اشترط البنك العالمي على حكومات الدول الفقيرة التي طلبت قُرُوضَا، في بداية سبعينات القرن العشرين، إنتاج المحاصيل الزراعية المُوجّهة للتصدير، وتصنيع الملابس والمنسوجات المُعدّة للتصدير أيضًا، وإقرار قوانين وإجراءات جاذبة للإستثمارات الأجنبية، ومن بينها الإعفاءات الجمركية والضريبية والرواتب المنخفضة وإضعاف النقابات العُمّالية، وغير ذلك من الشّروط التي تندرج في إطار التخصّص والتبادل غير المتكافئ بين الدول وبين مختلف مناطق العالم، لتتخصص الدول الواقعة تحت الهيمنة في تزويد الدّول الإستعمارية والمُصَنَّعَة ببعض الإنتاج الزراعي (البُن والشاي والسّكّر والكاكاو والقطن والمطاط…)، والمواد الأولية التي تحتاجها الصناعات في أوروبا وأمريكا الشمالية والدول المُصنّعة (المعادن والمحروقات الخام)، وبذلك أصبح اقتصاد دول “الجنوب” تابعًا ومرتبطًا باحتياجات دول “الشّمال”، ومُرْتَهِنًا بالتالي لتقلبات أسعار المواد الأولية، في أسواق عواصم الدول الإستعمارية، وبالتوازي مع ذلك ارتفعت دُيُون البلدان الفقيرة، وفَرَض صندوق النقد الدولي والبنك العالمي برامج وخطط “الإصلاح الهيكلي”، الذي استهدَفَ إلغاء الحواجز الجمركية وإلغاء حماية الإنتاج المحلي، وإلغاء كافة أشكال الدعم، ويُؤدّي تطبيق هذه “التوصيات” (وهي في الواقع أوامر) إلى تقويض الأمن الغذائي، وتدمير الزراعة التقليدية، لتوسيع رقعة الأراضي التي تملكها الشركات وكبار الفلاحين، وتخصيص الأراضي الخصبة والتربة والمياه لزراعة إنتاج مُعدّ للتّصدير، بأسعار رخيصة، ما أدّى إلى تدمير حياة الملايين من المُزارعين في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا، مقابل استيراد المواد الإستهلاكية الأساسية، مثل الحبوب، من الدول الغنية التي تَدْعم الُمزارعين، في حين يشترط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي على البلدان الفقيرة إلغاء دعم المنتجات الغذائية، مثل الخبز والأرز والحليب والسكر، والخدمات الأساسية مثل النقل والسكن والتعليم والصحة، لتتعمّق الهُوّة بين الدول الرأسمالية المتطورة، التي تشتري المواد الرخيصة، وتُصدّر المنتجات الزراعية أو المُصنَّعَة، مرتفعة الثمن، والدول الفقيرة، التي باتت تُصدّر المواد الرخيصة، بحسب الطّلب، وتستورد الغذاء والمواد المُصنّعة، وأدى ذلك إلى تدمير الزراعة، وهي النشاط الرئيسي للسّكّان، وتدمير الوظائف، مع الإنقراض التدريجي للفلاحين، وللإنتاج الزراعي التقليدي، الذي كان يُغذّي السّكّان المحليين في بلدان “الجنوب”، ولم تعد هذه البلدان تُنتج، بل تستورد الغذاء الرديء والمُلَوّث بالمبيدات، والذي تدعمه حكومات الولايات المتحدة وأوروبا…
تقويض الأمن الغذائي:
تتضمّن شُرُوط صندوق النقد والبنك العالمي حماية مصالح الشركات الأجنبية وبيع القطاع العام للقطاع الخاص، تحت عنوان “تعزيز البيئة المواتية للأعمال وللإستثمار”، بالتوازي مع خفض الإنفاق الحكومي، ما يؤدّي إلى تردّي وضع القطاع الصحي وقطاع التعليم، وإلغاء دعم المواد والخدمات الأساسية، ويؤكد البنك العالمي في تقريره السنوي، بشأن ممارسة أنشطة الأعمال (منذ سنة 2002)، على إلغاء الشروط القانونية (التي يعتبرها البنك وصندوق النقد “عراقيل”) للإستثمار، عبر خفض الضريبة على أرباح الشركات، وتيسير عملية تسريح العُمّال، وخفض حصّة مساهمة الشركات في ميزانيات التأمين الإجتماعي، وزيادة عدد ساعات العمل وخفض الرواتب وغير ذلك من الشروط، ومنذ 2013، تشترط المؤسستان (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي) تيسير استثمار الشركات الأجنبية في قطاع الفلاحة، وإلغاء القوانين التي تمنع بيع الأراضي الزراعية للشركات الأجنبية، بعد تَبَنِّي مشروع تعاونت مجموعة الثماني (التي أصبحت سبعة دول، بعد إبعاد روسيا) مع مؤسسة “بيل وميليندا غيتس” لتقديمه، ثم فَرْضِهِ على حكومات دول “الجنوب”، ويتضمن “إلغاء الحواجز القانونية لتتمكن الشركات من الإستثمار في الزراعية، في مجالات عديدة (12 مجالا)، من بينها البذور المعدّلة وراثيا والأسمدة والآلات والتجهيزات الفلاحية، وتجارة المواد والآلات والإنتاج الفلاحي، وغير ذلك، ويشترط البنك العالمي على الدّول المُقْتَرِضِة “إلغاء القُيُود القانونية والتنظيمية وتيسير تَمَلّك الشركات الخاصة للأراضي الزراعية، وتحرير استيراد الأسمدة الكيماوية وإنتاج وتسويق البذور الصناعية…”، بحسب ما ورد في تقرير البنك العالمي لسنة 2013 بعنوان ( Enabling the Business of Agriculture – EBA )، وتوسّع البنك، في تحليل هذه الشُّروط، في تقريره السنوي لسنة 2017، ودعا البنك العالمي جميع الدول إلى حماية الملكية الخاصة، و”منع التّعدّي على الأراضي”، وورد في إحدى فقرات التقرير أن خُبراء البنك العالمي ومُستشاريه، مُستاءون من استخدام أراضي المجموعات (الأراضي الجماعية للسكان الأصليين في أمريكا الجنوبية وأراضي القبائل والعشائر في بعض الدول الأخرى) من قِبَل الفلاحين ومربي المواشي والرُّعاة، ويشترط البنك العالمي إلغاء هذا الشكل من الملكية، ومصادرة الأراضي من قبل الدولة (لكي يقتصر دور الدولة على القمع وخدمة الشركات الخاصة العالمية)، بما أن أصحابها لا يمتلكون وثائق قانونية لملكية الأرض، لتبيعها الدولة (بعد مُصادرتها) بأسعار رمزية للشركات متعددة الجنسية، فتقيم عليها مصانع تُشغّل الفلاحين المطرودين من أرضهم، كعمالة رخيصة، وهو ما حصل خلال السنتيْن الأخيرتَيْن في الحبشة وأدّى إلى طرد أكثر من 300 ألف نسمة من أرضهم في ضواحي العاصمة “أديس أبابا”، وأقيمت على هذه الأراضي منطقة صناعية ضخمة، يُعامل فيها العُمّال كالعبيد… كما كشفت الأبحاث التي أجريت في الفترة من 2009 إلى 2013 في تنزانيا، على سبيل المثال، أن محاولة إثبات حقوق ملكية الأراضي أدت إلى “زيادة الصراع، وزيادة الفقر وعدم المساواة، واستبعاد النساء والرعاة من حقوق الملكية، وإلى ارتفاع عدد الفلاحين المحرومين من الأرض”، أما حكومة مدغشقر فباعت أو أجّرت (لمدة تصل إلى 99 سنة) للشركات متعددة الجنسية، نصف مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في البلاد، وتستهدف هذه الإجراءات السماح للحكومات بتسهيل بيع وتأجير الأراضي، بما فيها الغابات والمَحْمِيّات والحدائق العامة، لأغراض تجارية، وعبر مزادات علنية، لتتحول الأرض من وسيلة عَيْش للفلاحين الفُقراء وأداة للإكتفاء الذاتي الغذائي، إلى “أُصُول مالية”، وملك للشركات متعددة الجنسيات، التي تهدف زيادة الإنتاجية الزراعية، عبر زيادة مساحة المزارع، واستخدام الآلات والأسمدة الكيماوية والمبيدات الضّارة بصحة الإنسان وبالمُحيط، كبديل “عَصْرِي” و”مُتَطَوِّر” للمزارع العائلية الصغيرة التي تستخدم البُذُور المحلّية التقليدية، والأسمدة العُضوية، والتي لا تزال تُمكن نصف سكان الأرض من الحصول على غذاء سليم ورخيص الثمن…
أشرفت منظمة الأغذية والزراعة على دراسة، ساهم في إعدادها أكثر من أربعمائة عالم وخبير من مختلف الإختصاصات، عن الزراعات الكبرى التي تستخدم الآلات والمُبيدات والبذور المُصنّعة (عكس الطبيعية)، واستنتجت الدراسة أن لهذه الزراعات نتائج سلبية عديدة، فهي تتطلب استثمارات مرتفعة وتجهيزات آلية، لزيادة الإنتاج، وإنتاجية الهكتار الواحد، وتمكنت الدراسة من إبْراز الآثار السلبية العديدة الناتجة عن هذه “الزراعات الصناعية” والأضرار التي تلحقها بالأمن الغذائي للدول ولسكان الأرياف في العالم، وتوصي الدراسة بتشجيع الزراعة العضوية أو الإيكولوجية، لكن ما وزْنُ منظمة الأغذية والزراعة أو منظمة الصحة العالمية، مقابل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومؤتمر دافوس؟ لا شيء…
خاتمة:
إن ما أوردناه مُستمدّ مباشرة من الوثائق المنشورة والتي يمكن الإطلاع عليها في موقع البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، من سنة 2002 إلى 2019، ولم نتوقف عند التفاصيل العديدة التي تُظْهِر دور مؤسسات “بريتن وودز” (وكذلك ما سُمِّيَ “وفاق واشنطن” – حزيران 1989) في خدمة الدول الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات، وسبق أن أوردنا في مقالات سابقة دور شركات مثل “نيستليه”، ذات المنشأ السويسري، أو “فيوليا”، ذات المنشأ الفرنسي، في الإستحواذ على الأراضي والموارد الطبيعية في أرياف العالم، وفي المدن أيضًا (خصخصة المياه)، ويعتبر تخريب قطاع الزراعة، من أهم عوامل تفجير الإنتفاضات في مصر والمغرب وتونس وفي بلدان إفريقية وآسيوية عديدة، لأن هذه البرامج تفرض تَحَوُّلاً عنيفًا وسلبِيًّا على المجتمعات التقليدية التي تعيش على الكًفاف، وتُمارس نوعًا من التضامن والتّكافل، ويتسبب دخول رأس المال العالمي، منذ فترة الإستعمار المُباشر (العسكري) في تخريب أُسُس عيش هذه المجتمعات التقليدية، التي لم يختلف تطور نمط الإنتاج فيها عن التطور التاريخي للمجتمعات في أوروبا، من الإقطاع إلى الثورة الصناعية (العنيفة أيضًا) وتحويل الفلاحين إلى عُمّال، وَشَكَّلَ دخول الإستعمار (كمرحلة من مراحل تطوّر الرأسمالية) تخريبًا وتعطيلاً للتطور الطبيعي (أو قطيعة تعسُّفية مع التاريخ) لهذه المجتمعات في الوطن العربي وفي آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، ولا يختلف عُنف تطبيق شُروط البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي عن عنف الجيوش الإستعمارية الغازية، التي فَرَضت استيلاء المُستعمِرِين الأوروبيين على أراضي الشعوب المُسْتَعْمَرة، خلال القُرون الماضية، وما دور الصندوق والبنك سوى استكمال مراحل الإستعمار الجديد، أو الإستعمار بدون جيوش، أو الإستعمار الإقتصادي، الذي لا يستبعد تدخل الجيوش، عندما تقتضيه مصالح الشركات العابرة للقارات، أو المخطّطات الإستراتيجية للدول الإمبريالية…
ليس من باب الصدفة أن تنطلق انتفاضة 1983/1984 وانتفاضة 2010/2011 في تونس من مناطق داخلية (بعيدة عن السواحل) كانت تعيش على الزراعة، وليس غريبًا أن تقود مجموعات السكان الأصليين، في أمريكا الجنوبية، النضالات ضد الشركات متعددة الجنسية، ومن بينها شركات النفط، وكذلك الشأن في بلد مكتظ بالسكان مثل الهند، وما يمكن استنتاجه أن مسألة السيطرة على الأرض مرتبطة بالأمن الغذائي، وبتأمين الإستقلال الإقتصادي، ولذا فإن حل المسألة الزراعية والإكتفاء الذاتي الغذائي، جزء لا يتجزأ من أي برنامج “ثوري” للتغيير في المجتمعات الواقعة تحت هيمنة الإمبريالية.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.