هل بدأت نهاية حقبة “القُطْب الواحد”؟ هل تستفيد الشُّعُوب المُضْطَهَدَة من انكسار شوكة الإمبريالية الأمريكية؟ الطاهر المعز

خاطرة، على هامش أخبار يوم 08/01/2020

كانت قوات حلف شمال الأطلسي تُجري مناورات ضخمة، في العراق، يُشرف عليها ما لا يقل عن خمسمائة مُدَرِّب، بذريعة “تدريب الجيش العراقي”، وبعد اغتيال “قاسم سُليماني” والرد الإيراني المحدود، ضد قاعدتَيْن أمريكيتَين، أعلن ناطق باسم حلف شمال الأطلسي تعليق المناورات، وأعلنت بعض دول حلف شمال الأطلسي (كندا وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا ورومانيا وكرواتيا وسلوفاكيا…) سحب بعض القوات العسكرية، مُؤَقّتًا، من العراق، ونقلها إلى الأردن والكويت “لأسباب أمنية”، مع التّأكيد على عدم الإنسحاب نهائيا من العراق، رمز توسّع حلف شمال الأطلسي، ورمز الهيمنة الأمريكية، شبه المُطْلَقَة، حيث بدأت حقبة هيمنة “القُطْب الواحد”، منذ 1991، وتعزّزت سنة 2003، بحالة الإحتلال المُباشر، قبل أن تدعو روسيا والصين إلى عالم “متعدد الأقْطاب”…  

لم تصدر عن الدول الأوروبية أو دول حلف شمال الأطلسي أية إدانة للجريمة الأمريكية، أو حتى تنديد، بل لم يتجاوز الأمر التعبير عن الأسف، ودَعَتْ معظم حكومات العالم إلى “ضبط النّفس”، ومعنى ذلك المُساواة بين المُعتدي (أمريكا) والمُعْتَدَى عليه، أي إيران، والعراق الذي حصلت الجريمة في أراضيه، ودعت قيادة الإتحاد الأوروبي (المُفَوِّضِيّة) إلى “عدم التّصعيد” وإلى “تخفيف حدّة التّوتّر” لصيانة “الأمن والسّلم الدّوليّيْن”، لكننا لم ننعم ب”الهدوء” و”الأمن” و”الإستقرار” الذي ينشُدُهُ الإتحاد الأوروبي (والكيان الصهيوني الذي يتبنّى هذه الصيغة الأوروبية، وكذلك تركيا الأطلسية المُعتدية على سوريا وليبيا)، أو يريد المحافظة عليه، بل ما انفك الكيان الصهيوني يوسع مجالات العدوان، وما انفكّت الإمبريالية الأمريكي (بدعم أوروبي) تعتدي على الأمم والشعوب، من أفغانستان إلى غرب إفريقيا، وربما يقصد الإتحاد الأوروبي (والولايات المتحدة) “الهُدُوء والإستقرار” الذي يُتيح للشركات العابرة للقارات استغلال الشعوب وثرواتها، بدون إزعاج، لتحقيق الحد الأقصى من الأرباح الصافية…   

أظهرت جريمة اغتيال اللواء “قاسم سليماني” أن نظام الحكم في إيران جاهز لحرب محدودة المخاطر، وأعدّت دوائر الحكم مُخطّطات وسيناريوهات تجعله قادرًا على الرّد السريع على الإستفزازات الأمريكية، حيث نفّذت إيران ضربة سريعة مباشرة وعلنية، ضد قاعدَتَيْن عسْكَرِيّتَيْن أمريكيّتَيْن في العراق، إحداهما في منطقة العاصمة “بغداد” والأخرى في “إربيل”، بإقليم كردستان العراق، مع الإشارة أن الولايات المتحدة تعتبر القواعد العسكرية، كما السفارات، “أراضي أمريكية”، وعجزت رادارات وتجهيزات الولايات المتحدة عن التّصدِّي لهذه الهجمات، وعن الدّفاع عن هذه “الأراضي الأمريكية”، وعمل الخطاب الإيراني ووسائل الإعلام الرسمي على التهدئة، وكذلك على إظهار التواجد العسكري الأمريكي، بمثابة عامل توتر وعدم استقرار في المنطقة، ثم أعلن ممثلو النظام الإيراني عن صياغة خطط “حرب استنزاف” (ليست بالضرورة حرب عسكرية مباشرة) تُهدّد المصالح الأمريكية بشكل يجعل الولايات المتحدة مُجْبَرَة على مراجعة حسابات الرِّبْح والخسارة، وعلى الخروج من المنطقة…  

من جهتها غيّرت الإدارة الأمريكية (منذ 2012) أولوياتها، واعتبرت الصين خطرًا استراتيجيًّا، واعتبر “دونالد ترامب” أن تطوير تقنيات استخراج الوقود الصّخري، وانخفاض تكلفة إنتاجه، مكنتْ الولايات المتحدة من إنتاج ما يكفيها، وزيادة، من النفط والغاز، وأصبحت الولايات المتحدة، من المُصدّرين، ومن مُنافسي السعودية وروسيا، و”المنتج الأول للنفط والغاز الطبيعي في العالم”، بحسب الرئيس الأمريكي، ما جعل الولايات المتحدة تُغيِّرُ أولوياتها، لتفقد منطقة الخليج أهَمِّيَّتَها، بحسب تصريحات الرسميّين الأمريكيين، همِّيّتَها،أومع ذلك لا تزال الولايات المتحدة تَبْنِي القواعد العسكرية، في سوريا والعراق، وفي دُوَيْلات الخليج، وتعتزم دَفْعَ حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى مزيد من التّورّط العسكري في المشرق العربي، ومنطقة ما سُمِّيَ “الشرق الأوسط”، وتُشير التصريحات الرسمية الأمريكية (المُتَناقِضَة أحيانًا) إلى خفض عدد الجنود الأمريكيين، لزيادة عدد جنود حلف شمال الأطلسي، وتجدر الإشارة أن عدد الجنود ليس مُهِمًّا في حد ذاته، لأن الآليات الحربية والصّواريخ والطائرات الآلية، وغيرها يمكن تسْيِيرُها وتوجيهُها عن بُعد، ولا تتطلب الأسلحة المتطورة والفتّاكة وجود عدد كبير من الجنود، وعلى سبيل المثال فقد أعلنت أمريكا خفض عدد جنودها الذين يحتلون سوريا، خصوصًا في محافظات “الحسكة” و”دير الزُّور”، وفي المواقع المحيطة بحقول النفط والغاز ومناطق زراعة الحُبُوب والقُطن، بالتوازي مع زيادة تركيز الأسلحة المتطورة، التي تحتاج عددًا صغيرا من المهندسين والفَنِّيِّين العسكريين…

هناك دلائل عديدة تُشير إلى عدم رغبة النظام الإيراني والإدارة الأمريكية تصعيد الموقف، في الظرف الحالي، ومن هذه الدّلائل، الدّعوة الأمريكية لإجراء حوار شامل مع إيران، وتصريح وزارة الخارجية الإيرانية أن الرد الإيراني يقتصر حاليا على قصف القاعدتَيْن الأمريكيّتَيْن، ولم تَشْهد أسواق المال اضطرابًا كبيرًا، بل هدأت أوضاعها بسرعة، كما تراجعت أسعار النفط الخام بسرعة أيْضًا، بعد ارتفاع طفيف لفترة قصيرة…

هل تُؤشِّرُ هذه الأحداث لحدوث تحوّل استراتيجي، يضع حدّا لهيمنة الولايات المتحدة على منطقة الخليج، وسرقة مواردها وابتزاز الشعوب والحُكّام؟

هل يمكن أن ينطلق مسار انهيار أدوات الهيمنة الأميركية، من الخليج، بعد هيمنة أمريكية شبه مُطلَقَة، تدعمها الأُسَر المالكة لمشيخات الخليج؟

هل تكون هذه التغييرات إيجابية للشعب الفلسطيني والشعوب الواقعة تحت الإستعمار والهيمنة؟

قد تكون الإمبريالية الأمريكية في حالة تراجع، لكن “العائد الإيجابي” للشعوب غير مَضْمُون بالمَرّة، لأن ذلك يتطلّب أدوات عمل، أي حركات تحرر وأحزاب وبرامج وخطط، تستغل أي حالة ضُعْف للإمبريالية، مهما كانت هذه الفُرص ضئيلة، لاحتلال أي فضاء وأي حَيِّز تتَقَهْقَرُ منه الإمبريالية، وتنسحب (غَصْبًا وليس طواعية)، لإقامة نواتات لحكم وطني تقدّمي أو اشتراكي (تَشَارُكِي)، يُقَوِّضُ، كُلِّيًّا أو جُزْئِيًّا، نفوذ الشركات الإحتكارية، العابرة للقارات، وهي ركيزة من ركائز الإمبريالية…

في حالة إيران، كقوة إقليمية في المشرق العربي، لا يخرج النظام الإيراني عن دائرة المنظومة الإقتصادية الرأسمالية، السائدة في العالم، ولكنه يرغب في احتلال مكانة أكبر، وفي لَعِبِ دَورٍ أهمّ مما تسمح به الإمبريالية الأمريكية حاليا، لأن تضخيم دَور إيران، يؤدِّي إلى إضعاف دور الكيان الصهيوني، الذي تدعمه أمريكا (والنظام الرأسمالي العالمي) بشكل مُطْلَق، ولن ترضى عنه الإمبريالية الأمريكية بديلا، ولو كان البديل تُرْكِيًّا، أو سعوديا، وكل ضربة تتلقاها الإمبريالية الأمريكية، تُؤثِّرُ مباشرة في الكيان الصهيوني، لو كان للمقاومة الفلسطينية برنامج تحرر وطني، لأن تاريخ الحركة الصهيونية أظهر ارتباطها الوثيق بالإمبريالية والإستعمار، وما نتج عنهما، فارتبط وجود الكيان الصهيوني بدعم نظام الميز العنصري، والدكتاتوريات العسكرية، في أمريكا الجنوبية وفي العالم، والحركات الإنفصالية الرجعية، في نيجيريا وفي جنوب السودان وفي شمال العراق وغيرها من مناطق العالم…

 وجب الإعتراف لنظام إيران بقدرته على تحدّي الهيمنة الأميركية، خلافًا لشيوخ النّفط المُتَصَهْيِنِين، والمُنْبَطِحِين أمام الإمبريالية الأمريكية، وفي مقدّمتهم حكام العراق، الذين يدعمهم الإحتلال الامريكي، ولكن النظام الإيراني يُدافع عن مصالح إيران، ولئن توفّرت عوامل التحالف المَوْضُوعي مع التقدميين والوطنيين العرب، فإنه لن يُحرّرَ المنطقة، وهو غير مُفَوّضٍ للقيام بذلك، فمسؤولية تحرير فلسطين من الإستعمار الإستيطاني الصهيوني، وتحرير بقية الوطن العربي من الهيمنة الإمبريالية، تقع ضمن مسؤوليات الثوريين والتقدميين العرب، من قوميين واشتراكيين، بالتحالف مع كل التقدميين في العالم، لأن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والقوى الإمبريالية والصهيونية، أصبحت عنوانًا للعدوان وللإستغلال والإضطهاد، ونهب الموارد، ما يزيد من انتشار الفقر والبطالة…

من الواضح أن الإمبريالية الأمريكية تُعاني من بعض الأزمات التي قد تؤدِّي، عبر التّراكم، إلى إضعافها، وربما إلى انهيارها، بعد بضعة عُقُود، لكن هل نبتهج لانهيار قوة طاغية وظهور أخرى مكانها؟ ما فائدتنا من تغيير “عَمْرو” ب”زَيْد”، إذا لم يكن زيد مِنّا ويخدم مصالحنا؟

 تُظْهر العديد من الأحداث، غياب البديل التقدمي، ناهيك عن الإشتراكي، في الوطن العربي، وفي العديد من المناطق الأخرى، لأن الجرائم الأمريكية والصهيونية تعدّدت وتراكمت، دون رُدُود فعل، رغم قرارات الولايات المتحدة نقل سفارتها إلى القُدْس واعتبار كافة الأراضي الفلسطينية، والعربية (الجولان والأراضي اللبنانية) أراضي “إسرائيلية”، خلافًا للقرارات الهزيلة للأمم المتحدة، وشكلت هذه القرارات استفزازًا كبيرًا، ولكنها لم يُثِر غضب ظاهرًا للجماهير العربية الغارقة في الدّيُون وفي الفقر، والواقعة تحت قَهْر الفئات الحاكمة…

أظهرت انتفاضات أمريكا الجنوبية، خلال سَنَتَيْ 2018 و 2019، الفارق الكبير بين الحركة أو التيارات التقدمية في جنوب القارة الأمريكية، وفي الوطن العربي، وتمكنت انتفاضات المنطقة الأولى من تحقيق بعض المكتسبات، التي لا تُغيّر من طبيعة النظام، ولكنها تضع حدًّا (ولو مُؤقّتًا) لغطرسة القوى التي ورثت الحُكْم عن الدكتاتوريات العسكرية (المدعومة أمريكيا) في تشيلي، وفي الأرجنتين، وتمكنت الجماهير من التّصدّي للإنقلاب الأمريكي في فنزويلا، في حين عادت رموز الأنظمة السابقة إلى الحكم في تونس ومصر، ولم تتمكن جماهير الجزائر من فَرْض نظام، يخرج البلاد من اقتصاد الريع إلى الإقتصاد المُنتج، وفي السودان، لم تَحْسِم القوى التقدمية ميزان القوى لصالحها، فيما يتواصل العدوان المُسلّح، الإمبريالي الرجعي، على شعب اليمن وسوريا وليبيا، ويتواصل إنكار حق الشعب الفلسطيني في وطنه، بتواطؤ “سلطة الحكم الذاتي الإداري”، دون رُدُود فعل تُذْكَر…

في مثل هذه الفترات من التاريخ، نَفْتَقِدُ الأدوات الثورية، ونَذْكُرُ حاجتنا المُلِحّة لبناء تحالف يُواجه هيمنة الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، وأدواتها من مؤسسات مالية وتنظيمات إرهابية، وأنظمة تابعة، تحكم الكادحين والفُقراء بالقهر والقَمع والإعلام المُخادع…        

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.