- تشابه
المسار، اختلاف الواقع، وماذا عن تشابه المصير
مع
تطور الصناعة في بريطانيا، او ما يسمى ب الثورة الصناعيىة، مع منتصف القرن التاسع
عشر بدأ
الانتاج الصناعي يفوق قدرة الاستهلاك المحلي حيث اصبحت هناك منتجات زائدة عن حاجة
السوق.
حاول حينها القِس مالثوس معالجة
المشكلة التي تجلت في عجز الطلب على المنتجات مما
يؤدي بدوره الى ضعف تراكم الطلب deficiency ويقود إلى أزمة الركود.
وكانت محاججته بأن الرأسماليين لا يقومون باستثمار مجدد أمام ضعف الاستهلاك، كما
أنهم هم انفسهم لا يستهلكون باكثر من قدرتهم. كما ان العمال لا يمكنهم
استهلاك
جميع الانتاج لأنهم قيد الاستغلال
ويتقاضوْن أجورا متدنية. هنا استنتج مالثوس بان هناك دور كبير لطبقة ملاك الارض او
ما يسميه ماركس البرجوازية الطفيلية بمختلف انواعها الذين يعملون، حسب مالثوس، خيرا
حيث
يستهلكون ما امكن للحفاظ على الاقتصاد مستقرا.
وعليه فان مالثوس قد برر تابيد بقاء طبقة مستهلكة وغير
منتجة وذلك في تضاد مع ديفيد ريكاردو الذي اعتبرهم
طفيليات لا تنتج.
ثم عاد مالثوس وعدَّل اطروحته بان يعتبر هؤلاء خارج الأمة
، ودعى الى تغطية العجز بالتجارة الخارجية وجلب الفضة والخراج إعتماداً
على القوة العسكرية للامبراطورية لتساعد على حل المشكلة.
ولاحقاً نظَّرت روزا لكسمبورغ بأن الحل لهذه المشكلة هو
في التوسع الخارجي لحل مشكلة تفعيل الطلب. وجادلت بان هذا الأمر غاب
عن ماركس الذي اهمل ذلك، علماً بأن ما كان يقلق ماركس في حينه هو البحث عن كيفية
توليد فائض القيمة أكثر من مشكلة الاستهلاك.
كان لا بد لبريطانيا من الحصول على الفضة من
الصين وذلك بأن توجهت إلى أخذ الأفيون من مستعمرتها الكبرى الهند كي تبيعه في
الصين
للحصول على الفضة كي تتمكن من دفع ثمن المنتجات المصنوعة
في مانشستر لتعود وتبيعها مجددا في الهند.
وحيث رفض الصينيون شراء الأفيون، قررت بريطانيا إخضاع
الصين بالقوة العسكرية.
وهنا يجدر إيراد معترضة تخدم النقاش وهي التذكير بمخرج
آخر اقترحه ونفذه البريطاني سيسيل رودس الذي حينما رأى احتجاج جموع العمال
العاطلين عن العمل في فليت ستريت في لندن دعى لاستعمار إفريقيا لحل مشكلة بريطانيا
.ولذا
أسميت المستعمرة البريطانية في إفريقيا “روديسيا الجنوبية” عرفاناً بدوره
الاستعماري. إلى ان استقلت لاحقاً بعد نضال مرير وغيرت اسمها إلى زمبابوي.
لسنا بصدد توسيع النقاش بجوانبه المتعددة مثلا، كانت
أطروحة لكسمبورغ رؤية أولية للعولمة، ولا التذكير بأن مالثوس كان المؤسس الوحشي
لإبادة الناس بالحروب والمجاعات بدل الذهاب للاشتراكية…الخ.
وفي السياق تجدر الملاحظة أن الاستعمار البريطاني خاصة
كان وراء تدمير الصناعات الصينية والهندية التي كانت تفوقه في بعض
المجالات كي يحولهما إلى سوق واسعة للإمبراطورية البريطانية.
وهنا سننقل الإضاءة إلى اليوم. فالولايات المتحدة
اليوم،وهي إلى حد ما وريثة الإمبراطورية البريطانية تعاني نفس مشكلة الاقتصاد
لكنها لا تتمتع بالفرص التي توفرت لبريطانيا في حينه مما يؤكد بان التاريخ كسجل
للحراك الإنساني لا يسمح بتكرار الأحداث كما هي اصلاً وتماماً.ولعل الفوارق هي:
· تعيش الولايات المتحدة
اليوم نفسها أزمة إقتصادية مالية ربما سمتها الأساسية تراجع الاستثمار في الإنتاج/
الاقتصاد الحقيقي وتقاطب الاستثمار في المضاربات المالية بينما كانت مشكلة
بريطانيا فائض الإنتاج.
· منذ عقود تم الإغلاق
الجغرافي للتوسع الإمبريالي على صعيد الكوكب، فلم تعد هناك مناطق جغرافية لم
تغزُها الراسمالية، اي بكلام آخر، تم استغراق الحيز الجغرافي في كامل الكوكب.
· إن الصين التي كانت هدف
بريطانيا هي اليوم هدف أمريكا، لكنها الصين التي تُنتج وتغزو الأسواق العالمية،
وليست مستعمرة لأمريكا، كما انها قوة عسكرية كبرى.
· هناك دول عديدة في العالم
تنتج
منتجات مدنية منافسة للمنتجات الأمريكية في السوق الدولي
وعلى راسها الصين وكتلة بريكس، وإن كانت هذه الكتلة غير متماسكة بعد، لكن هذه
الدول تحوز تدريجيا على نِسَبٍ من السوق الدولية التي كان لأمريكا في الخمسينات 40
بالمئة منها بينما اليوم حوالي 19 بالمئة.
· إضافة إلى منافسة البلدان
المنتجة للسلع المدنية هناك منافسة في الإنتاج العسكري وخاصة من الاتحاد
الروسي.
أمام هذا الواقع المعقد والعوامل المجافية في طريق تكرار
أمريكا ما تمكنت منه بريطانيا في الماضي، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن امريكا
مضطرة لمغامرة ما حفاظاً على سيطرتها/مصالحها على حساب معظم بلدان العالم.
لذا تقوم إدارة ترامبو بمستويين من الحرب:
الحرب غير المباشرة بالتجارة وليس السلاح وخاصة ضد الصين
والاتحاد الروسي وإيران وحتى، ولو بنسبة أقل، ضد الاتحاد الأوروبي. وهذه الحرب هي
جوهريا حرب سلاح امريكا فيها هو الدولار المغطى في قوته بالنفط وتحديداً التمسك بسلاح
النفط. ولعل لجوء أمريكا للحرب التجارية/العقوبات والحصار التجاري هو مؤشر على
عجزها عن المنافسة في السوق الدولية.
والحرب الثانية هي حرب الإرهاب التي لا تكلف الولايات
المتحدة لا جندا ولا معدات حيث حولت انظمة وقوى الدين السياسي ، وخاصة في الوطن
العربي، إلى جيوش تدمر الوطن العربي نفسه. إن الإرهابيين يلعبون دور جيش امريكا الثالث
ضد امتهم ووطنهم. بل إن ظاهرة الدين السياسي تتسع عالميا كما في الهند والمجر
ومؤخرا بوليفيا وبعض دول اوروبا.
بل إن حرب الدين السياسي تقدم للولايات المتحدة سوقا
واسعة لتصدير المنتجات العسكرية والخدمات اللوجستية.
كما تعمل أمريكا على بقاء سيطرتها على سوق النفط العالمية
من مدخل تحكمها بدول الإنتاج من جهة والتمسك ببقاء الدولار هو عملة شراء النفط مما
يسمح لأمريكا بالحصول على ريع معولم عبر اضطرار العديد من دول العالم لشراء الدولار
كي تشتري النفط. وهذا يفتح على الدائرة الشيطانية من حيث أن معظم أثمان النفط تعود
إلى مصارف الغرب وخاصة الأمريكية عبر الادخار او تبرعات الصناديق السيادية لدول
النفط للولايات المتحدة. إنها دائرة دوران النفط عالميا ليعود إلى المصارف
الأمريكية. وهذه تشكل عامل القوة الرئيسي في حرب أمريكا التجارية.
في هذا السياق هناك ايضا حرب المخدرات التي تقودها
المخابرات الأمريكية بشكل خاص وعلى مستوى عالمي. فحينما وقعت أزمة 2008 الاقتصادية
المالية قدم تجار المخدرات الأموال وتم ذلك بوساطة المخابرات،
الأمر الذي نتج عنه اندغام راس المال المصرفي برا س المال المافيوي وشراء رجال المخابرات
اسهما في المصارف ليحصل الاندغام الثاني حيث كان الأول كما كتب هلفردنغ ولينين قبل
قرن عن اندغام راس المال الصناعي والمصرفي .
وفي هذا الصدد يمكن مقارنة ارباح الشركات الأمريكية من
المخدرات في افغانستان بأرباح بريطانيا من الأفيون، فقد تضاعف إنتاج افغانستان من المخدرات
اربع أضعاف ما كان عليه قبل الاحتلال الأمريكي.
ما نشهده اليوم، تحرش امريكا في الصين تجاريا بفرض
عقوبات/أي عدوان تجاري والقيام بمناورات عسكرية قريبا من بحر الصين من جهة،
وتتحرش بروسيا من جهة ثانية عبر تقريب وتزحيف صواريخ الناتو في اوسع مناطق ممكنة
من شرقي اوروبا.
ورغم تمتع امريكا بالقوة العسكرية الأكثر فتكاً على صعيد
عالمي، إلا أنها تخسر كما يبدو حلفاءها في الأطلسي. فليست
تصريحات ماكرون بأن “الناتو” يحتضر بلا أرضية. ولا يمكن اعتبارتصريحات ماكرون مجرد رد على طلب
ترامبو من أوروبا دفع كلفة حمايتها من الناتو الذي تنفق عليه أمريكا. حيث كان رد ماكرون
هو التوجه لإقامة جيش اوروبي منفصلا عن الناتو.
وهذا التوجه بغض النظر عن سرعة تبلوره هو تقليل احتمالات
المواجهة مع روسيا. ولكن، هل هناك فرصة لجيش أوروبي موحد على ضوء احتمالات تفكك الاتحاد
الأوروبي؟ وبعيدا عن التنبؤ بكل هذا، فإن توجه فرنسا وربما ألمانيا للاعتماد كل
على جيشه هو في النهاية تقريب للسلام بين أوروبا والاتحاد الروسي.
وأخيراً، هل هذه الأمور المجافية لبقاء السيطرة الأمريكية
هي قوة ردع لأمريكا بحيث تخضع لتفاهم مع الصين، قد نسميه بلغة لينين “تقاسم
العالم” أم تركب حافلة الصراع مهما كانت النتائج؟
وفي سياق هذا التنافس، وخاصة في حالة تفوق الصين، يجدر
بالأمم الأخرى ان لا تسمح للصين، أو أن لا تدفع الصين للحلول محل امريكا ولعب
دورها. وهنا ربما تفيد الكلمات التالية للرئيس اللبرالي الأسبق وودرو ولسون والداعي
لتشكيل عصبة الأمم في محاضرة عام 2007 بما هي كلمات القوة الوقحة حتى قبل أن تحل
محل المركز الإمبريالي الأوروبي:
“… وحيث تهمل التجارة الحدود
القومية ويصر الصناعي على استخدام العالم كسوق ، فإن من حق راية دولته ان تتبعه،
وعلى الأبواب المغلقة للأمم ان تُسوَّى بالأرض. والاتفاقات التي توفر للممولين يجب
صيانتها من قبل وزراء الخارجية، حتى لو هاجت سيادات الدول
غير الراغبة في هذه العملية. فالمستعمرات يجب ان تُؤخذ او تزرع وذلك كي لا تبقى في
العالم زاوية مغلقة او غير مستخدمة”
كانت هناك الكثير من بقاع العالم عذراء أمام راس المال،
أما اليوم، فما من زاوية في العالم حافظت على عذريتها أمام هتك
راس المال الإحتكاري المعولم. وكما يتضح فقد أخذ ولسون بعض مفردات البيان الشيوعي
ليستخدمها في تشريع الغزو الأمريكي للأمم الأخرى. أما المفارقة فهي أن نفس ولسون
هو من مؤسسي عصبة الأمم التي طبَّقت رؤياه، ومن ضمن جرائمها تسليم فلسطين للاستعمار
البريطاني تحت عبارة خبيثة”الانتداب” وذلك لتسهيل الاستيطان الصهيوني في
فلسطين. أما الطبعة المنقحة لعصبة الأمم اي هيئة الأمم فاعترفت
بالكيان الصهيوني إعترافا مشروطا، ولكن المشروطية تم تجاوزها.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.