع السائد حاليا، وبالتالي سنرزح سنوات وربما عقودًا أخرى تحت هيمنة قوى الثورة المضادة إذا لم نَنْتَفِضْ على زعاماتنا، قبل أعدائنا…       

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.