احتقار الإمبريالية للعُملاء- نموذج العراق، الطاهر المعز

أشارت وكالات الأنباء (وكالة الصحافة الفرنسية، ورويترز وبلومبرغ وغيرها) إلى زيارة نائب الرئيس الأمريكي “مايك بنس” (وزوجته) إحدى القواعد العسكرية الأمريكية في العراق، دون لقاء أي مسؤول عراقي (باستثناء الإنفصاليين الأكراد)، وحتى دون إعلامهم بالزيارة، وهذه ليست سابقة، بل تكررت مثل هذه الإهانات للمسؤولين العراقيين، وجميعهم عملاء أمريكا، ويحمل معظمهم جنسيات أمريكية وأجنبية، وتشير هذه التصرفات أن المسؤولين الأمريكيين يعتبرون العراق أرضًا أمريكية…

قبل هذه الزيارة، قام الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وزوجته ومُستشاره للأمن القومي آنذاك “جون بولتون”، بزيارة إلى العراق، يوم 25 كانون الأول/ديسمبر 2018، لم تعلم بها الحكومة العراقية مسبقا، لتهنئة القوات الأمريكية هناك بأعياد الميلاد، وتوجّهت طائرة “ترامب” مباشرةً إلى قاعدة “الأسد” الجوية، في محافظة “الأنبار”، غرب العراق، قريبًا من حدود سوريا، وبقي ثلاث ساعات في القاعدة، وذلك في أول زيارة له إلى العراق، بعد بضعة أيام من الإعلان عن استقالة وزير الحرب الأمريكي “جيمس ماتيس”، وتوجّه ترامب بالشكر إلى الجنود المُحتلّين على “الخدمات والإنجازات والتضحيات التي قدّموها”، وقد يقصد الرئيس الأمريكي بذلك التخريب والقتل الذي تعرض له العراق وشعبُهُ، ثم سوريا وشعبها، وأكّد الرئيس على بقاء ما لا يقل عن خمسة آلاف جندي أمريكي في العراق، ونَفى وجود أي خطّة للإنسحاب من العراق، بل أعلن عن “استخدام العراق كقاعدة أمامية” للعدوان على سوريا، في تناقض تام مع إعلانه قبل أسبوع واحد، انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، وأظهرت الوقائع أن القوات الأمريكية بصدد إعادة الإنتشار في سوريا وإنشاء قواعد عسكرية جديدة، في المناطق الحَيَويّة، حيث حقول النفط والغاز، والأراضي الزراعية الخصبة، المُنْتِجَة للحبوب، شمال شرق سوريا (أو شرقي نهر الفرات)، بالإضافة إلى القواعد الجديدة التي أنشأتها الولايات المتحدة في العراق، على جانبَيْ الطريق الدّولية الرابطة بين العراق، وسوريا والأردن، وأعلنت وزارة الحرب الأمريكية بقاء 2500 جندي أمريكي في سوريا، كما أشار الرئيس الأمريكي إلى استخدام القواعد العسكرية وأجهزة التنصت وغيرها من التجهيزات العسكرية الأمريكية، لمراقبة إيران، انطلاقًا من العراق، وأكّد ذلك، بعد بضعة أسابيع، خلال مقابلة تلفزيونية، يوم الأحد الثالث من شباط/فبراير 2019، حيث أعلن الإبقاء على قاعدة “الأسد” في العراق، بهدف “التمكن من مراقبة إيران” المجاورة…

بعد مرور حوالي أحد عشر شهرًا على زيارة دونالد ترامب، حل نائب الرئيس الأميركي “مايك بنس”، يوم السبت 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، مباشرة في قاعدة “الأسد”، لتفقد القوات الأمريكية التي تحتل العراق، من دون أن يُعْلِم أو يلتقي أياً من المسؤولين الرسميين العراقيين، وعبّر بالمقابل عن “القلق من نفوذ إيران في العراق”، ثم زار نائب الرئيس الأمريكي مدينة “أربيل” في إقليم “كردستان” العراق، ما قد يُشير إلى أن “إربيل” هي عاصمة العراق، وليست بغداد، وأن الحكومة الفعلية، هي حكومة إقليم كردستان العراق، والتقى في نفس اليوم (السبت 23/11/2019) رئيس الحكومة الإنفصالي، وهو من نفس عشيرة وأسرة البرزاني، التي أنجبت عددا من كبار العملاء لبريطانيا وأمريكا وللكيان الصهيوني، من مصطفى إلى مسعود ثم نيجرفان، والذين أمعنوا في قمع شعب كردستان، ولَجْم الحريات…

أثارت زيارة نائب الرئيس الأمريكي، وتجاهله الحكومة العراقية، أسوة بالرئيس الأمريكي، قبل أقل من عام واحد، تساؤلات حول احتقار السلطات الأمريكية للعُملاء، فالمسؤولون العراقيون يخضعون لنفوذ الإحتلال الأمريكي، وكذلك للنفوذ الإيراني، وللإحتلال الأمريكي الفضل الكبير في تنصيبهم، وفي تفصيل دستور على مقاسِهِم، لكي يبقُوا في السّلطة، بشرط البقاء تحت الرقابة الأمريكية، وجاءت زيارة نائب الرئيس الأمريكي في خضم المظاهرات المتواصلة منذ حوالي شهْرَيْن، في بغداد وفي العديد من مناطق جنوب البلاد، وتواصلت المواجهات، بين قوات الأمن والمتظاهرين في مناطق مختلفة من العراق، وأدّت (حتى يوم السبت 23/11/2019)  إلى مَقْتل حوالي 350 متظاهر، وإصابة نحو خمسة عشر ألف شخص، خصوصًا في مُدُن الجنوب، الغني بالنفط، لكن سكانه يعانون من البطالة والفَقْر ويفتقدون إلى الطرقات والكهرباء والمياه النقية (مياه الشّرب) والمرافق الصحية…

استغلت بعض القوى السياسية احتقار مسؤولي حكومة أمريكا للحكومة العراقية، لإدانة زيارة نائب الرئيس الأميركي، باعتبارها “تشكل انتهاكاً وتجاوزاً للسيادة العراقية”، خصوصًا وأن السلطات العراقية لم تكن على علم مُسبق بالزيارة (كما زيارة ترامب، قبل أقل من عام واحد)، لكن هذه القوى، هي عميلة لأمريكا أيضًا، ومن بينها “ائتلاف النصر” الذي يرأسه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي…

أظْهرت الولايات المتحدة، وكافة القوى الإمبريالية، أنها قادرة على التضحية بعملائها، إن اقتضت ذلك مصالحها التكتيكية أو الإستراتيجية، ويمكنها التضحية بأي زعيم سياسي في العراق، لأنهم، جميعهم، من صنع الإحتلال الأمريكي، وما سلطتهم سوى جزء من سُلطَتِهِ، أما الشعب العراقي فقد خسر دولته ووطنه وثرواته وسيادته، منذ سنة 2003، بعد معاناته لفترة 12 سنة من الحصار والتّجويع، وبعد حرب دامت ثماني سنوات مع إيران، وأظْهرت الإحتجاجات الحالية حجم الفساد والسرقات، وسوء وضع المواطنين، رغم ارتفاع إنتاج وصادرات النفط، لكنها أظهرت أيضًا ضيق أُفُق الإحتجاجات، التي تفتقد إلى وضوح الأهداف، وإلى قوة منظّمة قادرة على تغيير منظومة الحكم، وعلى إنجاز برنامج تحرير وطني، وبرنامج اجتماعي لاستثمار عائدات النفط في القطاعات المنتجة، بعد طرد الإحتلال الأمريكي، وإعادة صياغة دستور جديد، لا يعتمد الطائفية، بل الولاء للوطن…

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.