السعودية ومكانة النفط في تاريخها القصير، الطاهر المعز ​​

تقديم:

يُصَنّفُ استهداف منشآت النفط في السعودية، ضمن الحرب بأسلحة غير متكافئة، بين السعودية والإمارات، ومن ورائهما الولايات المتحدة، من جهة والمقاومة اليمنية وحلفائها من جهة أخرى، وإذا كانت السعودية تمتلك الطائرات والصواريخ والأسلحة المتطورة، فإن المقاومة اليمنية تمتلك الإيمان بعدالة قضيتها ضد العدوان، وتمتلك دعمًا (لكنه محدود) من حلفائها، وتشير غارة يوم السبت 14 أيلول/سبتمبر 2019 إلى هشاشة اقتصاد السعودية، وهشاشة شركة النفط “سعودي أرامكو”، رغم السلاح المتطور والمرتزقة والدعم الأوروبي والأمريكي، حيث اضطرت السعودية ، ثاني أكبر منتج عالمي، واحتياطي ضخم يُقدَّرُ بنحو 20% من احتياطي النفط العالمي، إلى خفض الإنتاج بقرابة ستة ملايين برميل يوميًّا، أو ما يُعادل 6% من المعروض العالمي، فيما ارتفع سعر النفط بنسبة 10%، اعتبارا من يوم الاثنين 16 أيلول/سبتمبر 2019، لِيُظْهِر هذا “الحادث” إن السعودية ليست مَصْدَرًا آمِنًا للطاقة، بإمكان الإقتصاد العالمي الإعتماد على نفطها عند الطوارئ…

لم تكن هذه الضربة لإحدى مؤسسات النفط، هي الأولى من نوعها، بل سَجّل التاريخ بعض العمليات الأخرى، وأهمها:

في 31 أيار/مايو 2004 ، دخلَ مُسلّحون “إسلاميون” حي المُغْتَرِبين (الأمريكيين والأوروبيين) رغم الحراسة المُشدّدة، واحتلوا الحي لفترة ستة وثلاثين ساعة ، وأطلقوا النار وقتلوا البعض، قبل أن يقع إنزال العشرات من عناصر “القوات الخاصة” بواسطة طائرات مروحية، لينفذوا عمليات القتل والتّمشيط…

في شباط/فبراير 2006، هاجم مُسلّحون المنشآت النفطية في “بقيق” (التي أُصيبت يوم 14/09/2019)، وفي سنة 2012، اخترق قراصنة نظام الشبكة الإلكترونية لشركة “آرامكو”…

دَوْر أرامكو في السعودية:

شركة “أرامكو” هي شركة أمريكية في الأصل (ولا تزال عَمَلِيًّا تحت الإشراف الإداري والفَنِّي الأمريكي)، بدأت العمل في السعودية، منذ اكتشاف النّفط، ونشطت خلال عقد ثلاثينيات القرن العشرين، وكان اسمها (Casoc )، اختصارًا لاسم ( California Arabian Standard Oil Company )، وكانت عبارة عن ثكنة استعمارية تتعامل مع غير الأوروبيين أو غَير الأمريكيين باستعلاء وبعنصرية واضحة، لا غبار عليها، واستغلال فاحش، مما أدّى إلى إضرابات عديدة نفّذَها العُمّال السعوديون والعرب، خلال عقد الخمسينات من القرن العشرين، ضد المعاملات العنصرية، والأجور المتدنية للغاية، وظروف العمل والسّكن السيئة، في حين كان الأوروبيون والأمريكيون يتمتعون بمستوى عيش باذخ، وتتحمل الشركة الإنفاق على الرحلات والعُطل التي يقضونها في بلادهم، بشكل دَوْرِي، وإثر هذه الإضرابات، تغيّر إسم الشركة إلى الشركة العربية الأمريكية للنفط (أرامكو)، وتم تأميم الشركة تدريجيا، لكن لا يزال المُهندسون والفَنِّيُّون الأجانب (الأمريكيون والأوروبيون) يعيشون في أحياء باذخة ومُغلَقَة، هي جُزء من أوروبا أو أمريكا الشمالية، وتشبه الأحياء الغنية في لوس أنجلوس أو مَعازل الأثرياء في “كوت دازور” (سواحل جنوب شرقي فرنسا)، ولا تزال إدارة الشركة وشؤونها الفنية تحت إشراف أمريكي، وهي شركة مُرْبِحَة، وزادت أرباحها تدريجياً، مع اكتشاف حقول جديدة، وزيادة الإنتاج، وارتفاع الأسعار، وخاصة بعد الطفرة النفطية عام 1973…

الحركة العمالية، ونضالات عمال النفط في السعودية:

عرف قطاع النفط السعودي سلسلة من الإحتجاجات، وبلغت أَوْجَها بين سنتَيْ 1952 و 1958، بعدما زادت أهمية النفط خلال الحرب العالمية الثانية، فالطائرات والدّبابات والأسلحة الثقيلة تتطلب كميات كبيرة من النفط، وتتطلب الحرب امتلاك احتياطي هام، تحسُّبًا لقطع الإمدادات، أو قصف المنشآت…

كثفت شركة النفط الأمريكية (التي أصبحت تُسمّى “أرامكو”) استغلال وإنتاج النفط، خلال أربعينيات القرن العشرين، وارتفع حجم النفط المُسْتَخْرَج من شرق السعودية، مما أدى إلى رفع أعداد العمال السعوديين، وخاصة من شباب المنطقة الشرقية التي توجد بها أهم حقول النفط (وهي المنطقة التي تعرضت للقصف، يوم 14/09/2019).

كانت نسبة الأمية مرتفعة في السعودية، وبين العمال الذين لا يجيدون القراءة والكتابة، ويستوجب العمل في قطاع النفط، حدًّا أدنى من التعليم، للسهر على حسن استخدام التجهيزات والمحافظة على سلامة المواقع، لتجنب احتراق المواد الخارجة من باطن الأرض، كالنفط والغاز، وبقية المواد الأخرى، واستوردت الشركة مُعلّمين من فلسطين وسوريا، لتعليم عُمّال الشركة، وكانوا يقضون أوقاتًا طويلة مع هؤلاء الشباب السعوديين الذي يجهلون ما يجري في الوطن العربي وفي فلسطين، في أوج صعود الإتجاهات القومية والإشتراكية، قبل انشار الصحف وأجهزة الراديو، وكانت ظروف العمل القاسية جزءًا من النقاشات بين المُدَرِّسِين العرب والشباب السعودي، فساعات العمل الطويلة، لا يقابله ارتفاع في الأُجُور، وكان الأجانب (الأمريكيون والأوروبيون) يسكنون أحياء فخمة، ومساكن مُكيفة، ويتمتعون بوسائل نقل عصرية، بينما كان العمال السعوديون، في ما سُمِّيَ “الحي السعودي”، يسكنون تحت الخيام، في مناطق قاحلة، تهُبّ فيها الرياح الرّملية، وتتكاثر الزواحف السّامّة، ولا تتوفر المواصلات، لنقل مريض أو عامل أُصيب في حادث شُغْل…

تظافر العامل الخارجي، ووضوح التناقض مع المهندين والفنيين الأجانب، ووجود عنصر عربي مُثَقّف، ومتأثر بحركات التحرر، وبمناهضة الإستعمار، بالتوازي مع ظروف العمل السّيِّئة، لتخلق ظروفًا مواتية لتَبَلْوُر الوعي لدى العُمّال الذي تمكنوا، بعد أول إضراب مَعرُوف لهم سنة 1945، من تحقيق بعض المكاسب الصغيرة، لكن إضراب سنة 1952، شكّل مواجهةً حقيقية، مُنظَّمَة، إذ اجتمع العُمّال في ثلاث مواقع لإنتاج النفط ( الظّهْران وبقيق ورأس تنورة) وانتخبوا من بينهم أعضاء “اللجنة العُمّالية” السّبْعة، وتمكنت اللجنة من تنظيم صفوف العُمّال والتخاطب باسمهم مع من يُمثل أُسْرَة آل سعود، ومع شركة “آرامكو”، التي كان يُمثّلُها مُوظّفُون أمريكيون، كانوا على وعْي (أكثر من آل سعود) بخطورة تنظيم العُمّال بهذا الشكل، وحرّضُوا السلطات على اعتقال بعض أعضاء اللجنة والناشطين (12 معتقلا)، ولم يكن رد فعل العمال سريعًا، ولكنه كان مَدْرُوسًا، حيث أضْرَبَ حوالي عشرين ألف عامل، بداية من يوم السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1953، فتوقّف العمل، حتى الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 1953، واضطرت الشركة (وآل سعود) للإستجابة لبعض مطالب العُمال، وأهمها الإفراج عن العُمّال المُعتَقَلِين، وتوفير وسائل النّقل، وزيادة الرواتب بنِسَبٍ تتراوح بين 12% و 20%، وتوفير الغذاء للعمال، ولكن الحكومة والشركة رَفَضَتا مطلب “الحق في التّنْظيم النقابي”، بل أصدر الملك أمرًا بمنع الإضرابات والمُظاهرات، وعاد هذا المطلب بقُوّة خلال المُظاهرة التي نظمها العُمّال وسكان المنطقة الشرقية (حيث حقول إنتاج النفط) بمناسبة زيادة الملك سعُود إلى الظهران في التاسع من  تموز/يوليو سنة 1956، وقدّم العُمال عريضة تتضمّن عددًا من المطالب، وفي مقدّمتها إلغاء أمر مَلَكِي يمنع الإضرابات والتّظاهر، وإقرار حق التنظيم النقابي، كما تتضمن العريضة مطالب ذات صبغة سياسية، ومن بينها: إقرار دستور للبلاد، يضمن حرية العمل السياسي والنقابي، وحظر تَدَخل الشركة الأمريكية “أرامكو” في شؤون البلاد، وإغلاق القاعدة العسكرية الأميركية في “الظهران”، وقابلت السّلطات هذه الحركة بقمع شديد، واعتقال وقتل القيادات وأبرز الأعضاء النّشطين، وكانت تلك الحركة، آخر الإحتجاجات الكُبرى المنظمة، رغم بعض الإضرابات والإحتجاجات بين سنتي 1956 و 1970 (منها إضراب احتجاجي ضد الساعات الإضافية الإجبارية في إحدى المقاولات)، والتي تزامنت مع تكثيف حركة القمع والإعتقالات والإغتيالات، وتواجدت تنظيمات سرية تعكس في تركيبتها مجمل الصراعات بين التيارات السياسية في الوطن العربي، ولكن شدّة القمع، أجبرت العديد على مغادرة السعودية، ثم ساهم ارتفاع عائدات النفط في إرشاء شرائح واسعة من الرّعِيّة، وتوسيع القاعدة الإجتماعية للأُسْرة المالكة (آل سعود)، بالتوازي مع استبدال العاملين السعوديين بعمال فُقراء عرب، ثم بعمال آسيويين، لا تكلمون اللغة العربية، ولا يمكنهم الإختلاط بأهل البلاد، ويمكن طردهم بسهولة، بسبب نظام “الكفالة”، المعمول به في الخليج، وفي لبنان…

تشكلت اللجنة من عبدالعزيز السنيد، رئيس، وصالح الزيد، عبدالرحمن البهيجان، عمر وزنه، عبدالعزيز صفيان، عبدالله الغانم، وإبراهيم فرج، وانتهجت اللجنة العمل الأُفُقِي، أي بمساهمة عريضة من العُمّال، عكس العمل العَامُودي، البيروقراطي، وكان من بين أعضاء اللجنة العمالية، مناضلون شيوعيون، مثل عبد العزيز السُنيّد (رئيس اللجنة)، وعبدالرحمن البهيجان، وصالح سعد الزيد، ورفضت الشركة عودتهم للعمل بعد العفو الملكي، وبعد إطلاق سراحهم من سجن “الإحساء”، سيء الصيت، تحت ضغط العُمّال المُضربين، ثم أبعدتهم السلطات السعودية فيما بعد إلى لبنان، كما ساهم “عبد الله هاشم” في نشاط اللجنة العمالية، وساهم “ناصر السعيد” في تنظيم صفوف العمال، منذ أربعينات القرن العشرين، وسُجن أيضًا في تم “سجن العبيد” بالأحساء، وكان من بين مُنظّمِي المُظاهرة الإحتجاجية في مدينة “رحيمة”، ضد قرار تقسيم فلسطين، ومن أجل مَنْع بريطانيا وأمريكا من استغلال النفط السّعودي، واضطر إلى الهرب من السعودية، إثر صُدُور حكم بالإعدام ضدّه، إلى اليمن ثم إلى مصر، وفي “بيروت”، عاصمة لبنان، اختطفه ثلاثة أشخاص (قيل بمساعدةٍ من قيادات حركة “فتح”)، عندما كان خارجًا من مقر صحيفة “السّفير”، يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 1979، واختفى أَثَرُهُ منذ حوالي أربعة عُقُود، وبقي التاريخ يذكُرُ له مساهمته في احتجاجات ومظاهرات وإضرابات عمال شركة “آرامكو” السعوديون، وانتفاضة عُمّال الظّهران، بين 1952 و 1958، ومساهمته في تأسيس “اللجنة العمالية…

عواقب استهداف مواقع النفط، يوم 14/09/2019:

أكّدَ الرئيس التنفيذي لمجموعة “توتال” (ذات المَنْشَأ الفرنسي) إن لهذه العملية مخلفات سيئة جدًّا، وأعلنت السلطات السعودية تأجيل خصخصة 5% من أسهم الشركة (ما يُسمّى “طَرْح” الأسهم في الأسواق المالية)، فيما حاولت أُسْرة آل سعود وحكومتها التخفيف من التبعات، لأن للسعودية “مخزون كبير من النفط، في عدد من البلدان”، وخصوصًا في آسيا، وأعلنت الإستعانة بهذا المخزون الاحتياطي، لتعويض النقص في المعروض، وروجت أرامكو إن الإنتاج سيعود إلى طاقته الكاملة في غضون أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، فيما يُشكك البعض في واقعية هذا التأكيد، ويزعمون إن المدة قد تستغرق أَشْهُرًا وليس أسابيع، وأعلن رئيس الولايات المتحدة إن أمريكا قادرة على تعويض النقص، إن حَصل نقصٌ في المعْرُوض، ولم يشأ مدير أرامكو التصريح بحجم الأضرار، قائلاً “ما زلنا بصدد حصر وتقييم تكلفة الأضرار… وسوف يتم الطرح الأوّلي لأسهم أرامكو في البورصة، خلال الأشهر الـ12 المقبلة، بحسب وضع السوق”، بحسب ما وَرَدَ في موقع “هافنغتون بوست” الأمريكية، ويورد تقرير هذه الصحيفة احتمال “بداية النهاية للسعودية”…

للمراجعة: نشر موقع “ما العمل” سلسلة من ثلاث مقالات بحثية، بنهاية سنة 2014، بعنوان: “الحركات العمالية وجماعات المعارضة في السعودية 1950 – 1975 ” كما نَشَر “على العوامي” بعض ذكريات اللجنة العمالية وأهم قادتها.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.