احتجاجات أمريكا الجنوبية – نموذج تشيلي، وأوجُه الشبه مع الإنتفاضات العربية
تشهد عدة بلدان من أمريكا الجنوبية احتجاجات ضد حكومات اليمين المدعوم من الإمبريالية الأمريكية ومن صندوق النقد الدولي، في البرازيل والأرجنتين وإكوادور وكولومبيا، وبيرو وتشيلي… ونتطرق في هذه الفقرات إلى الوضع في تشيلي، حيث تُقدّر ثروة الرئيس اليميني (رجل أعمال) بنحو 2,7 مليار دولار، وقد يجد بعض المُهتمّين بعض أوجه الشّبه مع ما يحدث عندنا في الأردن وفي العراق وفي لبنان، خلال نفس الفترة…
تزامن إعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال، مع عودة الخطاب اليميني المتطرف، الذي سَاد البلاد، خلال فترة الحكم العسكري، وشكَّل انتشار الجيش ومُعدّاته العسكرية في شوارع العاصمة “سنتياغو” استفزازًا للمواطنين، لأنه يُذَكِّرُهم بانقلاب 11 أيلول/سبتمبر 1973 (بدعم من الولايات المتحدة)، ضد رئيس منتخَب ديمقراطيًّا، وما تلاه من قمع رهيب، واغتيالات واختطاف واعتقال وسُجون وتشريد لعشرات الآلاف الذي لجأوا إلى الخارج…
تشهد تشيلي انتفاضة بحجم غير مسبوق، خاصة يوميْ 17 و 18 تشرين الأول/اكتوبر 2019، وانطلقت احتجاجًا على قرار رفع سعر التنقل في القطار الحَضَرِي (مترو) والحافلات في العاصمة “سنتياغو”، في السادس من تشرين الأول/اكتوبر 2019، وهو الإرتفاع الثاني منذ بداية سنة 2019، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، مما أدى إلى صدامات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين، واستخدمت الشرطة خراطيم المياه المضغوطة، والقنابل المسيلة للدموع، وألقت القبض على ما لا يقل عن 133 متظاهر، خلال يوم واحد في العاصمة “سنتياغو”، بحسب بلاغ الشرطة، وهاجم المتظاهرون مقرات بعض الشركات والمتاجر الكبرى والمصارف، فأعلن الرئيس اليميني “سيباستيان بينيرا” (ممثل البرجوازية الكبيرة) حالة الطوارئ، ونَشْر قوات الجيش في الشوارع والساحات، وإغلاق جميع محطات قطار النقل الحَضَرِي في العاصمة، وعددها 164 محطّة، تمتد على طول 140 كيلومترأ، ويستخدمها حوالي ثلاثة ملايين مسافر يوميّا، وهدّد الرئيس باللجوء إلى القوانين الإستثنائية (قانون أمن الدولة) الذي يسمح بسجن المتظاهرين والمُضربين لمدة تصل إلى عشر سنوات…
تحدّى المواطنون إعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال، واعتبروا انتشار الجيش في الشوارع والساحات (لأول مرة منذ 1990) بمثابة الإستفزاز الذي يعيد إلى أذهان المواطنين مناخ انقلاب الجيش، بقيادة الجنرال بينوشيه، بدعم من الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي والشركات متعددة الجنسية، ضد الرئيس “سلفادور أليندي”، في 11/09/1973، وتواصلت المظاهرات بكثافة، وبدأت شعارات المتظاهرين تستهدف نظام الحكم ككل، بسبب ارتفاع حدة الفوارق الطبقية، خلال فترة حكم الرئيس اليميني “سيباستيان بينيرا”، وشعر النظام بخطورة الوضع، رغم دعم الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي، لأن المظاهرات انتشرت بسرعة في مختلف أقاليم ومدن البلاد الأخرى، وفي الأرياف، وشملت فئات اجتماعية عديدة، ولأن المتظاهرين لا ينتمون لتيار مُعيّن، بل هم جُموع من المواطنات والمواطنين الذين ضاقوا ذَرْعًا بصعوبات الحياة اليومية، ومن الطلاب الذين يعانون من غلاء تكاليف الدراسة، حيث أصبحت الدراسة في جامعات تشيلي من ضمن الأغلى في العالم، والتحقت الأحزاب التقدمية ونقابات الأُجراء بالمتظاهرين، بعد انطلاقها بيوم أو يومَيْن، لتتحول المظاهرات إلى تمرُّد شامل في البلاد، يرفع شعارات مناهضة للنظام الرأسمالي الليبرالي، ويطالب بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية، وكان طلاب المدارس والمدرسون يحتجون منذ سنوات ضد ظروف العيش وظروف الدّراسة، وكذلك بعض الفئات الأخرى، منفردة، وانطلقت مظاهرات ضد غلاء الأسعار سنة 2018 أيضًا، لكنها لم تكن واسعة وشاملة، مثل احتجاجات تشرين الأول/اكتوبر 2019…
ينحدر اليمين الحاكم حاليا في تشيلي، من أنصار الدكتاتورية العسكرية التي حكمت البلاد خلال أكثر من 17 سنة، ولما اتسعت رقعة الإحتجاجات ضد الحكم العسكري وزعيمه “أوغوستو بينوشيه”، أعلن زُعماء هذا اليمين، الذي تدعمه الكنيسة والولايات المتحدة، بداية من سنة 1988، أنهم “ديمقراطيون محافظون”، وكان بعض الوزراء الحاليين من المُعارضين آنذاك لعزْل الجنرال “بينوشيه”، خلال الإستفتاء الذي فرضتْه الحركة الجماهيرية، وضد العودة إلى نظام ديمقراطي برلماني، ومن بينهم شقيق الرئيس “بينيرا” (سيناتور في مجلس الشيوخ، وبرجوازي مثل أخيه) وعلى غرار ما حصل في إسبانيا، تقاسم اليمين والوسط وبعض اليسار الإنتهازي، السُّلْطَةَ، وتَنْعَتُ جميع هذه التيارات نفسَها ب”الإعتدال”، فَعَدَلَ اليسارُ عن الثّورِيّة، وعدلَ اليمينُ عن الفاشية المفضوحة، واتفق الجميع على تجاهل الجرائم والإعدامات والإختطافات والإعتقالات التعسُّفِيّة، خلال فترة الدكتاتورية العسكرية، ولا يزال دستور 1980، الذي أقرّه الحُكْم العسكري، بقيادة “أوغوستو بينوشيه” ساريَ المفعول…
تمثل حالة الطوارئ واستخدام الجيش لقمع الحركة المطلَبِيّة الإجتماعية، تراجعًا عن “الوفاق”، وعن المسرحية التي جعلت المواطنين يُشاركون في عملية ما سُمِّيَ “التّحوُّل الديمقراطي”، وانتكاسة لوعود اليمين بالعُدُول عن الحلول الفاشية، وعن استخدام الجيش لقمع الشعب الغاضب، وأَعَادَ الخطابُ الرّسميُّ، إنتاجَ ما كان يُردّدُهُ النظام العسكري من تجريمٍ للنضالات الإجتماعية، بذريعة “ضرورة الفَرْز بين المواطنين الشرَفاء ومُثِيرِي الشّغب”، وهو خطاب تقليدي استخدمه النظام البرجوازي الحاكم في إيطاليا، وفي فرنسا (ضد انتفاضة الشباب في ضواحي المُدُن سنة 2005)، وفي الولايات المتحدة لفرز البرجوازية الصغيرة، وإبعادها عن الفُقراء من المواطنين السّود، واستُخْدِمَ هذا التّكتيك في بلدان أخرى غيرها، بهدف التقسيم، ومنع تأسيس تحالف طبقي شعبي وتقدّمي، وبهدف خَلْقِ تناقُضات وخُصُومات داخلية بين الفئات التي لها مصلحة في الإتحاد وفي التغيير، لكن هذا الخطاب الإيديولوجي اليميني، لم يكن ناجعًا هذه المَرّة في “تشيلي”، بسبب توسّع رُقْعَة المُتَضَرِّرِين من السياسة الإقتصادية لليمين البرجوازي الحاكم، حيث انخفض مستوى معيشة الفُقراء والعُمال والفئات الوسطى، والمُزارعين الذي عانوا من فترة جفاف قاسية (نعود إلى الحديث عن الجفاف في آخر هذا النّص)، ورفضت الحكومة دَعْمَهُم أو تخفيف معاناتهم، كما ارتفعت مشاركة النساء ومجموعات السكان الأصليين (مابوتشي)، الذين صادَرت الدولة أراضيهم، وترفض الإعتراف بحقوقهم، وتعاملت الحكومة وأجهزة الدولة مع الإنتفاضة كما تتعامل مع حالات “الكوارث” الطارئة، فَتنشر الجيش وتمنع حركة السكان، لكنها اضطرت إلى التراجُعِ عن زيادة أسعار النقل العمومي (القطار والحافلات) في محاولة لامتصاص الغضب الذي انتشر بسرعة في أرجاء البلاد، خلال 24 ساعة، وتجاوزت المطالب أسعار النقل إلى مُعارضة قرارات خصخصة قطاعات الصحة والتعليم والكهرباء والمياه، وانخفاض مستوى المعاشات التقاعدية، والإنفاق الإجتماعي، وأصبح المتظاهرون يطالبون بتوزيع أفضل للثروة، في البلد الذي يتمتع بأعلى ناتج محلي إجمالي، بحساب حصة الفرد، وبأعلى نسبة نمو متوقَّعَة في أمريكا الجنوبية، مما يعني توسّع التحالف الطّبَقِي المعارض للحكومة، وتحولت الشعارات، بسرعة، من مُعارضة ارتفاع أسعار خدمات النقل، إلى نقد الليبرالية الإقتصادية، ومعارضة النّظام برمّته، وإلى المطالبة باحترام كرامة الإنسان، في غياب هياكل تنسيق بين المتظاهرين في مختلف المُدُن والمناطق، وحاولت بعض المواقع الإلكترونية حَصْر أهم الشعارات، ويُعتبر القاسم المشترك بينها، المطالبة بالقضاء على الظلم الاجتماعي، وعلى الفساد والمحسوبية، وضد تدمير البيئة والمُحيط، كما تضمنت الشعارات مطلب الشُّغْل الثابت أو المُسْتَقِر، والتنديد بالاستغلال الاقتصادي، ومطالب تمكين المواطنين من الصحة والتعليم والتأمين الإجتماعي، ويتقاسم المواطنون من الفئات الشعبية والمتوسطة في تشيلي نفس هذه الهموم مع المواطنين في الأرجنتين والبرازيل وإكوادور وكولومبيا، وبيرو وغيرها من البلدان التي انقَضّ فيها اليمين على الحكم وحاول تَقْوِيض ما حصل عليه المواطنون والأُجراء من المكاسب، خلال حكم “اليسار” (رغم “اعتداله” الشديد)، الذي انهار خلال حدوث أزمات داخلية، بدفع من قوى خارجية، وكذلك لأنه لم يعتمد على جماهير الشعب، ولم يتركها تُشارك في تصميم واتخاذ القرار وتنفيذه وتقويمه…
أعلنت السلطات إلقاء القبض على نحو 1500 شخص، في عموم البلاد، حتى يوم 20 تشرين الأول/اكتوبر 2019، فيما قَدّرت منظمات حقوق الإنسان عدد المعتقلين بأكثر من أَلْفَيْن، إضافة إلى قتل أكثر من عشرة، وجَرح حوالي 650 من المتظاهرين، بحسب مصادر طبية، غير رسمية، وهي ليست حصيلة نهائية، وتعرّض المعتقلون إلى التعذيب من قِبَل الشرطة العسكرية التي نددت العديد من المنظمات الحقوقية المحلية والعالمية، بأساليبها الوحشية…
في الريف، دعمت الحكومة كبار المزارعين الذي يُوجّهون إنتاجهم للتصدير، في حين تعرّضَ صغارُ المزارعين إلى جفاف تاريخي، استثنائي، منذ منتصف الشتاء، وخصوصًا منذ شهر حزيران 2019، وفرضت الحكومة قُيُودًا صارمة على استخدام مياه الري، ولكن هذا القرار لم يكن ساريا في المزارع الكُبْرى، التي لم تنخفض حصتها من المياه، وأدى هذا القرار غير العادل إلى فقدان المئات من صغار المزارعين محاصيلهم، والمُربّين والرُّعاة مواشيهم، بسبب الجوع والعطش، خلافا للمزارعين الذين يملكون مزارع ضخمة، وتُمكنهم الدولة من تحويل المياه، لِرَيّ مزارعهم، المُعدّ إنتاجُها للتصدير، والتحق هؤلاء المزارعون الفُقراء وسكانُ الأرياف بالمظاهرات، منذ اليوم الثاني، فتوسّعت رقعة التحالف الطبقي المناهض للحكومة، من العُمال والأُجراء وصغار المُزارعين، إلى الفئات ذات الدّخل المتوسط، والشباب والنساء والطلبة والسكان الأصليين…
تميزت انتفاضة شعب تشيلي بنوع من الوضوح السياسي، لأنها انتقلت بسرعة من مطلب إلغاء الزيادة في سعر النّقل الحَضَرِي، إلى نقد سياسة الحكومة والنظام برُمّتِهِ، وأطلقَ هذه الإحتجاجاتِ الجيلُ الذي وُلد أو عاش بعد انهيار الدكتاتورية العسكرية، لكن هذه الإنتفاضة، مثل الإنتفاضات العربية أو احتجاجات فئات اجتماعية عديدة في أوروبا، لا تستطيع تغيير النظام، لأن النظام بطبيعته يمتلك أجهزة قمع، تقتُلُ وتَجْرحُ وتعتقل وتَسْجن باسم القانون (وأدواته كالشرطة والقضاء)، وعندما تفتقد الإنتفاضة (في أي مكان) لبرنامج وقيادة وأهداف محدّدة وواضحة، لا يمكنها التحوّل إلى ثورة مُظَفّرة، وقادرة على الإمساك بزمام السّلطة مباشرة، أي بدون وساطة القوى والأحزاب “المُعتَدِلَة” التي لا تُمثل مصالحها، أو همومَها الطبقية… وهو ما حَصَل في تونس وفي مصر، حيث انتفض الشعب، بدون قيادة ولا برنامج، وانقَضَّ الإخوان المسلمون على الحكم، بعد أن أصدروا أمرًا لمناضليهم بعدم المشاركة في انتفاضة “الرّعاع”، وتقاسموا الحُكْم مع الدّساترة، الذين انتفض الشعب ضد قياداتهم وبرامجهم وحُكْمِهِم، ثم اخترع الجميع لُعبة “التّحول الديمقراطي”، وشاركوا فيها، وجعلوا منها الحل أو المَنْفَذ الوحيد …
يرجى مراجعة مقالات أخرى عن أمريكا الجنوبية، وآخرها بعنوان “أمريكا الجنوبية، رأسمالية القرن الواحد والعشرين” الطاهر المعز 20/10/2019
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.