اليسار ونماذجه الاقتصادية، جبريل محمد*

حتّى الآن لا نجد ما يميز اليسار الفلسطيني على الصعيد الاجتماعي الاقتصادي عن غيره من التيارات السياسية، سواءً الدينية أو العلمانية الوطنية في هذا المجال، سوى لغة الخطاب والشعار، فيما الممارسة غير مختلفة أبدًا، وهي ممارسات قائمة على تقديم الهبات والأعطيات قَدْر الإمكانات للفقراء والمحتاجين، أو الانسجام مع الخطاب الاقتصادي الاجتماعي الليبرالي والنيوليبرالي، الذي عممته أيديولوجيا المنظمات غير الحكومية المرتهنة للتمويل الأجنبي، المرتهن أصلًا لسياسات الاحتكارات الرأسمالية الكبرى التي يمثلها واقعيًا صندوق النقد الدولي، وينفذها عمليًا البنك الدولي، فيما باقي ما يسمى بمنظمات غير حكومية، سواءً كانت مانحة أو ممنوحة، لا تعدو سوى أطراف بعيدة من المركز، ومتعاقدة من الباطن، مباشرة أو غير مباشرة مع المركز الدولي للاحتكارات، حتّى التمويل ال قطر ي والسعودي والإماراتي مرتهن بذلك أيضًا، ولذلك ما يجري ليس تنمية وإنّما إعادة توزيع لفتات الريع على الأطراف؛ لتمييع أي شكل من أشكال الصراع الطبقي الجذري والحقيقي، الذي يمكن أنْ يشطب أيديولوجيا النيوليبرالية، الذي عزز الشرذمة والهويات الفرعية.

في حالتنا الفلسطينية، وإلى حدٍ كبير العربية أيضًا، تمَّ تدمير أي توجه إنتاجي أو ثقافة إنتاجية في وعي الفقراء، وبدل التعاون حلّ مفهوم الريادة، وبدل خطة إحلال البدائل أو استراتيجية الاحتياجات الأساسية حلّت لغة التوجه التصديري، وبدل الزراعة والصناعة حلّ اقتصاد المول الخدماتي الريعي، ووكيل إعادة تدوير الريع في المنطقة دون إحداث أي تراكم حقيقي في رأس المال، يمكن الاعتماد عليه في تقوية النسيج المجتمعي. إنَّ ثقافة المول والكوفي شوب وصرعة قطاع الخدمات تغزو وعي الشباب العربي والفلسطيني، باعتبارها عملية تسويق ما بعد حداثية للنظام الرأسمالي المعولم، على قاعدة القناعة والرضا بالدور والحجم المُعطى للمحيط.

هنا أخفق اليسار الفلسطيني والعربي بشكل عام، بعدم تقديم أنموذجه الاقتصادي الاجتماعي مجسدًا على الأرض لا مجرد مواعظ ووعود متخيلة وغير ملموسة، رغم أنّه يمتلك من الفرص

الكثير، ومن الإمكانات البشرية أكثر وقابلة للتوسع، لكنه لم يخرج من دائرة ما حددت له مؤسسات التمويل الدولية من دور.

فبدل أنْ يقدم اليسار أنموذجه التعاوني على الصعيدين الإنتاجي والاستهلاكي ذاب كغيره في اقتصاد المول، ليدخل في غيبوبة أو اغتراب عن فكرته وهدفه، باتت الطبقة الوسطى أسيرة ما حدده لها النظام العالمي اقتصاديًا في البلدان المتخلفة، كطبقة مستهلكة تعتاش على الريع، تسحرها الياقة البيضاء ومظاهر الاستهلاك الأخرى، وباتت الوظيفة والراتب الشهري دينها وديدنها.

اليسار يقدم خدمات للجمهور بوصفها منّةً تمامًا كما يقدمها اليمين دينيًا كان أم علمانيًا؛ خدمات اليمين أدسم من خدمات اليسار، لذا يذهب الفقراء إلى اليمين، وكل ما يأتي من اليسار هو مكسب أيضًا، على قاعدة (ما جاء منهم أحسن منهم)، هكذا بلغت الصفاقة في الوعي حد سحق الكرامة الإنسانية للفقراء، واليسار ليس بريئًا من ذلك.

اليسار ليس بريئًا من جهة أُولى؛ لأنّه لم يقل هأنذا نهج متمايز في الممارسة الاقتصادية الاجتماعية لا في الشعار المفعم بالجمل الثورية، أي أنّه لم يقدم أنموذجه، فيما كانت الفرصة متاحة أمامه ولا زالت.

ومن جهة ثانية؛ أنَّه لم يقدم خطابًا حقوقيًا حقيقيًا حول حق الفقراء في الثروة الاجتماعية، وتنظيمهم للمطالبة بحقوقهم لا الاعتماد على ورشات المنظمات غير الحكومية، التي وعبر ربع قرن من نشاطها لم تفعل سوى تفريغ اليسار من محتواه الثوري، وخصي كثير من كوادره التي استطاب لها العيش في ظل رواتب جيدة، وظروف سفر، ومكانات اجتماعية زادت من طبقة الشحم على أجسادهم ورهلتهم.

اليسار لم يستطع الربط الجدلي بين التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي الاقتصادي، لم يقرأ واقعه بمنظار لا ماركس ولا لينين ، ولا ماو ولا هوشي منّه، قرأه جملًا عامة،​​ لم يستطع أنْ يوطنها، أنْ يخلق خاصّه الاقتصادي الاجتماعي، وبالتالي خسر اليسار جمهوره، في ظل ثقافة المنح والأعطيات، لا ثقافة العمل والإنتاج، وتنظيم الاستهلاك، وبناء النماذج التعاونية التي تشكل إحدى علامات الاستقطاب الشعبي لفكر العدالة الاجتماعية والاشتراكية من جهة، وعلامة أخرى باتجاه الاعتماد على الذات في تمويل نشاطاته الحزبية المختلفة بدل الارتهان لتمويل شحيح من منظمة يتحكم بها مزاج فرد واحد.

هذه مهمة أمام اليساريين الحقيقيين في استعادة هويتهم، الفكرية والسياسية، وفي تجربة مهام جديدة تُغني تجاربهم السابقة، وفي تعليم الجماهير والتعلم منها فنون إدارة الصراع؛ فاليسار اليوم يركن إلى قاعدة بائسة هي (ليس بالإمكان أبدع مما كان)، وهذا مقتل للفكر الثوري وروح الثوار المسكونة بالتجديد والانطلاق إلى آفاق أرحب.

إنَّ مسألة الدمج بين الوطني التحرري والتقدمي الاجتماعي لا ينعكس فقط على توفير الكفاية الذاتية لمهمات النضال الوطني التحرري فقط، إنّما ينعكس أيضًا على الثقافة والقيم التي تتولد نتيجة الانخراط في مثل هذه المهمات، حيث تنتهي ظواهر تخلفية اجتماعية كثيرة، أولها:

الفردانية، وثانيها: كل منظومة القيم التقليدية القائمة على تهميش وتحجيب المرأة في كل المجالات، أو تشويه وعي الشباب بتقديس الإنجاز الفردي وغيره من القيم التي أسس لها نظام المنح والأعطيات، وهذا يحتاج إلى حزب جماهيري حقيقي، وليس إلى نخبة تنحت المصطلحات غير المفهومة، هنا يستطيع المنتجون من خلال الممارسة أنْ ينحتوا مصطلحاتهم الخاصة من تجاربهم، وأنْ تكون لهم قسمات المناضل الحقيقي لا المتفرغين لِلَغو في كل المقاهي.

  • كاتب وباحث في مركز بيسان للبحوث والإنماء

 عن “مركز بيسان للبحوث والإنماء” تشرين الأول/اكتوبر 2019 

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.