تونس، انتخابات “عبثية”؟ الطاهر المعز

أَظْهَرت نتائج الدّوْرَة الأولى من الإنتخابات الرئاسية ارتفاع عدد المُسجلين في القائمات الإنتخابية، بأكثر من 1,5 مليون شخص، من الراشدين الذين تحق لهم المشاركة (من إجمالي عدد سكان تونس الذي لا يصل إلى 11 مليون نسمة)، وانخفاض المشاركين في عملية التصويت، بنسبة 18%، مقارنة بالإنتخابات السابقة، قبل خمس سنوات، ووجب التّذكير بالدّور المحدود للرئيس الذي تقلّصت صلاحياته، في دستور 2014.

بلغ عدد المترشحين 26، لكن ضحالة مستوى النقاش، وغياب برامج أو أجوبة عن تساؤلات المواطنين، أو حلول لمشاغل المواطن الأجير والفقير والعاطل عن العمل، وهم أغلبية الشعب، أدّت إلى انخفاض عدد المشاركين في عملية اختيار الرئيس، ذي الصلاحيات المحدودة.

أظْهرت النتائج حصول الأول والثاني مُجْتَمِعَيْن (قيس سعَيِّد ونبيل القروي) على 34%، وسوف يتنافسان في الدّور الثاني، ولم يحصل العديد من المترشحين، ومن بينهم مرشّحا اليسار، على نسبة 1% من الأصوات المُصرّح بها…

حصل “قيس سعيد” على المرتبة الأولى، في الدّور الأول، بأقل من 19%، وهو مُدرّس القانون الدّستوري في الجامعة، استدعته وسائل الإعلام، بداية من سنة 2011، لتوضيح بعض المسائل المُتعلّقة بتأويل النّص الدّستوري، وأظْهرت أحاديثُهُ إنه محافظ جدًّا، ويدعو إلى تطبيق حُكْم الإعدام، ويعارض المساواة في الميراث، بذريعة وضوح الآية القرآنية (وللذكر حظ الأُنْثَيَيْن من الإرث)، ولكنه عارَضَ “قانون المُصالحة” (إعفاء الفاسدين واللصوص المُنْتَمِين للنظام السّابق من العقوبات، وإدماجهم في الحياة السياسية)، مما رفع من شعبيته لدى الشباب المتعلم، وكان من القلائل الذين يُذَكِّرون ببعض شعارات الإنتفاضة (الشعب يُريد…)، ولكنه لم يُقدّمْ أبدًا مشروعًا سياسيا متكاملا، حتى بعد ترشُّحِهِ للرئاسة، وأعلن أنه رفض الدّعم المالي، ولم يُنفِقْ كثيرًا خلال الحملة الإنتخابية، حيث اقترح تشكيل مجالس حكم محلية، وتعزيز تمثيل المواطنين، والحدّ من مركزية الحكم، وعلى مستوى الإقتصاد والسياسة الخارجية، اعلن أن القوى الخارجية تنهب ثروات تونس، وتُقسّم العرب، واجتذَبَ له هذا الخطاب (الذي لا يُكلف كثيرًا) قوميين عرب ويساريين سابقين، وشبّانًا سئموا الإئتلاف الحاكم منذ 2012 (الإخوان المسلمون والدّساترة ورجال الأعمال)، وأشارت شركة استطلاعات الرأي (سيغما للإستشارات) أن معظم من منحوه أصواتهم، من فئة الشباب المتعلّم…

لم يُقدّم هذا المُرشّح، ولا منافسه، أي برامج تنمية واستثمار في المناطق الفقيرة، أو لخلق وظائف، أو للحد من قيمة ونسبة الدّيُون من إجمالي الناتج المحلي، وغير ذلك من المشاغل التي أدّت إلى انطلاق الإنتفاضة، وكانت منطلقًا للنضالات الإجتماعية، بعد 2011…

ارتبط الفائز بالمرتبة الثانية (نبيل القروي) بنسبة تجاوزت بالكاد 15%، في الدور الأول، بنظام بن علي وبالفساد، وهو رأسمالي، يمتلك قناة تلفزيون، ساهمت في مَدْح الرئيس الأسبق “زين العابدين بن علي”، وشركات اتصالات وإشهار، ومُتّهم بارتكاب عدد من المخالفات، منذ سنوات، لكن القضاء الفاسد حَرّك هذه القضايا (الفساد والتهرب من الضرائب وغسيل الأموال مشبوهة المصْدَر…)، التي أثارتْها جمعية “أنا يَقِظ” (مقاومة الفساد، ودعم الشفافية، وفق ميثاقها)، قبل سَنَتَيْن من تاريخ الإنتخابات، وخاض الإنتخابات وهو في حالة اعتقال (قبل المُحاكمة)، مع شقيقه، وشريكه في الأعمال، وجَمّد القضاء حساباتهما المصرفية ومنعهما من السفر…

يدّعي هذا المُرشّح (نبيل القروي) “بُعْدَهُ عن القوى السياسية”، لكنه كان مواليًا لبن علي، ثم تولّى مسؤوليات داخل حزب الباجي قائد السبسي، قبل أن يحاول خدمة نفسه، بإنشاء جمعية خيرية، جمعت المال من الأثرياء (يقتطعون هذه الأموال من الضرائب على الدّخل، أو على أرباح الشركات)، لفترة سنَتَيْن، وروجت لها محطّتُهُ التلفزية، التي تُظْهِرُهُ يُوزع المساعدات على الفُقراء في مناطق نسِيَها رجال الحكم (الإخوان والدساترة) واليسار، ودعمته شركات الدعاية والإتصالات بنشر استطلاعات للرأي، جعلت منه “صديقًا للفُقراء”، ووعَد هذا الرأسمالي المُتّهم بالفساد، في برنامجه الإنتخابي ب”القضاء على الفقر والبطالة”، دون طرح آليات تمويل أو تنفيذ هذه الوُعود، وأسّسَ حزبًا يَضُمُّ العديد من رُموز نظام “بن علي”.

تشكلت الكتلة الرئيسية التي منحته أصواتها، في الدّور الأول، من الفُقراء، والأُمِّيِّين، وذوي المستوى التعليمي المنخفض، ومن الكهول والشيوخ، ومن النساء (ربما بسبب المسلسلات التركية التي تبثها قاته التلفزية، طوال اليوم)، بحسب شركة استطلاعات الرأي “سيغما للإستشارات”…

خاتمة:

لم يتنحَّ بن علي أو حسني مبارك، بواسطة الإنتخابات، بل بعد انتفاضتين شعبيتَيْن، وأظهرت تجربة تونس ومصر إن الإنتفاضتَيْن لم تُغيِّرا النّظام، رغم تَنَحِّي بعض الرّموز، وأن القوى الأكثر تنظيمًا استولت على السلطة، باسم “الثّورة”، وأعادت رموز الحكم السابق إلى الواجهة، وبقي الأثرياء يمتعون بالثروات التي جمعوها بِطُرُق مشبوهة…

لا حلَّ سوى بتنظيم الكادحين والفُقراء والمنتجين ليحكموا البلاد، بدون واسطة “إسلامية” أو “حداثية”، وبدل بث الأوهام وادّعاء تغيير منظومة الحكم، عبر انتخاب عشرة أو عشرين يساري مائع، يتخلون عن يساريتهم، بمجرد دخول قاعة البرلمان الفخمة والمكيفة، وجب البحث عن حلول لمشاكل البطالة والفَقْر ودراسة برامج التنمية التي تخلق الوظائف وتقضي على الفَقْر، والبحث عن طُرُق تمويل هذا البرامج، وتشكيل لجنة تبحث الدّيُون المُتراكمة، ومحاسبة من وَرّط البلاد ومواطنيها، في نهرِ من الدّيون، وفي حُروب إرهابية، بدعم امبريالي، في ليبيا وفي سوريا، وغيرها…

قد أُشارك في عملية التّصْويت عندما يتقدّم للإنتخابات حزب أو مجموعة، تطرح مثل هذا البرنامج، وتقترح مصادر تمويل برامج تنمية لا تُغْرِق البلاد وسكانها بالدّيون…   

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.