وهكذا، ما أن فهق ضوء سراج شربل نحاس حتى انطفأ فتيله سريعا في تلاطم تيارات الهواء المتناقضة. ليس هذا التقوُّل من جانبي من باب التفخيم للرجل ولا تشفٍّ فيه، بل هو للناس، وحتى لجمهوره الذي بحرقه لنفسه على عجل أنار لهم عن غير ما قصد بأن ” ما هكذا تورد الإبل”.
أزاح نحاس الحجر من تحت قدميه لتشنقه أطروحاته المثقلة بالشبق السياسي الفردي الذي يكشف أن الشيوعي ليس هكذا.
في حالة الرجل برزت أحجية القدرة على فهمه هو للجمهور. فربما لا تصح في عصر المعلومة المنثورة على طرقات العقل مجاناً لعبة “الشيخ والمريد” فالشيخ فرد والمريدون كُثر، وهناك شيوخ كثر ايضاً فلا فسحة لاحتكار الرؤية، فكيف حين تعاني من إنزياح كبير.
تقاطع نحاس مع ميخائيل أدورنو وخاصة في نهاية المسرحية. كلاهما استاذ جامعي رأى الثورة في حجم قاعة المحاضرات والطلبة مكان الشعب بل والطبقات.
نظَّر أدورنو للثورة وحين نضج لها طلبته، ارتعب فتحول إلى مخبر علني حيث استدعى الشرطة ليعتقلوا كوهين بانديت. أما نحاس فنظَّر لثورة مرتدة، فاستدعى بل استعدى وانقضَّ على جمهور المقاومة الذي هو المادة الحقيقية للثورة لأنه قام على مبدأ: الأصل أن تبدأ وطنياً، لكنه اصر على نفي وطنيتهم ودحش الطائفية في ماسورة بندقيتهم.
تنظيرات الأكاديميا ليست من قامة البيان الشيوعي، وتمرد الطلاب والطبقة الوسطى أو قاعها ليست ثورة البروليتاريا. بل ما حصل في لبنان أن القاعدة الطبقية للثورة قد تم امتطاؤها ومن ثم إزاحتها من المشهد أو الوقوف على جسدها لينكشف المشهد عن حالة فاقعة من الشعارات والرقصات والشتائم وإغلاق الطرق في تمهيد لحرب شوارع. وهنا تحمس الشيخ فأطلق النار على قاعدة الثورة بدلا من الفترينا الزجاجية المركَّبة عليها عنوة .
في الثورة الثقافية في الصين:”… على النقيض من الروايات “الشيوعية اليسارية” والأناركية – هو أن العمال لم تحفزهم أي دوافع تخريبية أو “معادية للسلطوية” لكنهم اضطروا بدلاً من ذلك إلى زيادة الإنتاج على أساس الخط الثوري”.
في بيروت، بعد أن قرر جمهور المقاومة الابتعاد قليلا، تدفقت على “الثوار” الوجبات الساخنة التي لم يحلم بها الفقراء في سنوات العز.
كيف لم يدرك نحاس الفارق بين جاهزية الطلبة للثورة” وبين عدم وصولهم كطلبة لإنجاز الثورة. فهو لا شك إطَّلع على تجربة الثورة الطلابية في فرنسا 1968 والتي قامت تاثراً بالثورة الثقافية في الصين. ابدع الطلبة، ولكن القانون الاجتماعي الطبقي بالمفهوم الماركسي قعَّدهم في موقعهم الطبيعي بأن لا الطلبة ولا البرجوازية الصغيرة هم حوامل ثورة بل مفجرات
ثورة، لأن الركن الأساس هو وجود نمط إنتاج وطبقتين أساسيتين حاملتين له، هنا لا يوجد نمط إنتاج البرجوازية الصغيرة ولا الطبقة الوسطى.
تخيَّل الأكاديمي بانه يقود وينطق باسم الشعب كله، كما قال، وهنا ادخل نفسه في حالة شعبوية تراكبت بفجاجة على أرضية ماركسية، فلم تركب. وبدل أن يذهب إلى جمهور الفقراء في المقاومة، أدار مقلاعه ضد هذا الجمهور ففقد الجمهورين:
· جمهور الحراك الذي وضعهم هو والفاشيين كخشبة المسرح فجلس ليخطب فوقها.
· وجمهور المقاومة الذي قصفه بمفردات فوقية برجوازية شوفينية
اوصلته إلى اتهام هذا الجمهور بالعمالة.
لا يدري المرء كيف أخذت الرجل الحماسة؟ هل وُعِدَ بأن الثورة المضادة آتية لتدمير لبنان فعليه أن يجد له مقعدا فيها؟
هل وُعد بأن يكون في موقع ما بعد “انتصار الثورة المضادة”؟
أم أخذته سكرة الحماسة الطلابية؟
في مطلق الأحوال، ما من شعب خائن، ولا طبقة ولا طائفة بأكملهاـ وخاصة من شيوعي يُفترض بأن ثقافته طبقية بالطبع والوعي وحتى الفطرة، إلا إذا كانت هناك سكْرة ما في الراس.
وحتى التقصير عن ما برع فيه باع غيره يجب أن لا يأخذه بعيداً هكذا إلا إذا كان في روعه قرار خيانة المقاومة التي هُيِّىء له أنها سوف تُسحق قريباً.
فليقفز من القارب. هذا ما يقول فيه الصينيون “يسار في الشكل يمين في الجوهر”.
حقا، يمين في الجوهر. فالبرجوازية الكمبرادورية الريعية الطائفية في لبنان جردت الطبقات الشعبية من ثروتها التي هي قوت يومها في عملية تنافع متبادل بين المصارف والقشرة السياسية وراس المال المالي الدولي. وهكذا تسربت ثروة لبنان لتستقر بين ايدي هؤلاء.
صحيح أن ترقيع الأزمة كان بتطفيش قوة العمل وتصديرها للخارج للتعيُّش على تحويلاتها، شباب بدولارات، وحين جفًت مستنقعات النفط والدولار توقفت التحويلات وعاد الشباب إلى فراغ.
حالة تصدير قوة العمل هذه شبيهة بالمحتل 1967 حيث تمت إزاحة فانزياح الكثير من قوة العمل في علاقة جدلية بين:
· لا تنموية البرجوازية المحلية سواء الكمبرادورية أو التعاقد من الباطن
· وبين هدف العدو لطرد الشباب كمقاومين محتملين، ، وحيما كانت حرب العراق 1991، طُرد 400 ألف فلسطيني من هناك ليتم توزعهم على اقتصادَيْ الأردن والأرض المحتلة ليجدوا فيها شّرَك العمل بالتهريب إلى مواقع الاقتصاد الصهيوني.
وشبيهة بقيام أنظمة الدين السياسي الخليجية التابعة والريعية بطرد قوة العمل لتعمل في مشروع تخريب الوطن العربي، ولكن التمويل من السلطات الطاردة.
طبعا من العجب العُجاب ان ثورة المفكرين والتكنوقراط والخبراء والمحللين في لبنان لم تقم ضد هذا منذ عقود. كيف صبر هؤلاء إلى أن انفجر الفقراء فبدأوا بشرح ما حصل حينما صار لا معنى للشرح بل معنى للفعل والصد والرد.
حقا يمين في الجوهر، لأن نحاس الذي عايش وشارك سلطة النهب والتهريب، بدل أن يرى المخرج في موديل التنمية بالحماية الشعبية كرافعة لفك الارتباط، وأي ارتباط! اطلق رصاصه على من حرروا الأرض كي يرثها.
وهكذا، بين نهب الثروة وأخذ الأرض من أهلها يمكننا رؤية الكارثة.
بماذا يعد نحاس أهل الجنوب؟ ربما بالذهب الذي لم يُبحر بعد في إثر كولمبس ليكسر أقفال المقبرة الأمريكية التي دُفن فيها.
لا يرث الأرض إلا من يحررها، ولا حق في الثروة إلا لمن ينتجها، هذا ما كان على نحاس ومختلف النحاسيين أن يُقرُّوا به.
لكن نحاس كالكثيرين غيره لم يتمثل من الماركسية سوى طربوشها، حتى اسم حزبه ليس اسما طبقيا، فكيف بالتنظير إذن؟ لا يوجد حزب لكل الشعب سوى في خطاب راس المال وحين يذهب اليسار لمنافسة اليمين في مجال الأخير ينتهي يمينياً مشكوك في يمينيته.
حزب كل الشعب طبعة من ديمقراطية متطرفة (حزب لكل الوطن) ودولة مدنية…الخ هي مهلكة انتهازية.
صحيح أن غليان الفقراء قد تضائل، ولكن صحيح أن هذه حقنة تهدئة أخذ يشتغل عليها المصرف والصندوق الدوليين وقد تُلقمان البرجوازية حقنة كبيرة لتأجيل المجاعة كي تتبعها مستحقات هذه المرَّة لأشرس عدوين للبشرية. حينها سيكون التبرير الضريبي : هذه الفلوس لا يمكن التهرب من دفعها. بكلام آخر، الذهاب بالبلد إلى جولة اشنع.
قد يجوز لنا القول بأن ما قاله ماركس ولينين في كميونة باريس بان أكبر خطئين كانا:
· عدم احتلال المصرف المركزي، ووضع يد الشعب على مال الشعب.
· والهجوم على فرساي.
في لبنان كان رئيس المصرف المركزي مثابة “الشاطر حسن” حيث أفرغ المال، وسواء بالشنط أم بتسريبه بين المصارف التي سربته مضارباتيا إلى الخارج. على الأقل هكذا يبدو. أما فرساي، فقد تجلى في سقوط حكومة الحريرية السياسية.
يبقى الإجهاز على أموال وموجودات اللصوص. وإذا كانت السيولة في الخارج يصعب تجميعها سريعا، فالموجودات تحت اليد ومنها يمكن اعتصار سيولة تكفي للدفعة الأولية لبدء التنمية بالحماية الشعبية ممولة من المغتصبات. ويمكن استبدال “سيدر” بتمويل مشروعاتي من الصين، وهي اليوم أكبر احتقان سيولة مالية في التاريخ.
هنا يحضرك تعبير ماو “الثورة ليس حفل عشاء”، وليست وجبات ساخنة في ساحة رياض الصلح، بل تجريد الثروة من ايدي اللصوص.
حينما أطلق البلاشفة الثورة قال لهم لينين: “إسرقوا الأموال المسروقة” . يقول بوخارين، “هذا القول أوقف شعر أعضاء اللجنة المركزية…هل نحن لصوصاً؟ لكننا لاحقا أدركنا أننا جميعا مسيحيين وأن لينين هوالشيوعي الوحيد.
ملاحظة: إن صحت التسريبات، فإن الأمريكي يعرض لحل الأزمة حبة اسبرين، اي 100 مليار دولار بشرط توطين اللاجئين الفلسطينيين وتحجيم حزب الله، ورق مقابل وطن وكمبرادور مقابل مقاومة، ومع ذلك سيتم الدفع.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.