أدّت انتفاضة الفُقراء والمَحْرُومين، في نهاية سنة 2010 وبداية سنة 2011، إلى استيلاء قُوى مُعادية تمامًا للكادحين وللفُقراء، لكنّها قُوى مُنظّمة وتحظى بدعم الإتحاد الأوروبي (الذي يُهيمن على اقتصاد وثروات البلاد) والولايات المتحدة، التي دعمت النظام الحاكم في تونس، من بورقيبة سنة 1956 إلى الإخوان المسلمين، أو ما أطلقت عليه أمريكا الإسلام السياسي “المُعْتدل”، وانحصر التّنافُسُ بين هذيْن التّيّارَيْن، رغم وجود 26 مترشح لانتخاب رئيس الجمهورية (15 أيلول/سبتمبر 2019)، وتحالف التّيّاران الحاكمان، باستخدام أجهزة وموارد الدولة (أي الشعب) في الحملة الإنتخابية، مع رجال الأعمال الذين اشترَوا أحزابًا ونوادي رياضية ووسائل إعلام، فيما بقيت التيّارات الأخرى مُهمّشَة، وتفتقد إلى برامج بديلة وإلى حضور جماهيري…
لم ترتكز الحملة الإنتخابية على تقديم برامج ونقاشها، رغم ارتفاع قيمة الدّيون والفقر والبطالة، بل وقع توجيهها نحو معركة أو خلافات بيْن أفراد، لا انتماء طبقي أو عقائدي لهم، لا يملّون من الحديث عن “الحُرّية” أو “الديمقراطية”، بينما يشتكي الصيادون من الجنوب إلى الشمال من تلوث البحر، وموت السمك، وتشتكي النساء العاملات في مصانع النّسيج والملابس، التي يمتلكها رأس المال الأوروبي، من طول يوم العمل (تسعة أو عشر ساعات يوميا) ومن ضُعف الرواتب (أقل من 150 يورو شهريا) وسوء ظروف العمل، والمشاكل الصحية الناجمة عن انتشار الغُبار، وغياب تجهيزات السلامة، والهواء النّقي، ثم تُطرد الشركات الأوروبية العمال والعاملات، عند بلوغ سن الأربعين، لتشغيل شبان وشابات، تحت سن العشرين، ويشتكي المُزارعون في كافة أنحاء البلاد من الإهمال وارتفاع أسعار الماء والأسمدة والبُذُور، ومن منافسة البضائع الأجنبية التي تدعمها حكوماتها (مثل السلع الغذائية التّركية، بدعم من الإخوان المسلمين، أي من الحكومة التونسية)، ومن التلوث في مناطق الجنوب، حيث أضرّت مصانع الإسمنت وتصنيع الفوسفات بصحة البشر والنبات والمياه، ورفعت معدل الأمراض الخطيرة، وفي مقدّمتها السّرطان، إلى معدلات قياسية، في مدينة قابس، بسبب التلوّثُ الخطير للهواء والماء…
لم تنل العديد من المواضيع حظها من النقاش، ومن الحلول المقترحة، ومن أهمّها مسالة ارتفاع ديون الدولة، إذ يُمثل الاقتراض 3,5 مليارات دولارا (حوالي عشرة مليارات دينار)، أو ما يعادل 25% من ميزانية 2019، المقدرة بنحو 40,8 مليار دينارا، أو ما يعادل 13,7 مليار دولارا، وسوف تكون النسبة الأكبر من هذه القروض، من الخارج بالعملة الأجنبية (حوالي 2,6 مليار دولارا)، ولا تستخدم الحكومات المتعاقبة الدُّيُون لخلق الثروة، أو إنجاز مشاريع تستوعب جزء من العاطلين، حيث بلغت نسبة البطالة 15,5% من قوة العمل، وإنما لتسديد القروض القديمة، بشروط أكثر إجحافًا، مما يُراكم الدّيُون وخدمة الدّيون، ويتوقع أن ترتفع نسبة المديونية من 71% سنة 2018 إلى نحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي، سنة 2019، وبلغت هذه النسبة 41% بنهاية سنة 2010، مما يعني إن حكومات تحالف الإسلام السياسي والدساترة ورجال الأعمال، مسؤول عن إفلاس الدولة، وعن الفساد، وارتفع حجم الدين العمومي من 72,4 مليار دينارًا، بنهاية النصف الأول من سنة 2018، إلى 82,6 مليار دينارًا، خلال النصف الأول من سنة 2019، بحسب البيانات الرسمية لوزارة المالية، وكانت نسبة 51,6% من القروض الخارجية مُقومة باليورو، و 31% بالدولار الأمريكي، و11,4% بالينْ الياباني، وتعتبر تونس من الدول المهددة بالعجز عن تسديد أقساط الديون، فالحكومة تقترض لتسديد أقساط قروض قديمة، مما يزيد من حجم الدّيْن وخدمة الدّيْن، ولم ترتفع إيرادات الحكومة من ضرائب الأثرياء، بل زاد التهرب الضريبي وتفاقم العجز التجاري بشكل قياسي، ووصل إلى 6,5 مليار دولار، بنهاية سنة 2018، وارتفع العجز التجاري لتونس، خلال الثمانية أشهر الأولى من سنة 2019، الى 12864,1 مليون دينار مقابل 12160,5 مليون دينار خلال نفس الفترة من سنة 2018 وفق بيانات للمعهد الوطني للإحصاء، كما ارتفعت نسبة التضخم الرسمية من نسبة 6,5% خلال شهر تموز/يوليو 2019 غلى 6,7% خلال شهر آب/أغسطس 2019، وهي أرقام دون الواقع بكثير…
انتقل نظام الحكم في تونس سنة 2011 من دكتاتورية لا تسمح بالحريات الفردية والجَمْعيّة إلى تعدد الأحزاب وتنظيم انتخابات دورية، والسماح “لمُكونات المُجتمع” من التعبير للمطالبة بمكاسب فِئَوِيّة، لا تُقوِّي الروابط بين فئات المجتمع بل تُذَرِّرُهُ، لكي لا يُجابهَ الحُكّام شَعْبًا (أو أغلبيةً) تطالب بحقوق اقتصادية واجتماعية تُقَوِّي الرّوابط بين المُضْطَهَدِين، وتَفْرِضُ مصالح الأغلبية، ضد الأقلية المُسْتَغِلّة والمُضْطَهِدَة، ولا تشُذُّ الحملات الإنتخابات عن هذه القاعدة، إذ يحظى معظم المترشحين (أو أحزابهم) بدعم خارجي، فيما يُهيمن رأس المال، وخصوصًا ممثل مصالح رأس المال الأجنبي، على وسائل الإعلام وشركات الإتصالات والأحزاب والجمعيات، لتحْويل التنافس الانتخابي من تنافس البرامج والمشاريع المُستقبلية إلى صراع أشخاص، بدون انتماء طبقي، ولا خلفية إيديولوجية، مع تغْيِيب أسباب انتفاضة فُقراء سيدي بوزيد والقصرين وغيرهم من الفقراء والعاطلين وسكان أحياء المدن، وتغييب مصلحة الإُجَراء والفُقراء وصغار الفلاحين والفئات الكادحة والمَحْرُومة، وتغييب الحديث عن التهرب الضريبي ونهب ثروات البلاد، وارتفاع قيمة الديون ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي، لأن الحاكمين ومالكي وسائل الإعلام والأحزاب من نفس الفئات التي استفادت من نظام بن علين ومن نهب البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، والشركات العابرة للقارات، و”حرية السوق”…
يورو واحد= 3,15 دينارات – دولار واحد = 2,85 دينار، يوم 13/09/2019
وردت معظم هذه المعلومات في بيانات ومواقع: المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية + المعهد الوطني للإحصاء + موقع مجلة “الآداب” (لبنان) 11/09/2019
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.