من الذاكرة – حَدَثَ خلال شهر أيلول، الطاهر المعز  

أيلول الأسود 17 – 27/09/1970:

لم تكن دولة “الأردن”، موجودة قبل مؤامرة الإمبرياليتين البريطانية والفرنسية، والمُسماة “اتفاقيات سايكس – بيكو” (2016) والتي كانت سرية، قبل أن يكشف قادة الثورة الإشتراكية في روسيا وجودَها وفَحْواها، وبعد النّكبة (1948) ضمت دولة الأردن الصفة الغربية، إلى أن احتلها الكيان الصهيوني خلال عدوان 1967، وهي أكثر دول الجوار الفلسطيني استقبالاً للفلسطينيين المَطْرُودين من أرضهم ووطنهم، حيث قُدِّرت نسبتهم بنحو 60% من سكان المملكة، بعد عدوان 1967، وأصبح الأردن نقطة انطلاق للعمليات الفدائية ضد جيش الإحتلال الصهيوني، وفي الأسبوع الأخير من آذار/مارس 1968، تمكّنت المنظمات الفدائية والجيش الأردني من صد هُجُوم نفذه جيش الإحتلال الصهيوني، وعُرفت هذه الحادثة فيما بعدُ ب”معركة الكرامة”، مما زاد من شعبية الفدائيين في الوطن العربي، واعتبر قادة الأنظمة العربية المنظمات الفدائية، التي تهديدًا لهم، إذا لم يُحْكِمُوا قبضتهم عليها، قبل أن يعتبروها منظمات مُقاومة للإحتلال، رغم إعلان قادة منظمة التّحرير “عدم التّدخّل في الشؤون الدّاخلية للدول العربية”، لكن الأنظمة العربية كانت تعتبر وجود المقاومة الفلسطينية، في حد ذاته، من العوامل التي قد تُؤجّجُ غضب الفُقراء والمَحْرُومين، والمُضْطَهَدِين في الوطن العربي، ضد هذه الأنظمة…

في الأثناء كان النظام المصري الناصري، والنظام الأردني قد أعلنا قُبولهما بمشروع “روجرز” (على إسم وزير خارجية أمريكا ويليام روجرز) في تموز/يوليو سنة 1970، ورفَضَتْهُ منظمة التحرير الفلسطينية، لأنه لا يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني في وطنه، وشكّل هذا الخلاف ذريعة ليشن الإعلام العالمي، والعربي الرسمي حملة ضد قيادات المنظمات الفلسطينية، والإدعاء إنها تُسيْطِر على الأردن، وتنافس الحكومة في مجالات عديدة، وكانت تلك إشارة ليبدأ النظام الأردني، الموالي للولايات المتحدة، التّحرش بالفلسطينيين (الفدائيين وسكان المخيمات)، لعدّة أشهر، وخصوصًا منذ بداية شهر شباط/فبراير 1970، قبل أن يتعلل النظام الأردني بحوادث مُفتَعَلَة أو تافِهَة، ليشن حرب تصفية ضد الفلسطينيين (مسلحين وغير مسلحين)، من 17 إلى 27 أيلول/سبتمبر 1970، وهدّدت الولايات المتحدة بالتّدخّل العسْكري “لحماية المواطنين الأمريكيين”، وبعد عشرة أيام من المجازر، وقّع ياسر عرفات والملك حسين بن طلال اتفاقًا يوم 27/09/1970، برعاية الرئيس المصري جمال عبد الناصر، قبل يوم واحد من وفاته، لكن الجيش الأردني استمر في ارتكاب المجازر، حتى شهر تموز/يوليو 1971، بدعم صهيوني، وقُدّر عدد ضحايا المجازر بأكثر من ثلاثين ألف، وأفْضَتْ إلى إنهاء العمل الفدائي المُسلّح، ضد الكيان الصهيوني، انطلاقًا من الأردن، وانتقلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات الفلسطينية إلى جنوب لبنان، المتاخم لمنطقة “الجليل” في فلسطين المحتلة، ليتكرر الإستفزاز ولتكرر المجازر، وأهمها اعتداء الجيش اللبناني على اللاجئين سنة 1973، إلى أن انطلقت الحرب الأهلية، بداية من سنة 1975، حيث ارتفع عدد المجازر، فكانت مذبحة مخيم “تل الزّعتر، فس شمال شرقي بيروت، من 10 إلى 12 آب/أغسطس 1976، حيث قَتلت المليشيات المُدربة والمسلحة من قبل الكيان الصهيوني، والمُعادية للفلسطينيين في لبنان، ما لا يقل عن ألْفَيْ فلسطيني، من إجمالي خمسين ألف نسمة، وفق إحصائيات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أنروا”…

صبرا وشاتيلا 16 و 17 و18 أيلول/سبتمبر 1982:

بعد غزو لبنان ومحاصرة العاصمة بيروت، سنة 1982، أشرف الكيان الصهيوني على مجازر ارتكبتها مليشيات لبنانية، من بينها حركة “أمل” و”الكتائب” وغيرها، وأهمها مجازر مُخيَّمَيْ صبرا وشاتيلا التي استمرت ثلاثة أيام، من 16 إلى 18 أيلول/سبتمبر 1982، بعد إخراج الفدائيين من لبنان، وإرسالهم بعيدًا نحو تونس واليمن والجزائر، وقُدِّرَ عدد القتلى من فُقراء فلسطين ولبنان، بأكثر من أربعة آلاف شخص، من أصل عشرين ألف نسمة، كانوا يسكنون المخيميْن، من فلسطينيين ولبنانيين فُقراء، وحاصَرَ الجيش الصهيوني المخيّم (بقيادة وزير الحرب أرئيل شارون)، وأطلق القنابل المُضيئة ليلاً، ليرتكب اليمين المتطرف اللبناني المجزرة، بقيادة “إيلي حبيقة”، دون أن يتمكن الضحايا من الفرار، أو من الإستنجاد بأحد، وكان معظم المقاتلين خارج المخيم، لذلك كان معظم الضحايا من الشيوخ والنساء والأطفال، أي من غير القادرين على حمل السلاح، وبقيت الجُثَثُ في شوارع المخيم، إلى أن دخلت قوات الإحتلال الصهيوني لتجرف المنازل، وتدفن القتلى تحت الأنقاض، وكانت مثل هذه المجازر التي تكررت، في ظل احتلال لبنان من قِبَلِ القوات متعددة الجنسية (أمريكية وفرنسية وإيطالية…)، إنذارًا للفلسطينيين الذين الشّبّان، فيَسّرت المخابرات الأمريكية هجرتهم إلى دول الحلف الأطلسي، بداية من الربع الأخير من سنة 1982 (كندا وألمانيا وأوروبا الشمالية…).

 في ذكرى اتفاقيات أوسلو 13 أيلول/سبتمبر 1993 – 2019

بعد خروج المنظمات الفلسطينية والفدائيين من لبنان، أصبحت قيادة منظمة التحرير في مأزق مالي وسياسي، وبعد خمس سنوات، انطلقت انتفاضة سنة 1987، وانتقل ثقل المقاومة، وإن اختلفت الأشكال، من الخارج، في البلدان المُتاخمة لفلسطين، إلى الأراضي المحتلة، سنة 1967، بعد أكثر من عشر سنوات من انطلاق “يوم الأرض” (30 آذار/مارس 1976) في الأراضي المحتلة سنة 1948، وخسرت قيادات منظمة التحرير الفلسطينية الدّعم المالي الخليجي، خلال العدوان على العراق، في بداية سنة 1991، بل وقع طَرْدُ الفلسطينيين العاملين في الكويت، بعد أن جعلوا منها دُوَيْلَةً قائمة، ولئن بدأ “الحوار” مع الولايات المتحدة، منذ 1968 (بحسب إدوارد سعيد ومحمود عباس وعصام السرطاوي وغيرهم)، فإن انطلاق المحادثات السرية بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقادة الإحتلال الصهيوني، كان على هامش مؤتمر “مدريد”، سنة 1991، قبل أن يتواصل الحوار (غير المتكافئ) في مدينة أوسلو، عاصمة النرويج، إلى أن وقّع ياسر عرفات، رئيس حركة فتح، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، يوم 13 أيلول/سبتمبر 1993، بإشراف أمريكي، وفي البيت الأبيض (ولهذا دلالته) ما عُرف باتفاقية أوسلو، أو “إعلان المبادئ لترتيبات الحُكْم الذاتي الإنتقالي”، مع مُجرمَيْ الحرب “شمعون بيريز” (وزير خارجية الإحتلال)، ورئيس حكومته “إسحاق رابين”، وكانت هذه الإتفاقيات بمثابة “إعلان اغتيال الإنتفاضة الأولى” التي انطلقت في كانون الأول/ديسمبر سنة 1987، باستقلالية عن منظمة التحرير…

التزمت قيادة منظمة التحرير بالتّخلي عن الأراضي المحتلة سنة 1948، أو ما يُعدل 80% من مساحة فلسطين التي كانت تحتلها بريطانيا، وتخلت بذلك قيادة المنظمة عن الشعب الفلسطيني الذي يعيش في النقب والمثلث والجليل، كما التزمت بالسّهر على أمن الكيان الصهيوني، وبإدانة “الإرهاب وكافة أنواع العُنف”، وهو ما يُترجم حاليا ب”التنسيق الأمني”، وغيرت ميثاق منظمة التحرير، دون الحصول على أي تنازل، ولو شكْلي من الإحتلال، الذي يعتبر الصراع صراح وُجُود، أي لا مكان للفلسطينيين في وطنهم، ثم كبّلت منظمة التحرير الشعب الفلسطيني بما سُمّي “بروتوكول باريس”، وهي اتفاقيات تُشَرْعِنُ التبعية الإقتصادية لسكان الأراضي المحتلة سنة 1967…

بعد أكثر من ربع قرن، ارتفع عدد المُستعمِرِين المستوطنين في الأراضي المحتلة سنة 1967، من أقل من مائة ألف إلى أكثر من ستمائة ألف مستوطن، وهي أراضي وقع الإستيلاء عليها بالقوة، مع تهجير أصحابها، ولما قُضِيَ على العمل الفدائي، اتجهت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني إلى تصفية قضية اللاجئين، عبر حصار منظمة “أنروا” وتصفية القضية الفلسطينية بالكامل، عبر ما سُمِّيَ “صفقة القرن”، بدعم من حُكّام الخليج، الذين يتحكمون بالجامعة العربية، ويدعون الإحتلال للتحالف معهم ضد إيران، وضد بلدان عربية (اليمن وسوريا وليبيا وغيرها)، وأعلن المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” (بيير كرينبول)، يوم 14/09/2019، عن وجود “حملة غير مسبوقة لإنهاء خدمات الوكالة، ولِوَقْفِ مساعداتها وخدماتها للاجئين الفلسطينيين… ولنزع لنزع الشرعية عن قضية اللاجئين الفلسطينيين…”، قُبيْل بدء المناقشات في الجمعية العامة للأمم المتحدة (نهاية أيلول/سبتمبر 2019) حول التجديد لعمل الوكالة، وتمويلها، رغم امتناع الولايات المتحدة وبعض أتباعها عن التمويل، منذ سنة 2018…

بالعودة إلى اتفاقيات أوسلو، نفذت السلطات الصهيونية أكثر من 120 ألف اعتقال، بين 13/09/1993 (تاريخ توقيع اتفاقيات أوسلو) و 31/08/2019، ومنذ بداية العالم الحالي، أصدرت محاكم الإحتلال، خلال ثمانية أشهر من سنة 2019، قرارات اعتقال إداري فاق 671 قرارًا بحق أسرى فلسطينيين، والإعتقال الإداري يعني اعتقال غير محدود المُدّة، وبدون توجيه تهمة، وأُعيد اعتقال 247 من الأسرى المحرَّرين، وافتتحت سلطات الاحتلال العديد من السجون والمعتقلات الجديدة لاستيعاب الأعداد الهامة من المعتقلين، وطالت الإعتقالات كافة فئات وشرائح المجتمع الفلسطيني، ومن بين المعتقلين (منذ توقيع اتفاقيات أوسلو) نحو 17500 طفل وألفيْ فتاة وامرأة، وطالت الإعتقالات أكثر من نصف أعضاء المجلس التشريعي وعدد من الوزراء ومئات الأكاديميين والصحفيين والعاملين في منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية، وأقر البرلمانيون الصهاينة أكثر من عشرين قانون يُشَرْعِنُ القمع والتعذيب والاستهتار بحياة المعتقلين، فيما استشهد 107 أسير، بعد الإعتقال، نتيجة التعذيب والإهمال الطبي، منذ اتفاقيات أوسلو، ويوجد (بنهاية شهر آب/أغسطس 2019) 5700 أسير، بينهم 220 طفل و38 امرأة في سجون ومعتقلات العدو…

تعتبر اتفاقيات أوسلو سابقة تاريخية استثنائية في تاريخ الشعوب الواقعة تحت الإحتلال، إذ اعترفت قيادات منظمة التحرير الفلسطينية بشرعية محتلين جاؤوا من أوروبا وأمريكا ومن عشرات الدول، مجانًا ودون أي تنازل من العدو الذي زاد من استيراد المُستوطنين، ومن طرد الشعب الفلسطيني من وطنه، والإتفاقيات خدعة عبر عنها أحد مُهندسيها ومُوقّعيها (إسحاق رابين)، رئيس حكومة الكيان الصهيوني سنة 1993، بقوله: “لا وقف لعمليات مصادرة الأرض والاستيطان، ولا وقف لمحاربة الإرهاب، ولا مواعيد مقدسة لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه…”

 انقلاب تشيلي 11/09/1973:

لا يمكن فَصْلُ حدث انتخاب “الجبهة الشعبية” (ائتلاف يسار، عماده الحزب الشيوعي والحزب الإشتراكي) وانتخاب “سلفادور إليندي” زعيم هذا الإئتلاف، بمعزل عن الحركة العمالية التي تزايدت احتجاجاتها، ووصلت حد إعلان وتنفيذ الإضراب العام، سنة 1968، وعن حركة الفلاحين الفُقراء الذين كثفوا من احتلال الأراضي الصالحة للزراعة، وغير المُستَغَلَّة، وحركة فقراء المدن والعاطلين والمُهمّشين، ومطالب “الحق في السّكن، والخدَمات الأساسية”، مما زعزع الحكومة التي فقدت الأغلبية، في انتخابات 1970، واستمرت هذه النضالات بعد الإنتخابات…

يختار أعضاء البرلمان رئيس الجمهورية، في تشيلي، واعتمد “سلفادور أليندي”، في فوزه على أصوات الجبهة الشعبية التي يمثلها 88 عضوا (الحزب الشيوعي + الحزب الإشتراكي، الذي ينتمي له أليندي)، بالإضافة إلى أصوات الديمقراطيين المسيحيين (75 عضوا)، الذين اشترطوا “تعديلات دستورية لضمان الحرية الفردية وإحياء أحزاب المعارضة، وضمان حرية الصحافة (التي يملكون أغلبها) واستقلال النقابات”…

كان برنامج الرئيس أليندي وأغلبيته البرلمانية إصلاحيًّا، تضمن تشكيل حكومة تضم الحركات والأحزاب اليسارية كافة، بالتحالف مع ما يُسمّى “الوسط” (الديمقراطية المسيحية، وهي يمين “مُعتدل”، وليست “وسطًا”)، وصيانة حق المعارضة في إطار القانون، وتحرير وسائل الإعلام من الطابع التجاري والاحتكاري، وتغيير النظام الاقتصادي القائم بآخر ذي طابع أقل أجحاف في حق العمال… لكن أمّمَت حكومة أليندي مناجم النحاس، أهم ثروة في البلاد، التي كانت تسيطر عليها الشركات الأمريكية، وحاولت الحكومة عدم تهديد مصالح البرجوازية وكبار ضُبّاط الجيش، فلم تشأ تغيير طريقة سَيْر مؤسسات الدّولة، وأرْجَأتْ طرح قانون جديد للإصلاح الزراعي، وضيّقت هامش التغيير الإقتصادي والإجتماعي، بل بلغت بها “السّذاجة” حد إعلان حالة الطوارئ وإطلاق يد الجيش بعد إضرابات عمالية في بعض الأقاليم، لكن الولايات المتحدة لم تسمح بالمس بمصالح شركاتها، عبر تأميم مناجم النّحاس، وعبر تحجيم دور شركة الإتصالات الأمريكية العملاقة “آي تي تي”، فكانت الحرب ضدّه وضد حكومته والأغلبية البرلمانية التي تدعَمُهُ، وتمويل إضراب أصحاب شاحنات النقل، واحتجاجات الشرائح العُلْيا من الفئات الوُسْطى، ودعم القادة العسكريين المُناوئين لفكرة الإشتراكية، وإن كانت إصلاحية، وليست ثورية، والمُعادين لممارسة الديمقراطية، ومبدأ اختيار القادة، وأعلن “هنري كيسنغر” : “إن شعب تشيلي عبر عن عدم نُضْجِهِ بانتخاب هؤلاء القوم، ولا يجب أن نبقى مكتوفي الأيدي، ونراقب ما يحصل في تشيلي من سَيْر الدّولة في طريق الشيوعية… إن المواضيع التي تشغلنا أهمُّ بكثير من أن نترك الناخبين التشيليين -غير المسؤولين- يختارون أو يُقَرِّرُون مصير البلاد بأنفسهم…”، وتزامن تصريح “كسينغر” مع تطور الحركة الشعبية (القاعدة الإنتخابية لسلفادور أليندي وللجبهة الشعبية) والنضالات العمالية والفلاحية المستمرة لاحداث تغيير حقيقي وجذري…

بالتوازي مع النضالات العمالية ونضالات الفُقراء والمُهمّشين، كانت رُدُود فعل اليمين قوية وعنيفة، واغتالت المليشيات اليمينية المتطرفة القائد العام للجيش “رينيه شنادر”، لأنه رَفَضَ الإنقلاب على الحكومة، انطلاقًا من قناعته “بإبقاء الجيش بعيدا عن السياسة”، واضطرت الحكومة لإعلان حالة الطوارئ في البلاد، لأن الإحتجاجات حاصرتها من يسارها ومن يمينها (وهذا حال التيارات الإصلاحية عمومًا)، وأصبح “أوغستو بينوشيه” قائدًا عامًّا للجيش، بعد اغتيال “شنادر”، واعتبرت الولايات المتحدة، أن قرارات الحكومة “ذات صبغة اشتراكية، وتُهدّد مصالح الولايات المتحدة” ليس في تشيلي وحدها بل في جنوب القارة الأمريكية، فاتخذت قرار إبعاد “أليندي” بأي شكل، وقررت الإعتماد على قائد القوات المسلحة الجنرال “أوغستو بينوشيه”، المُقرّب من الولايات المتحدة، ومن البرجوازية المحلية، ومن مليشيات اليمين المتطرف، ومكّنته (بالدّعم اللوجيستي والدبلوماسي والإستخباراتي والإعلامي) من الاستيلاء على السلطة في 11 أيلول/سبتمبر 1973، بعد محاصرة الجيش القصر الرئاسي بالدبابات، وَرَفَضَ الرئيس “اليندي” الإستسلام أو الهروب، وصمد وقاوم بسلاحه إلى أن سقط قتيلا، ومعه بعض رفاقه المُخلصين…

بعد الإستيلاء على السلطة، حلَّ الجيش البرلمان ومؤسسات الدّولة، ومَنَع الأحزاب اليسارية (أو التي يعتبرها يسارية) من أي نشاط سياسي، كما مَنَع وجود النقابات العمالية، وقام الجيش بتصفية المعارضة والحركة العمالية والنقابية بالإغتيال والإعتقال والقمع والمُطارَدَة، وجَمّدَ العمل بالدّستور، وشكّل، برئاسته، مجلسًا عسكريًّا من المُقرّبين منه ومن الولايات المتحدة، وطارَدَ الجيش من اعتبرهم يساريين، في أرجاء البلاد، وجمع نحو 35 ألف شخص معتقل، في ملعب العاصمة “سنتياغو”، وسُجن منهم 27 ألف، وقُتل نحو ثلاثة آلاف، واضطر الآلاف لمغادرة البلاد، وبعد مجازر وحملات مداهمة واعتقالات، تمكن المجلس العسكري من التحكم في البلاد، وأعلن “أوغستو بينوشيه” نفسه رئيسًا للبلاد، يوم 27 حزيران/يونيو 1974، وتهاطل الدعم المالي للسلطات الجديدة، من الولايات المتحدة ومن صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، واعتمدت السلطات العسكرية “اقتصاد السوق” ودعم الرأسماليين وخصخصة القطاع العام والمصارف والمرافق، وإلغاء قرارات التأميم السابقة، وألغى الرئيس الإنقلابي الحد الأدنى للرواتب، وخفض الضرائب على أرباح الشركات وعلى ثروات الأثرياء والميراث، وبينما كان قائد الجيش (الذي منح نفسه ترقية وميداليات) يرفع شعار الوطنية ضد مُعارضيه، اعتمد في الجانب الإقتصادي على الاستثمارات الأجنبية الأمريكية، التي هيمنت على كافة قطاعات البلاد…

رغم التقارير الإيجابية التي ينشرها صندوق النقد الدّولي بصفة دَوْرِيّة، مع الإشادة بالمعجزات التي حققها الحُكم العسكري في تشيلي، تفاقم المشكلة الاقتصادية، في الواقع، وانخفضت قيمة العملة المحلّية، وارتفع حجم الدّيُون الخارجية، التي بلغت سنة 1985 نحو 18 مليار دولارا، وارتفع عدد العاطلين عن العمل، من 182 ألفا سنة 1973 إلى 280 ألفا سنة 1985 من إجمالي عدد السكان المُقدّر آنذاك (سنة 1985) بنحو 11 مليون نسمة، وأدّى الفشل الإقتصادي إلى عودة الروح للإحتجاجات العمالية، ذات الصبغة الإقتصادية، وكذلك السياسية، وأعادت أحزاب المعارضة الإنتظام في تحالُفَيْن، أحدُهما يميني بقيادة الحزب الديمقراطي المسيحي، والآخر “يساري” حيث التقت فصائل الحركة الديمقراطية والشيوعية، ونجح التحالُفان في تنظيم حركات احتجاجية واسعة، شكّلت بداية لانهيار الحكم العسكري، الذي اضطر، تحت الضغط الخارجي، لتقديم بعض التنازلات، إلى أن اضطر المجلس العسكري، بقيادة “بينوشيه” إلى إجراء استفتاء (طالبت به المعارضة، مجتمعةً) لتجديد أو رفض حكم بينوشيه، وجرى الإستفتاء يوم الخامس من تشرين الأول/اكتوبر سنة 1989 (قُبيْل انهيار جدار برلين)، ورغم الضّغُوط وعمليات التّزْيِيف، رفَضَ 53,3% من الناخبين المُشاركين، استمرار الحكم العسكري، ولم يؤيد بينوشيه سوى 44,3% من الناخبين المُشاركين في عملية الإستفتاء، وجرت انتخابات رئاسية عاجلة، يوم 14 كانون الأول/ديسمبر 1989، (بعد حوالي شهر من انهيار جدار برلين)، فاز بها مرشح المعارضة زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي “باتريشيو أيلوين”، بنسبة 53,8% من أصوات الناخبين المُشاركين في التّصْويت، وذلك بعد انتهاء الحكم العسكري في الأرجنتين وفي البرازيل، وبقي “أوغستو بينوشيه” حُرّا حتى وقع اعتقاله في بريطانيا، وليس في تشيلي، في تشرين الأول/اكتوبر سنة 1998، بناء على مذكرة اتهام إسبانية، وليست تشيلِيّة، ووقع تعطيل إجراءات محاكمته سواء في بريطانيا أو إسبانيا أو في تشيلي، إلى أن مات حُرًّا طليقًا عن عمر ناهز 91 سنة، في كانون الأول/ديسمبر 2006…

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.