هل يمكن للرأسمالية إصلاح نفسها، وإن فعلتْ فلِأَيِّ غرض؟ (2)، الطاهر المعز

ذكرنا في مقال سابق أن “جوزيف ستيغليتز” يدعو إلى ما يُسمِّيه “رأسمالية تقدّمية”، لتهدئة الغضب الإجتماعي الناتج عن تعميق الفجوة الطّبقية، واتّساع الهوة بين الأثرياء والفُقراء، ويتلخّصُ مفهوم “الرأسمالية التّقدّمية” في ضرورة “إصلاح الرأسمالية”، لإنقاذها من نتائج أخطائها، ويتم الإنقاذ عبر تقاسم الأدوار بين السُّوق والدّولة، أو ما يَصِفُه “جوزيف ستيغليتز” ب”التفاعل بين القوة الديمقراطية والأسواق”، لتهدئة الغضب الاجتماعي، وللتذكير فإن “ستيغليتز” حائز على “جائزة مصرف السويد”، المُسمّاة اعتباطًا “جائزة نوبل للإقتصاد”، سنة 2001، وهو نائب سابق لرئيس البنك العالمي، ومستشار اقتصادي سابق لدى الرئيس “بيل كلينتون”، وتخصَّصَ بالتفكير في حالة الرأسمالية المعاصرة وأدائها وتجاوزاتها، ومحاولة “إصلاح أخطائها”، لأنها لا يعتبر الرأسمالية مُنتِجًا للتفاوت الطبقي، الناتج عن الإستغلال، وعن احتكار الثروات، ولا يعتبر التفاوت الطبقي واتساع الهوة من طبيعة الرأسمالية، بل يعتبرها “تجاوزات” يجب إصلاحها، عبر مزيد من تدخّل الدّولة، وتوزيع بعض الفتات على العُمال والمُنْتِجِين والفُقراء، لتلافي ارتفاع حدة الغضب، ولتلافي الإنفجار الذي قد يُؤَدِّي إلى تقويض أُسُس الرأسمالية…

يمتلك “ستيغليتز” قُدْرَةً هائلة على ملاحظة مظاهر فشل الرأسمالية، في نسختها الليبرالية المُفْرِطة، ولكنه لا يعتبر ذلك، من كُنْه الرأسمالية، ومن طبيعتها، بل يطرح بعض التّصْحيحات، لتفادي حدة التوترات الإجتماعية، التي قد تُؤدّي إلى الإنفجار، خصوصًا في الولايات المتحدة، حيث يعتبر “تَطَرُّف دونالد ترامب خطرًا على أُسُس الأمة الأمريكية”، التي سيطرت على العالم الرأسمالي طيلة عُقُود، و”أثرت تأثيرًا إيجابيا في الإقتصاد الرأسمالي العالمي، وأعطته زخمًا هائلا”، ولكن الإقتصاد الأمريكي أُصِيبَ بالتّباطُؤ، وأصبح “غير مُنْتِج”، ويعتمد على رأس المال الأجنبي، وزادت حدة الفوارق الإجتماعية، ولكن الرأسمالية في حد ذاتها “مُنَزّهَة”، وإنما يكمن “الخَطأ في خيارات السياسة الاقتصادية النيوليبرالية، التي شَوّهت طبيعة الرأسمالية طيلة أربعة عقود”، ويعني ب”الخيارات”، طريقة تنظيم الإقتصاد (أي إنها قضية “شكل” وليست قضية “مَضْمُون”)، التي جعلت الأسواق تصبح في خدمة مصالح أقلية من الأثرياء، وهو بنظره ما يُولِّدُ الإحتكار، بدل ما يُسميها “المنافسة النّزيهة” (وكأنه شيء جديد أو طارئ، وليس متأصّل)، مما أدى إلى مأزق خطير، يُهدّدُ بنَسْف “نظامنا السياسي الديمقراطي الأمريكي”، خصوصًا بعد أزمة سنة 2008، في الولايات المتحدة وفي الإتحاد الأوروبي، ويعتقد “ستيغليتز” إن الحل يكمن في العودة إلى “المنافسة النزيهة” أو “المنافسة الحقيقية”، التي ينسب لها محاسن لا تتوفر فيها، مثل “النمو الذي يُنْتِجُ التقدّم ويؤدّي إلى تحقيق العدالة”، وبذلك تكون الرأسمالية (في نَظَرِهِ) في خدمة “المصلحة العامة”، وهو تناقض صارخ، حيث تتناقض المصلحة العامة، وتحقيق العدالة، مع المبادئ الأساسية للرأسمالية المَبْنِيّة على الإستغلال، وعلى تحقيق فائض القيمة من إنتاج العاملين، لتحصل عملية تراكم رأس المال والثّروات…

يدّعي “جوزيف ستيغليتز” وجود “رأسمالية تقدّمية”، حيث تلعب الدّولة دور “الحَكَم”، وهي نظرة مثالية، دافع عنها “”فريدريك هيغل” (1770 – 1831)، وفنّدها “كارل ماركس” و “فريدريك إنغلس”، لأن الدّولة تُمثّل مصالح طبقة، أو ائتلاف طَبَقِي، وتخضع لميزان القوى، ولحسابات استراتيجية، ولا تحمي الأُجَراء والفُقراء، وإنما تضطرُّ لإقرار الحماية الاجتماعية، وإقرار الحوافز، عندما ترتفع وتيرة النضالات العُمالية، وتُقر الدولة زيادة الرواتب والحقوق الإجتماعية، لتجنّب تحويل الغضب إلى ثورة، تقضي على سُلْطَة رأس المالن الذي لا يُمكن وصفه ب”التّقدّمي”، لأن الإستغلال وتحقيق الأرباح، كامن في طبيعة رأس المال، وتتغير حدة ووتيرة الإستغلال، بتغيير حدّة ووتيرة نضالات العُمال والأُجَراء، من أجل بعض الإصلاحات، كالرواتب اللائقة ومعاشات التقاعد والحماية الإجتماعية والصّحّيّة، وغيرها، وهي نضالات قد تتحول إلى ثورة ضد رأس المال، لذلك تُلبِّي البرجوازية (كطَبَقَة اجتماعية) بعض المطالب، وتحاول التّراجع عنها عند أول فرصة أو لحظة ضُعْف الطبقة العاملة…

يلخّص “جوزيف ستيغليتز”، في نهاية الكتاب، نظريته، ويُعرب عن “ضرورة قُبُول الرأسمالية بعضَ القُيُود، لإنقاذها من أخطائها”، التي تفاقمت بحسب رأيه، خصوصًا منذ 2010، مع تفاقم أزمة الدّيْن العام، والأزمة الاجتماعية، وتدنِّي مستوى عيش ملايين العاملين الفُقراء…


المُقتطفات من كتاب ” الشعب والسلطة والأرباح” – الرأسمالية في عصر الغضب الاجتماعي
تأليف “جوزيف ستيغليتز” -النسخة الفرنسية – أيلول 2019 – الناشر: دار ليبر ليبرتيه ليبرتس

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.