لإحياء مفهوم جديد ل”حرب التحرير الوطنية”، نقولا طعمة

مضى قرن كامل من الزمن، ولم يمضِ عقد واحد فيه من دون حروب في لبنان، ومنطقتنا منذ وضع الاستعمار البريطاني-الفرنسي اتفاقية سايكس-بيكو 1916، وبموجبها قسم المنطقة الواحدة أجزاءً، وصنع لها دولا متعاظمة النفور فيما بينها، وخلق بينها الإشكاليات التي سميت قومية أو وطنية، نجمت عن وهم التمايز، والاختلاف الذي روج له نتيجة للاتفاقية. أما بالنسبة للبنان الذي تنطبق عليه الحالة عينها، لكن بتفاقم أكبر، فهو تأسس كيانا ١٩٤٣ بعد نضوج فكرة التقسيم الأولى في مشروع سايكس-بيكو، والغاية الأولى والأهم: لعب دور محدد كمنصة استهداف للعالم المحيط به، أي أجزاء أمته المُفَتتة.

علاوة على الحروب والتطورات التي سادت المنطقة، ولبنان في معمعتها، برز الكيان الصهيوني، ولا حاجة للحديث عن أي اضطراب تاريخي أحدثه ذلك، ثم تكر سبحة الأحداث في لبنان، وتتالى، حيث شهد البلد أولى تجارب انهيار الدولة في العام ١٩٥٨، في الحركة التي أسميت ب”الثورة”. غابت السلطة عن غالبية الأراضي اللبنانية، وشارك اللبنانيون في الصراع والصراع المضاد.

وتتتالى الأحداث، الانقلاب الذي نفذه الحزب السوري القومي الاجتماعي ضد فؤاد شهاب ١٩٦٤، نكسة حزيران ١٩٦٧، تصاعد المقاومة الفلسطينية انطلاقا من لبنان، وتوقيع اتفاقية القاهرة ١٩٦٨ في ظل انقسام لبناني هيأ للحرب الأهلية التي اندلعت ١٩٧٥، وبين التاريخين العديد من التوترات الأمنية والسياسية.

بين ١٩٧٥، و٢٠١٨، ثمة ٤٣ عاما، ولبنان في حرب أهلية مباشرة، أم بالوكالة، دون هوادة ولا توقف، والجرح نازف، والحبل على الجرار، ومن البديهي أن يتآكل كل شيء في البلد، بدءا من القيم، والقوانين، وانتظام الحياة العامة بعناصرها المختلفة، وصولا إلى المؤسسات العامة للدولة.

لذلك، ليس غرابة أن تكثر شكوى الناس، وتتزايد باطراد مما تعاني من انهيار سلطة، وعجزٍ، وتراجعٍ، وتردٍ في الأوضاع العامة، وازدياد في صعوبات الحياة… فلبنان، وكل لبناني، ولد في الحرب، وعاش في الحرب، وتستمر حياته في الحروب، ومن البديهي أن تكبر المآسي، وتتفاقم، وتتمادى بما لم تشبهه تجربة أخرى في العالم.

يتغنى كثيرون من اللبنانيين بفرادة التجربة اللبنانية، وغناها، وتنوع فئات المجتمع، والمناخ الجميل، والطبيعة الخلابة، والبحر والجبل المتلاصقان، والحرية، وإلى ما هنالك من ميزات أخرى كثيرة، وهي عناوين لا يختلف اثنان حولها، ولا تحتاج لبرهان رغم ما تحمله من إشكاليات. لكن المأساة الكبرى تكمن في اختيار واحدة من أجمل بقع الأرض لتتشكل فيها جدلية الحروب الداخلية، والحروب ضد الآخرين. 

لا نعرف شعوبا أجيالها ولدت في الحرب، وعاشت في الحرب، ومات من مات منها، في الحرب.

لكن بالمقارنة مع حالة الحروب الدائمة التي عاشها لبنان والمنطقة، نعمت الدول التي أسست حالة الصراع في الشرق، أي الغرب بكل تجلياته، بسلام، وهدوء، وكانت حروبهم عندنا، وفي أنحاء أخرى من العالم، شرطا للسلام عندهم، وكذلك لبنائهم، وتطورهم، وتقدم تقنياتهم وعلومهم. وفي الشرق، تتحارب الدول بمبررات شتى ليتمكن الغرب من تكريس سيطرته، والحصول على ثرواته، وهي شروط أساسية إن لتنمية أوضاعه الذاتية على صعد بناء الدولة، وتطوير المؤسسات، أم على صعيد تطوير العلوم الوضعية، والتقنيات المختلفة.

منذ آخر حرب خاضها الغرب على أرضه لسبعين سنة خلت، أي بعد الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٥، خرج مدمرا متهالكا، في افتراسه لبعضه البعض، لكن في لحظات الأهوال الكبيرة التي لم يشهد التاريخ سابقة لها على يد مدعيي الحضارة الحديثة، وفي أجواء الدمار الهائل الذي قضى على عواصم ومدن كاملة، منها باريس وبرلين وموسكو ومدن أوروبية أخرى كثيرة، ومنها هيروشيما وناغازاكي في لحظات، لم يكن أمام الغرب إلا أن يختار نهاية ما: الموت المحتم، أو التوقف عن الرعونة الأعظم في التاريخ. توقفت الحرب، ومضى الغرب لبناء نفسه، لكن على أنقاض ما أسسه من انقسامات، وتناقضات، وحروب في دول العالم الأخرى، خصوصا في منطقة الشرق العربي.

تحضيرا لبناء ذاته، وبسط سيطرته، أدخل الغرب العالم في حروب لا متناهية. عاش سكان المنطقة في ظل الامبراطورية العثمانية لفترة زادت على الأربعماية سنة، حياة عادية، من الطبيعي أن لا تخلو من بعض صراعات جانبية بين والٍ وآخر، أو فئة أو أخرى في أطر ضيقة، لكن المنطقة كانت تعيش بأمان. غير انه مع صعود الغرب بدوله وأنظمتها المختلفة، حاملا معه نمو اقتصاده الرأسمالي الكبير، ونهمه للمزيد، وتطور آلته العسكرية، ونزعاته المتوحشة المدمرة، وانتصاره في الحروب العالمية، وزوال خصومه، احتل الحيز الأكبر من السيطرة على العالم، واتخذ لنفسه حق لعب الدور الأكبر في مصيرها، وراح يخلق الفتن، ويصنع التحالفات، ويحرض فئات على فئات، ودول على دول، فأدخل عالمنا في حروب وسمت مرحلة سيطرته المستمرة، بينما تنعم بلاده في سلام.

في ظل هذه الحروب والتوترات والصراعات، عاش الغرب بهدوء، فنما اقتصاده، وتأمنت لسكانه الضمانات الحياتية والاجتماعية، من خلال النمو الذي قام على حساب شعوب العالم ومجتمعاتها.

باختصار، دمر الغرب العالم ليعيش، والمعادلة مستمرة ومتواصلة. حاربنا، مباشرة أم مداورة وبالوكالة، لنتدمر فيحيا. معادلة مستمرة، ندفع ثمنا لها، نحن أبناء جيل القرن العشرين وما بعد، في لبنان والعديد من دول العالم، الغالي من حياتنا. نموت ليحيا، نتصارع ليعيش، نفنى ليستمر. والحبل على الجرار.

من هنا أسباب ازدياد شكوى الناس من أوضاعهم، أننا نعيش الحرب بلا هوادة منذ قرن من الزمن، وبدلا من الانصراف لتنمية قدراتنا، أوغلنا في استنزاف أنفسنا، وطاقاتنا بفضل قدرته الجبارة على السيطرة، والتلاعب بالعالم، وبفضل النمو الكبير الذي حققه منذ بلوغ الثورة الصناعية مستوى رفيعا من التقدم.

قد يقول قائل، لكن المسؤولية مسؤوليتنا، والحق علينا أننا لم نعِ ما نحن فيه لنتلافيه. بالمنطق العام، هذا صحيح، لكن بمنطق التاريخ، فهو خاطيء، ففي كل مرحلة من المراحل، ثمة قوى كبيرة تسيطر، ويصبح العالم خاضعا لمعاييرها، وممارساتها. القوة بيد الغرب، والقدرة على تحديد المصائر بيده، والباقون ضعفاء، ملحقون، وفي ظروف محددة من النضج، قد تنتفض هذ الشعوب، لتحقق استقلالا ما، اعتدنا على تسميته “حرب التحرير الوطنية”، وهذا ما أنجزته ثورات القرن العشرين من روسيا إلى الصين، ففيتنام، فكوبا..

اليوم، شعار “حرب التحرير الوطنية” التي كانت ملهم حلم أبناء جيل القرن العشرين، بات مثار استهزاء حتى لدى أصحابه. الاستسلام للواقع، وعدم إدراك حقيقة الصراع، ومشكلة العالم في التسليم باستمرار سيطرة الغرب، والأكثر الانخراط للعب دور فيها، هي مشكلة العالم، وبدلا من البحث عن حلول لمشاكلنا، نمضي إلى الشكوى تعبيرا عن العجز، نستمر في الانخراط بالحروب التي رسمها لنا وما يزال، تتدمر بلادنا، تتراجع اوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية، نلحس المبرد، ونشكو من التردي، ونسب أنفسنا، ويلعن كل منا الآخر.. والغرب شاكر لنا أفعالنا.

اليوم، تزداد الحاجة بإلحاح لإحياء مفهوم جديد ل”حرب التحرير الوطنية”، علنا نبني حياة أفضل، بالتأكيد لا يريدها الغرب لنا. من دون ذلك، سنظل نشكي.. ننق.. نلعن ذواتنا.. نعاقب أنفسنا.. نتحارب.. بوصلتنا ضائعة.. وطريقنا مبهم.. إلى ما لانهاية.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.