ترامب ليس حمامة بل أمريكا لم تعد صقراً، عادل سمارة

يبقى الحديث عن ان ترامب لا يفضل الحرب العسكرية “الموسعة طبعاً” حديثاً
مجزوءً ما لم يوضع في سياقه الواسع لأن الأمر هو امريكا الدولة وليس
امريكا الرئيس.
فبعد ان أمسكت امريكا بمقود السيطرة على العالم إثر الحرب الإمبريالية
الثانية قامت بالعدوان على كوريا ومن ثم فيتنام وغيرها من الحروب ولم يكن
ذلك لأنها رغبة الرئيس. قامت بكل هذا رغم وجود النقيض ، اي الاتحاد
السوفييتي الذي كان دوره محاولة لجم الإمبريالية الأمريكية حيث نجح
أحيانا وفشل أحيانا أخرى.
وفي نفس السياق كانت عدوانات الكيان الصهيوني أيضا مرتبطة بقرار أمريكي
أي بالتوازي مع شروط ظرف العدو الأمريكي.
قامت سياسة امريكا في تلك المرحلة على نظرية أيزنهاور، الجنرال الذي
اصبح رئيساً، وملخصها تركيز امريكا على التفوق في السلاح وتسويق السلاح
لأن القوة العسكرية تفتح الأسواق بعكس المنتجات المدنية التي ليس شرطا أن
تحصل على الأسواق بالمنافسة والجودة علاوة على أن فرص الدول للإنتاج
المدني أوسع بكثير من فرص الإنتاج العسكري المتطور.
هذا لا يعني أن امريكا لم تركز ولم تتفوق في الإنتاج المدني، لكن حصتها
منه انحدرت من 40 بالمئة إلى 19 بالمئة مؤخراً. وهذا لعب دورا كبيرا في
ضعف الدور الذي أُنيط بامريكا وهو دور “اقتصاد الملاذ الأخير”. بينما بقي
الإنتاج والتفوق والتسويق التسليحي بيدها.
وحيث أدرك الاستراتيجيون الأمريكيون أن المنافسة الدولية في جانب العرض
“عرض السلع المدنية” تتزايد، فقد صاغت مع السعودية لعبة “كلبشة” معظم دول
العالم بالدولار الذي اصبح النقد الوحيد لشراء النفط.
صحيح أن بداية ذلك كانت بتسعير النفط بالدولار فقط مما جعل طلب مختلف
الدول المستهلكة للنفط، أي اكثرية دول العالم، مضطرة لشراء الدولار كي
تدفع ثمن النفط، ولكن إضافة إلى ذلك أصبحت أية دولة تحتاج لطباعة نقودها
المحلية مضطرة بأن تشتري مقابل ما ستطبعه دولارات وهذا سهَّل على امريكا
طباعة الدولارات حيث اصبح المعيار هو الطلب الدول يعلى الدولار وليس اي
غطاء ذهبي أو انتاج سلع مطلوبة للسوق الدولية.
أثبتت الحرب ضد فيتنام بان القوة العسكرية الهائلة لا تهزم شعبا يناضل من
اجل حريته وخاصة مع وجود ظهير له هما الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية،
وهي الحرب التي ارهقت الاقتصاد الأمريكي والتي ترافق معها تحولان هامان:
الأول   1971ثم  1976 : في مؤتمر جمايكا)  حيث تم رفع الغطاء الذهبي  مما
فتح الباب لتعويم سعر صرف العملات
والثاني:  1973 حيث تم اعتماد الدولار كعملة وحيدة لتسعير النفط.
ولكن منذ ذلك الحين، بدأ تورط أمريكا في  عجز وصل مؤخرا حوالي 21 ترليون
دولار. ومع ذلك لا تقلق امريكا من ضخامة هذه المديونية طالما بقي الدولار
هو العملة المعتمدة دوليا لشراء النفط خاصة.
لكن التحول الحاسم في احتراف امريكا للعدوان كان غزو أفغانستان والعراق
حيث أُنهكت الخزينة الأمريكية.
تجدر الإشارة إلى ان تلكم الحربين حصلتا في غياب دور الاتحاد السوفييتي
وحتى غيابه كلياً.
بعد هاتين الحربين لم تعد امريكا تقوم بحروب فعلية بجيشها نفسه رغم غياب
الكتلة المضادة، ونقصد هنا أن روسيا والصين اللتين رغم عرقلتهما للتوحش
الأمريكي لكنهما لا تمنعانه بشكل فعلي، يشهد على ذلك تدمير ليبيا
والعدوان المعولم ضد سوريا.
لعل السر في توقف التوحش الأمريكي المباشر هو عدم قدرة امريكا على تحريك
مئات آلاف الجنود الأمريكيين وتكاليف يوميات الحرب إن حصلت.
ومن جهة ثانية، فإن اعتماد امريكا على جيشها الثالث ، اي الإرهابيين
العرب والمسلمين من قوى الدين السياسي تصل اليوم إلى خواتيمها، كحروب
بالإنابة.
وهذه التطورات لا تعني أن ترامب حمامة، وإنما تعني أن امريكا لم تعد صقراً.
كما لا تعني الحروب التجارية وحرب العملات التي تقوم بها أمريكا مؤخراً
أن ترامب هو الذي يقرر ذلك، بل ما يقرره واقع الدولة الأمريكية نفسه أي
تحديداً اللجوء إلى حرب التجارة والعملات وليس المدافع.
من هنا، فإن الحديث عن أن ترامب يخالف سياسات المحافظين الجدد هو أمر
قائم على أن المحافظين الجدد في هذه الفترة من الزمن هم وراء التطورات
بمعنى أن القدرة على إدارة حروب جديدة ليست متوفرة ومن هنا نراه يُجهز
على رجال المحافظين الجدد واحدا بعد الآخر، وآخر ​​ضربة كانت ضد بولتون،
وبالتالي فإن صقورية ترامب هي صقورية تجارية عِمْلاتية، وهذا ما يحصل.
فإذا كان مجيىء ترامب هو لترقيع وإدرة أزمة 2007-2008 وذلك بإغراء شركات
أمريكية للعودة إلى امريكا مع تسهيلات ضريبية لها وإلقاء عبء الضرائب على
الطبقات الشعبية وحتى الوسطى، ولكن الطبقات هذه، وإن أوجدت لها إدارة
أوباما ومن ثم إدارة ترامب فرص عمل إلا أن مداخيلها محدودة “تسليك
الحال”، وهو تشغيل اقرب إلى البطالة .
هذا الواقع الجديد يتلخص في اتباع ترامب سياسة حمائية. وهذا طبيعي في هذه
الظروف. ولكن بالمقابل، فإن عجز الطلب، نظرا لوجود بطالة تقارب احيانا 8
بالمئة وندرة في السيولة، على صعيد عالمي وأمريكي ايضاً يلعب دورا في
تقليص العرض على المستويين المحلي الأمريكي والعالمي.
ورغم الحقن المالية الهائلة التي ضختها الإدارة الأمريكية للمصارف إثر
أزمة 2007-2008 ، إلا أن الطلب على قروض الاستثمار ظل ضعيفاً، كما أن
مقادير هائلة منها اختفت ولم يتم تقديم تفسيرات مقنعة كيف واين ذهبت!
المهم أن الاستثمار الإنتاجي بقي ضعيفا، وذهب اصحاب الأموال إلى تنشيط
سوق المضاربات بالأوراق المالية.
أثرت هذه التطورات كذلك على الصين التي بنت سياستها في جانب العرض على
التصدير الموسع عالمياً. فقد ضخت في اسواقها 4 ترليون يوان لدعم سياستها
في جانب العرض إلا أن هذه لم تستجر طلبا موازياً حتى في السوق المحلي
الذي توجه كثير منه لشراء سلع دول أخرى. وبالطبع، توجهت الصين إلى توسيع
معدة السوق المحلي فيها للحفاظ على معدل نمو لا يقل من 6 بالمئة، إلا أن
الميزة الخاصة بالصين وهي ضخامة السوق المحلية لا تغني إقتصادا أٌقيم على
التوجه للتصدير، ولكن إلى سوق عالمية تعاني من عجز الطلب، اي ان نتائج ضخ
الأموال حكوميا في امريكا والصين لم تعط النتائج المرجوة، وإن كانت
النتائج في الصين افضل لكن دون المتوقع.

الأزمة المقبلة كسابقتها عالمية

 في إدارة أنظمة الحكم لأزماتها الاقتصادية يتم التلطي وراء الحديث وحصر
تفكير الناس في  أزمات داخل هذا البلد او ذاك معزولة عن بعضها البعض مثل
نقد توظيف المال السياسي في الانتخابات، التجاوز على الديمقراطية، تخريب
رئة العالم  اي غابات الأمازون، والترويج بأن هذه أمور يمكن حلها بإدارة
حكومية أفضل،  في حين أن الهدف هو التغطية على الأزمة الكلية للنظام
الرأسمالي العالمي نفسه حيث يُجمع كثير من الاقتصاديين، بانهم يرون أن
ازمة اقتصادية كبرى هي قادمة بالضرورة خلال عام او عامين.
ويبدو أن هذا ما يحاول ترامب تلافيه عبر سياسة البلطجة المالية اي
التقشيط من التوابع وخاصة دول الجزيرة والخليج العربية وصولا إلى أوروبا
طبعاً، والحرب التجارية حتى مع الإمبرياليات الحليفة والدول غير الحليفة
مثل الصين وروسيا.
هنا تجدر الإشارة إلى تمسك امريكا بالسيطرة على النفط العربي لأن روح
الدولار هناك، وهذا ما يدفع امريكا للتهويل بان إيران سوف تحتل هذه
البلدان كي يرتعد الحكام ويتواطؤون ويصنعون الفتنة الطائفية…الخ ويصمت
الشعب، وقد يكون في راس ترامب وإدارته أن امريكا هي الملاذ وهي المنقذ.
فالمعروف ان الاقتصاد الأمريكي يُسمى اقتصاد الملاذ الأخير عالميا، بمعنى
ان انهياره سوف ينسحب على النظام العالمي، ولذا، فإن محاولات ترامب لا
تصب في مصلحة امريكا وحدها بل في مصلحة الراسمالية في حقبة العولمة.
 السؤال السحري هنا هو: أن الصين ايضا حريصة على عدم انهيار هذا النظام .
ومن هنا تناقضها مع الحمائية الأمريكية وغير الأميركية. أي ان كل طرف
منهما حريص على صمود النظام الرأسمالي العالمي ولكن من مدخلين متناقضين.
حتى اليوم تتبع معظم الدول الصناعية سياسة تسمى جانب العرض اي الإنتاج
الموسع، وخاصة الصين. لكن المشكلة أن الطلب العالمي لا يُجاري الإنتاج
العالمي، كما أشرنا أعلاه،  مما يخلق ازمة كساد تدفع باتجاه تقليص
الإنتاج وبالتالي الركود . وهنا تقوم الدول (بترخيص من الاحتياطي
الفدرالي الأمريكي) بطباعة نقود لتوسيع طاقة الطلب فيحصل التضخم وهنا
يتراكب الركود مع التضخم لتصبح الأزمة “ركود تضخمي Stagflation . ملخص
القول بأن الرهان الأخير لأمريكا بقيادة ترامب هي على نجاح الحرب
والابتزاز التجاري من جهة، وتثبيت سيطرة الدولار من جهة ثانية، لكي يتمكن
من إدارة الأزمة الحالية والقادمة قدر الإمكان وخاصة مع ارتفاع اسعار
النفط لاحقا، والذي سيقدم لأمريكا هديتين:
الأولى: طلب عالمي موسع على الدولار
والثانية: فرصة لإنتاج النفط الصخري وبيعه بشكل مجدي.
وهذا يزيد من تمسك امريكا بالخليج ويزيد من دور الخليج في تخريب اقتصاد
الدول بأخطر تخريب للدول الأفقر وبأقل منه ضد الدول الأقوى إقتصاديا.
لقد راهن كثيرون على تبلور كتلة البريكس سواء فيما يخص التبادل البيني
فيها لتجاوز الدولار ومن ثم خلق عملة خاصة بها وتعميم التبادل بها مع
شركاء آخرين أو للحلول محل الدولار قدر الإمكان ولو بقضم تدريجي لمساحات
تحت سيطرته. ولكن هذه الكتلة لم يبق منها سوى الصين وإلى حد ما روسيا. بل
إن الصين والهند قد تكونا على حافة صدام نظرا للصراع الهندي الباكستاني.
كما ان الصين نفسها مكلبشة بما لديها من سندات خزينة امريكية مبلورة في
احتياطي دولاري يقارب 3 ترليون دولار،  وهذا من أسباب حرصها على عدم
انهيار النظام العالمي.
كما إن انخراط الصين في منظمة التجارة العالمية وفي السوق العالمية
يغريها بالحفاظ على هذا النظام وانفتاحيته في حين معظم الدول المتقدمة
تجنح باتجاه الحمائية.
تردنا هذه التطورات إلى الاستنتاج بانه:
إذا كانت الصين الشعبية صاحبة الخبرة السابقة في نجاح فك الارتباط بالسوق
العالمية، تقود اليوم وجوب الانفتاح والارتباط والحفاظ على النظام
الراسمالي العالمي ، فإن أفق فك الارتباط والتنمية بالحماية الشعبية
تشترط سلطات مختلفة ليست متوفرة اليوم، وهذا يُقنع بان العالم في المدى
القريب يرى الأزمة بوضوح وذاهب إليها.
وهذا يطرح سؤالين:

الأول: كيف ستتصرف الدول المستهدفة بالحرب التجارية والعملاتية
في الدفاع عن نفسها خاصة وأن أنظمتها لا تؤمن بفك الارتباط والتنمية
بالحماية الشعبية.
والثاني: هل لن تذهب امريكا إلى اي حرب بالمطلق؟ والجواب كلا.
وهكذا، فإن الحديث عن حصول أزمة عام 2020 أو لنقل تفاقم أزمة 2007-2008
الذي سيتجلى في عام 2020 جميعه على ما فيه من تحليل منطقي يظل يدور في
أفق بقاء النظام الراسمالي بكل وحشيته، ولا يعرف هؤلاء المحللون الجيد
منهم والضعيف سوى البحث عن “التُقية” الاقتصادية. اي بما أنهم برجوازيون
يؤمنون بهذا النظام، فهم لا بد أن يقفوا ضد اية سياسة جذرية لدولهم أي
التنمية بالحماية الشعبية وفك الارتباط.  ذلك إلى أن تتجذر الأزمات وتفرض
تبلور قوى شعبية ومن ثم منظمة لمواجهة اسس النظام الراسمالي وتقويضه.
قد يرى البعض ان هذا بعيد المنال. لكنه ليس مستحيل الحصول. إن فهم الحدث
هو الذي يسمح لنا بمواجهته والمساهمة في صنع الحدث المضاد.
لقد كانت الثورة البلشفية الانتصار الأهم ضد راس المال، ومارست فك
الارتباط، وإصدار روبل غير مرتبط بالدولار…الخ وليست هزيمة التجربة هي
نهاية المحاولات البشرية.
آخر القول فإن الذين يتوقعون الأزمة ويبحثون عن أسس التلطي لتجاوزها بأقل
الخسائر الاقتصادية كان يجب أن يفكروا أكثر في الناس بمعنى كم من
الملايين سيموتون جوعا ومرضاً وسوء تغذية بسبب الأزمة، لأن التفكير في
الناس هو الذي يحفز العمل الثوري، أما التفكير في الأرقام ومعدل النمو
فيغطي على الضحايا.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.