بعد الحرب التجارية، شن الرئيس الأمريكي “حرب العُملات”، وسبق أن وَجّهَ، عدّة مرات، اتهاما للصين بالتلاعب بعملتها، لتحفيز الصادرات الصينية، معتبرًا إن الصّين تمارس “منافسة غير نزيهة” في المبادلات التجارية، كما وجّهَ نفس التهمة للإتحاد الأوروبي، وصرّح إن “الصين وأوروبا تتلاعبان بعملتيهما، بضخ غير مشروع للأموال لمنافسة الولايات المتحدة”، وطلب من الإحتياطي الإتحادي (المصرف المركزي الأمريكي) خفض قيمة الدولار، لتتمكن الصادرات الأميركية من المنافسة في الأسواق الخارجية، ولمواجهة “بعض الدول التي تتدخل في سوق الصرف وتتلاعب بأسعار العملات”، ويُبَرِّرُ دونالد ترامب ارتفاع العجز التجاري الأمريكي (الذي بلغ 621 مليار دولارا سنة 2018)، ب”الدّولار القوي”، الذي يُعيق تصدير السّلع والخدمات الأمريكية، ويعرقل الإنتاج…
لازَمتْ أطرافٌ أخرى في الإدارة الأمريكية، الهُدُوء، وتمسّكت بخطاب عقلاني (وفق ما تسمح به الإيديولوجيا الرأسمالية الليبرالية)، في مقابل خطاب “دونالد ترامب” الموصوف ب”الشعبوي” (وهو تلطيف لعبارة “فاشِي”)، والذي يعتمد التّهْيِيج، ولَيْ ذراع الحقائق، خدمة لأهداف إيديولوجية مُغْرِقَة في اليَمِينِيّة، وأعلن وزير الخزانة الأمريكي، وبعض المستشارين الإقتصاديين في الإدارة الأمريكية، عدم التدخل في سعر صرف العملة، أي عدم خَفْضِ سعر الدّولار، وعدم القيام بنفس الأمر الذي ينتقده الرئيس “ترامب”، ويُسمِّيه “تلاعُبًا بسعر العملة”، واقترح عدد من هؤلاء “تطبيق ضوابط رأس المال”، لأن “الدولار القوي مُفيد لاقتصاد الولايات المتحدة على المدى الطويل”، واعترف بعضهم أن “قوة الدولار مكتسبة من ضعف اقتصاد الدول الأخرى”، ولم تكن بسبب قوة أو ضُعف العملة الأمريكية التي تُهيمن على النظام المصرفي وعلى المبادلات التجارية في العالم، ولذا، وَرَدَ في تقرير لمصرف “جي بي مورغان”، أن خفض المصرف المركزي الأميركي معدلات الفائدة “لن يعزز اقتصاد الولايات المتحدة”…
بعيدًا عن أسلوب الدّعاية الإيديولوجية لدونالد ترامب، تشير توقعات صندوق النقد الدولي، إلى احتمال حدوث بعض الركود في الإقتصاد الأمريكي خلال سنة 2020، وسوف “ينخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة خلال العامين المقبلين… مع احتمال قوي لحدوث ركود بحلول العام 2021…” بسبب مشاكل هيكلية في الإقتصاد الأمريكي، ومن بينها ارتفاع الدَّيْن الحكومي الأمريكي الذي يتجاوز 22 تريليون دولار، وزيادة تكاليف خدمة الدّيْن، وبسبب ارتفاع عجز الميزانية إلى نحو تريليون دولار، بالإضافة إلى تفاقم الحرب التجارية مع الصين”، بفعل قرار أمريكي، وليس صيني… وأصدرت وكالة “بلومبيرغ”، تقريرًا أشار “أن خفض قيمة العملة الأميركية قد يُخفّفُ الضغط َعن بعض الأسواق الناشئة، مثل تركيا أو الأرجنتين التي عليها سداد ديونها الضخمة بالدولار”، فإذا ضعفت قيمة الدولار، خَفّتْ ديونها بعض الشّيء، لكن الدولار الضعيف يشكل حافزا للمستثمرين الأميركيين للاستثمار في الشركات الأوروبية…
لا توجد في الوقت الحالي عملة قادرة على مواجهة الدّولار، أو تعويضه في الأسواق العالمية، وفي المبادلات التجارية والتّحويلات المصرفية، بحكم هيمنة الولايات المتحدة على النظام الرأسمالي العالمي، منذ عُقُود، وما قد يُقوّض هيمنة الدّولار، وإِنْ بشكل بطيء، وطويل المدى، هو تَراجُعُ حصّته من حجم الاحتياطيات لدى المصارف المركزية، بنسبة 2% خلال عشر سنوات، وقد يتزايد الإنخفاض، بالتزامن مع اتجاه الاقتصاد الأميركي نحو الركود، وبسبب “بعض التحديات التي يواجهها الإقتصاد الأمريكي، على المدى الطويل، ومن بينها انخفاض نسبة النمو…”، بحسب “بنك أوف أمريكا”، وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى انخفاض حصة الدولار في الاحتياطيات العالمية، مقابل ارتفاع حصة الين الياباني واليورو الأوروبي واليوان الصيني، رغم ارتفاع الطلب على الأصول المقومة بالدّولار، بعد تدهور ظروف التجارة العالمية، وتصعيد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، خلال سنة 2019، ولا يزال الدولار، رغم انخفض حصته، يشكل 61% من الإحتياطي العالمي، بينما لا تتجاوز حصة جميع العملات الأخرى 39% من إجمالي الإحتياطيات، بنهاية الربع الثاني (30 حزيران/يونيو) من سنة 2019، بحسب صندوق النقد الدولي، وتعود أسباب تراجع حصة الدّولار إلى عدة أسباب، ومن بينها ارتفاع العجز التجاري الأمريكي إلى مستوى قياسي، وتراجُع الثقة في الإقتصاد الأمريكي، وفي الدّولار، واتجاه عدد من الدول، ومن بينها روسيا والصين، إلى خفض حيازتها من سندات الخزانة الأميركية، وخفض احتياطي الدّولار، لتعويضه بالذّهب، بالإضافة إلى أسباب اقتصادية أخرى، ومن بينها ما يتعلق بتباطؤا الإقتصاد العالمي بوتيرة لم يشهدها منذ الأزمة المالية العالمية سنة 2008، بحسب صندوق النقد الدولي، الذي خفض توقعاته لنمو الإقتصاد العالمي للسنة الحالية (2019)، والسنة القادمة (2020)، بسبب “تصعيد الحرب التجارية، وارتفاع الرسوم الجمركية على المبادلات التجارية، وبسبب التوترات الجيوسياسية”، وهي عوامل زادت من حالة عدم اليقين، ودفعت الشركات إلى تعليق الاستثمارات، بالإضافة إلى تباطؤ اقتصاد البرازيل والهند والمكسيك وروسيا وجنوب أفريقيا، سنة 2019، ما أثر في اقتصاد أوروبا والصين…
في الوطن العربي، يعتبر النفط أهم سلعة تُصدّرها الدول الأكثر ثراءً، ويُعتبر النفط أيضا أهمَّ سلعة أوليّة يقع تداولها في العالم، بقيمة 14 تريليون دولارا، سنويا، لكن 99% من قيمة هذه التداولات مُقَوَّمَة بالدّولار الأمريكي، وتحاول روسيا، أحد أكبر مُصدّري النفط في العالم، بَيْعَ النفط بعملات أخرى، غير الدّولار، وأعلن وزير الاقتصاد الروسي، في مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية (الأحد 13/10/2019) إن شركات النفط والغاز الروسية بدأت تبحث عن بدائل للدولار الأميركي في مدفوعات الطاقة مع الخارج، للحدّ من الحاجة إلى الدولار الأميركي، وصدّرت شركة “غازبروم” كميات من الغاز بقيمة 51 مليار دولار إلى أوروبا سنة 2018، بينما صدّرت شركة “روسنفت” 123,7 مليون طن من النفط، ووضعت روسيا خطة لخفض حجم التعامل بالدولار، وإصدار أدوات دَيْن بالعملة المحلية (روبل) والعملة الأوروبية (يورو)، فيما تخلصت الحكومة الروسية من سندات كانت في حدود 112 مليار دولار ضمن الاحتياطي الأجنبي وتحويلها إلى الذهب، كما تسعى الصين منذ شهر تشرين الأول/اكتوبر 2016 إلى الاستفادة من اعتماد صندوق النقد الدولي، عملتها المحلية (يوان) ضمن سلة العملات العالمية، وأطلقت الصين، سنة 2018 عقود النفط الآجلة مقومة بعملتها المحلية (اليوان)، بغرض خفض سيطرة الدولار، وسبق أن طلبت حكومة العراق، أثناء فترة الحصار، من 1991 إلى 2003 (تاريخ الإحتلال)، من الأمم المتحدة، أن تقبض ثمن صادراتها من النفط في إطار “النفط مقابل الغذاء”، باليورو، بدل الدولار، ومع ذلك تحالفت أوروبا (باستثناء فرنسا، في مرحلة أولى قصيرة) مع أمريكا، لاحتلال العراق، سنة 2003، وتحاول روسيا اتخاذ خطوات احتياطية، ومن بينها الخروج من النظام المالي العالمي مثل شبكة “سويفت”، وعملت على تطوير شبكتها الخاصة للتسديد، في محاولة لتفادِي عقوبات اقتصادية، تُؤَدِّي إلى حَظْر استخدام الدّولار، من قِبَل الشركات والمؤسسات الروسية، وتحاول التعامل مع شُركائها باليورو أو بالذّهب، بَدَلَ الدّولار، وتمكّنت الحكومة الروسية من تحويل سندات بقيمة 112 مليار دولار ضمن الاحتياطي الأجنبي ، إلى الذهب، وفي العالم، ارتفع حجم احتياطي الذهب في المصارف المركزية بمقدار طُنّ واحد من الذهب في أربعة مصارف مركزية خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2019، بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي، وتجاوز احتياطي الذهب للمصرف المركزي الروسي 100 مليار دولارا، في أيلول/سبتمبر 2019، وزادت روسيا احتياطياتها من الذهب بنحو 120 طنا، فيما اشترت الصين 5,9 طن أخرى في الأشهر التسعة الأولى من سنة 2019، وخزنت المصارف المركزية في العالم سنة 2018، نحو 651,5 طنًّا من الذهب، بحسب مجلس الذهب العالمي الذي أعلن أن سنة 2018 تميزت بأعلى مستوى من صافي المشتريات السنوية للذهب من قبل المصارف المركزية…
خاتمة:
تُعتبر مجمل تصريحات دونالد ترامب، في كافة الميادين تقريبًا، تبسيطية، شبيهة بالدعاية الفاشية الهادفة إلى تهييج المشاعر الشعبية، عبر إبعادها عن تحليل الحقائق والوقائع المادية، وخلق أعداء وهميين، لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، كالمهاجرين والفُقراء من السود ومن الأجانب، وعلى الصعيد العالمي، يهاجم كافة الحكومات تقريبًا، ليجعل منها شماعةً للأزمة الهيكلية للرأسمالية في الولايات المتحدة… اعتَبَرت دراسة بحثية نشرتها مجلة “فورين أفيرز” في تشرين الأول/اكتوبر 2019، “أن النظام الليبرالي العالمي الذي ساد بقيادة أميركا لن يستعاد بعد رحيل ترمب، لأن الشروط التي دعمت الهيمنة الأمريكية على العالم، قد تغيّرت، بصعود قوى أخرى، منافسة، بالإضافة إلى الشرخ الداخلي الذي عمّق الإنقسامات داخل المجتمع الأمريكي…
أدّت هذه الظروف إلى صعود روسيا والصين، بالإضافة إلى تنامي عدد من القوى الإقليمية، مثل إيران، التي لها طموحاتها، أو تركيا التي، رغم انتمائها لحلف شمال الأطلسي، تطمح إلى الهيمنة على الوطن العربي، وجزء من آسيا الغربية والوسطى، وشرق المتوسط، وتطمح إلى استقلال قرارها، لتحقيق أهدافها الخاصة، كقوة هيمنة، تُعيد أمجاد الدولة العُثْمانية…
في الدول العربية المُصدّرة للنفط، يُهيمن الدّولار على معاملاتها الخارجية، خصوصًا منذ 1973، في أوج القصف ضد الشعب الفيتنامي، رغم المفاوضات، حيث نجحت الولايات المتحدة في فَرْضِ تسعير النفط بالدولار، بالتوازي مع تَخَلِّيها عن الذهب كمعيار للتقييم، لذلك تُساهم الدول العربية المُصدّرة للنفط، وعلى رأسها السعودية، في إنقاذ الإقتصاد الأمريكي، وفي دعم الهيمنة الأمريكية، ودعم الكيان الصهيوني…
البيانات والأرقام من تقرير صندوق النقد الدّولي بعنوان “آفاق الاقتصاد العالمي 2019” + صحيفة “فاينانشال تايمز + رويترز + بلومبرغ + ترجمة تقارير أهم المصارف، وتمتد فترة نشر التقارير من آذار/مارس إلى 15 تشرين الأول 2019
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.