توازي بروز وذبول: الاتحاد الأوروبي والشيوعية الأوروبية، عادل سمارة

مضى نصف قرن على بدء تيار الشيوعية الأوروبية لنجد أنها تقريبا قد انتهت على المستويين الفكري والجغرافي. فمن ناحية فكرية لم تعد هناك أطروحة فكرية جامعة لهذه الحركات حيث بات المصطلح فارغ المحتوى على الأقل من الشيوعية نفسها. فالعديد من الأحزاب التي بدأت وتبنت هذا التوجه لم تعد شيوعية لا من حيث المضمون ولا حتى من حيث الإسم. وعليه، تفكك هذا التيار طبقا لجغرافيا الدولة القومية في أوروبا وخاصة الغربية.
 يمكننا القول بان الأحزاب الشيوعية الأساسية/المؤسّسة لهذا التيار المسمى ” الطريق الجديد”  وهي الحزب الشيوعي الإيطالي بزعامة هنريك بيرلنجوير، والشيوعي الإسباني بزعامة سنتياغو كاريللو  والفرنسي بزعامة جورج مارشيه عام 1977، هدفت نقد الدور السوفييتي في قيادة الحركة الشيوعية الأممية من جهة، ولكنها وإن نقدت  تبعيتها لموسكو إلا أن نقدها
كان أكثر ضد الاتحاد السوفييتي من جهة ثانية. وربما يمكن للمرء اليوم أن يصل إلى أن النقد كان يجب تركيزه على قرارات هذه الأحزاب في علاقتها بموسكو أكثر من نقدها لموسكو نفسها.
هناك عدة قراءات او تعداد لأسباب خروج هذا التيار على العلاقة بموسكو: قراءة خاصة لأطروحات غرامشي، ونقد مرحلة ستالين، والخلاف الصيني –السوفييتي، والتدخل السوفييتي في تشيكولوفاكيا 1968، وسياسات الاتحاد السوفييتي بعد ستالين وخاصة خروتشوف،  و رأي التروتسكية بان الاتحاد السوفييتي بأنه انتهى إلى “الاشتراكية في بلد واحد” وليس آخرها دور جورباتشوف والبيروقراطية السوفييتية في تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه…الخ.
 ولكن، هناك عوامل أخرى لم يتم التطرق لدورها في بلورة ومن ثم تفكك هذا التيار ومنها:

أولاً: عجز الأحزاب الشيوعية في اوروبا الغربية خاصة عن التقاط فترة الأزمة الاقتصادية التي حلَّت بأوروبا منذ 1963 أو نهاية فترة الازدهار والرفاه الذي تلا الحرب الإمبريالية الثانية والمجسدة في تهاوي معدل الربح لرأس المال مما أسس للخصخصة والنيولبرالية في الفترة التي لا تزال جارية وهي هيمنة راس المال الاحتكاري في المركز على السلطة والمجتمع وعلى
صعيد معولم بتحالفه الفوقي مع كمبرادور المحيط مما حول العالم إلى “قطاع راسمالي معولم لصالح ذلك التحالف الطبقي المعولم ايضاً”.
ثانياً: فشل الأحزاب الشيوعية وخاصة في غرب اوروبا في الاستفادة من الثورة الثقافية في الصين الشعبية 1965 وخاصة 1967 باعتبارها مواجهة مع أصحاب الطريق الراسمالي في الصين “طرائقيو الرأسمالية”، بينما التقطت الحركة الطلابية الأوروبية، وإلى حد ما في كثير من بلدان العالم،  هذا التطور في الصين.
ثالثاً: تأثر هذه الأحزاب الأورروبية بإعلام الثورة المضادة في تشويه الصين الشعبية من جهة والثورة الثقافية من جهة ثانية مما يعني أوربة وليس شيوعية هذه الشيوعية الأوروبية.
رابعاً: هزيمة الشيوعية الأوروبية في عدم قدرتها وحتى مشاركتها في الثورة الطلابية التي بدأت في اوروبا الغربية وخاصة في فرنسا  عام 1968، حيث وفرت هذه الثورة المناخ المناسب للشيوعيين بان يكونوا طليعيين في الإنخراط وقيادة هذه الثورة. إن ما التقطته الحركة الطلابية من عوامل الثورة اقتصاديا واجتماعيا قد غاب عن الأحزاب الشيوعية هناك.
خامساً: عدم قدرة هذه الأحزاب على التصدي لاتفاقية روما 1958 والتي كانت الأساس ل “الاتحاد الأوروبي” الذي هو إتحاد أوروبا راس المال بمعنى تجميع اوروبا على قاعدة ومقتضيات التطور الرأسمالي ، وبالطبع الإمبريالي، لأوروبا وهو الضد من الأممية الشيوعية. هذا إى أن وصل هذا الاتحاد إلى حاله اليوم حيث تتجه الكثير من الدول الأعضاء فيه إلى الخروج حتى بمعزل عن هيمنة المانيا وإلى حد ما فرنسا عليه، وهو خروج يتقاطع مع محاولات فرنسا إنشاء جيش أوروبي، اي خارج الناتو، وتوجهات المانيا بان يكون لها جيش يشارك في العدوان خارج حدودها. ورغم أن تفكك الكتلة الاشتراكية وابتلاع الاتحاد الأوروبي والناتو لمعظم دول أوروبا الشرقية قد أطال عمر الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذه كانت إطالة مؤقتة.
سادسا: تساوق هذا التيار مع بدء انتقال المركز وخاصة غرب اوروبا والولايات المتحدة من السياسات الاقتصادية اللبرالية إلى السياسات النيو-لبرالية بما تتضمنه من خروج الدولة عن سياسات الرفاه الكينزية، وتنبي سياسة عدم التضبيط من قبل الدولة وتوفير فرص التهرب الضريبي للشركات الكبرى وتبني سياسات التصحيح الهيكلي وخاصة في المحيط. مثلا، لم تدفع شركة أمازون عام 1918  أي فلس ضريبة على أرباحها التي بلغت 11,200,000,000 دولارا!.
Amazon will pay $0 in taxes on $11,200,000,000 in profit for 2018, Kristin Myers Yahoo Finance February 16, 2019

سابعاً: أي أنه، في حين شن المركز الراسمالي/الإمبريالي هجمة استغلال على صعيد معولم، أسس لطبعة العولمة الحالية، ذهبت الشيوعية الأوروبية لتفكيك العلاقات الأممية مستبدلة الأممية بالقاريَّة مما كشف عن نزعة أورو-مركزانية في هذه الحركة الشيوعيىة نفسها! أي انتقلت/انحطت الحركة الشيوعية إلى  التبعية للثقافة الراسمالية الغربية مجسدة في أوروبا راس المال!. أي فرادة أوروبا جريا على المقولة الدارجة هناك “الغرب والبقية The West and the rest.  وهذه نزعة ثقافوية لا تبتعد عن نظرة اليهودية إلى بقية البشر ملقبة إياهم ب  الأغيار “الجوييم”.
أمام هذه المساومات على الفكر والسياسة، ضمُرت هذه الأحزاب لتصبح هامشية بعد أن كانت في فترة ما بعد الحرب الإمبريالية الثانية على مشارف الوصول إلى السلطة. وعليه، إذا كان البعض قد رأى بأن بداية هذا الانحراف في الشيوعية الأوروبية هو في ارتكازها على أطروحة أنطونيو غرامشي “التحالف/المساومة :الكتلة التاريخية”، فإن هذه الأحزاب قد قرأت غرامشي خطئاً، وحرفت أفكاره لتبرير التوفيق التاريخي الذي تم بين الحزب الشيوعي
الإيطالي، وبين الديمقراطيين المسيحيين والمحافظين الإيطاليين لأن أطروحة غرامشي كانت تعني طليعية الشيوعيين لقيادة هذا التحالف وليس التذيُّل للبرجوازية.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.