احتوت نشرة الإقتصاد السياسي (التي توقّف صُدُورها بنهاية سنة 2019) على باب شبه قار بعنوان “الصحة تجارة مُربحة”، ونشرتُ قبل أيام مقالاً بعنوان “وباء كورونا واحتمالات مسؤولية الولايات المتحدة في انتشاره…”، وهذا مقال في نفس الإتجاه، ويُثِير مسؤولية الشركات العابرة للقارات، المُصنِّعَة للأدوية، في عدد من المآسي الإنسانية، بتواطؤ مع أجهزة الدّولة والأطباء والعلماء والباحثين…
تُعَدُّ “سانوفي” ثالث أكبر شركة مختبرات وعقاقير، في العالم، عابرة للقارات، فرنسية المنشأ، مختصة في البحث العلمي وتصنيع عقاقير الأمراض النادرة، وكذلك مرض السّكّري، وهي مجالات تَدُرُّ أرباحًا مُرتفعة، كما اختصت في الأَمْصال واللقاحات، بدعم من الدّولة في فرنسا، كما في الجزائر والسعودية ومصر، وغيرها.
أسست شركة النّفط الفرنسية “إلف” سنة 1973 (أصبحت “إلف” تُسمى “توتال” فيما بعد)، شركة “سانوفي” للبحوث والمُختَبرات والأدوية، ثم استحوذت “سانوفي”، كُلِّيًّا أو جُزْئِيًّا، على ست شركات منذ تأسيسها، وفاقت قيمة أسهمها في البورصة (أو قيمة رأسمالها في السوق) 113 مليار يورو، بينما بلغت قيمة إيراداتها السنوية، نحو 35 مليار يورو، سنة 2018، وبلغت أرباحها الصافية 6,82 مليار يورو، أو أكثر من 16,5% (صافية)، وهي نسبة مُرتفعة في قطاعات الصناعة، وتُشغّل “سانوفي” حوالي مائة ألف أَجِير…
شكّل الإستحواذ (في بداية كانون الأول/ديسمبر 2019)، على الشركة الأمريكية “سينثوركس” للتكنولوجديا الحيوية، مقابل 2,5 مليار دولارا، تعزيزًا لدور “سانوفي” في مجال علاجات السّرطان واضطرابات المَناعة، وتحاول الشركات الكُبرى العالمية للمختبرات والأدوية الإستفادة من انتشار الأوبئة (يتهم بعض العُلماء الشركات الكبرى والحُكومات بنشر بعض الأوبئة أو معظمها )، لأن اكتشاف لقاح لمئات الملايين من البشر يُوَلِّدُ، عند كل تهديد بانتشار وباءٍ مَا، أرباحًا كبيرة، واستفادت “سانوفي”، المُقرّبَة من دوائر الحُكْم في فرنسا، بقطع النّظر عن اللون السياسي للرئيس وللأغلبية البرلمانية، كما استفادت، في دول أخرى عديدة، من بيع لقاحات أنفلونزا ( H1N1 ) سنتَيْ 2009 و 2010، بقيمة 380 مليون يورو في فرنسا، رغم عدم اليقين من جدوى اللقاح، وأطْلَقَتْ شركة “سانوفي” بحوثًا من أجل اكتشاف لقاح لوباء “كورونا”، الذي انتشر في بداية العام 2020 في الصّين، أملاً في تحقيق أرباح مُرتفعة، بدعم من الحكومة الفرنسية، وحكومات أخرى، قد تَفْرِضُ اللقاح بقرار سياسي، لا يُراعي بالضَّرُورة الجَدْوى أو النّجاعة الصحية، لكن المختبرات الصينية تمكنت من إجراء عمليات التشخيص، بسرعة فائقة، فيما تحاول الولاياتُ المتحدةُ ودولُ الإتحاد الأوروبي عرقلةَ عمليةِ ترويجِ اللقاحاتِ والعقاقيرِ المُستورَدَة، وتبجيل شركات مَحلّية (في زمن العَوْلَمَة) مثل “سانوفي”، التي ارتفعت قيمة أَسْهُمها في بورصة باريس، كما في أسواق المال الأُخْرى، بعد إعلانها عن بدْءِ تطوير لقاح ضد فيروس “كورونا”، رغم تشكيك منظمة الصحة العالمية في مصداقِيّة الأخبار التي نَشَرَتْها بعض الشركات، ومن بينها شركة “سانوفي”، بشأن هذه الإبتكارات المَزْعُومة…
الفضائح الطّبّيّة في فرنسا:
الدم المُلَوّث:
ظَهر مرض نقص المناعة (آيدس أو سيدا) في الولايات المتحدة ثم في أوروبا، في بداية ثمانينات القرن العشرين، وبدأت شركات المُختبرات والعقاقير تبحث ليس عن عُقار لا يُشفي نهائيا، ولكن يُحسّن صحة المَرْضَى ويُطيل أعمارهم، فيتحول نقص المناعة، إلى مرض مُزمن، ليستهلك المَرْضى الدواء طيلة حياتهم، ويزيدوا من أرباح الشركات المُنْتِجَة للعقاقير، واكتشف العُلماء والباحثون مُبكِّرًا أن المرض ينتقل عبر المَني (خلال عملية ممارسة الجنس) وعبر الدم، ولذلك أصبحت المختبرات تتحقق من خُلُو الدّماء، التي يحتاجها المَرْضى أثناء العمليات الجراحية، من الجراثيم ومن الفيروسات، وتأكدت شركة “ميريو” و “معهد باستور” الرسمي المرموق، من وجود تلوث في كميات كبيرة من الدّماء التي جُمِعَتْ في فرنسا، فوقع التّخلّص منها عَمْدًا، ببَيْعِها، بسعر مرتفع، إلى بلدان المغرب العربي وإفريقيا، خلال العقدَيْن الأخيرَيْن من القرن العشرين، ورغم إفشاء “السّرّ” وثبوت تهمة “القتل المُتعمّد”، عبر تسويق الدماء المُلَوَّثة، التي تحولت من مُنْقِذ إلى سالب للحياة، لم تُسفر القضية عن عقوبات أو تعويضات للضحايا، خاصة من سُكّان المُستعمرات الفرنسية السابقة…
عقار “ميدياتور”
نشرت الوكالة الفرنسية لسلامة منتجات الصحة ( AFSAP )، في تشرين الثاني/نوفمبر 2010، بيانًا يُشير إلى وفاة مئات الأشخاص، بسبب استهلاك عُقار “ميدياتور” المضاد للسُّكَّرِي، والذي ادّعت شركة “سيرفييه” المُنْتِجَة له أنه مُفيد لعلاج زيادة السّمنة، وذَكّرت الوكالة أنها حَظَرَتْ بيع وتداول هذا الدّواء، منذ 2009، ولكن الأطباء يواصلون وَصْفَهُ لزبائنهم، كمساعد على خفض الوزن، رغم ثبوت الأضرار التي يُلْحِقُها “ميدياتور” بصَمّامات القلب وبالكبد، ودَوْرِه في ارتفاع “الضّغط الرِّئَوِي”، وهي مخاطر أدّتْ إلى وفاة العديد من مرضى السُّكَّرِي والذين يعانون من زيادة الوزن، ويُظْهر هذا التّحَدِّي لبيانات الوكالة الرّسمية، مدى الدّعم السياسي (من وزارة الصحة، أي من الحكومة) الذي تتمتع به بعض الشركات الإحتكارية الكُبْرى، مثل “سيرفييه” و “سانوفي” و”فيزر” و “جونسون أند جونسون”، في فرنسا وفي الولايات المتحدة وغيرها…
سَبَقَ أن نَبَّه بعض الأطباء والعُلماء، منذ 2001 إلى مخَاطر هذا العقار، و”الأضرار الجانبية” التي يُسبِّبُها، فاستخدمت الشركة المُنتِجَة نفوذها المالي والسياسي، لتشغيل عُلماء وأطِبّاء مُرْتزقة، نشروا في بعض الدّوريات المُختصّة، دراسات تُبَيِّنُ محاسن هذا الدّواء، وتتغاضى عن مساوئه، أو أهملوا ما تُسمّى “التأثيرات الفَرْعِيّة”، أو “الأعراض الجانبية” بلغة الطّب، وشَهَّرت الشركة بالعُلماء والأطباء الذين أظهروا العلاقة بين استهلاك هذا الدّواء وحالات الوفيات بأمراض القلب والكبد والرئة، وهي ليست الشركة الوحيدة التي تلجأ إلى مثل هذه الوسائل، دفاعًا عن مصالحها، ضد صحة البشر…
في بداية شهر آذار/مارس 2012، أعلن المعهد الفرنسي للبحوث الطّبّية والصّحّيّة، أن دواء “ميدياتور” الذي سَمحت الدّولة بترويجه، لفترة ثلاثة عُقُود، لمكافحة السّكّرِي، والسّمنة، واستهلكه حوالي 300 ألف شخص في فرنسا لوحْدها، كان مسؤولاً، بشكل مُؤكّد، عن ما لا يقل عن 1300 حالة وفاة، بسبب تَلَفِ صمام القلب بشكل رئيسي، وتمكّن الأطباء، في مُسْتَشْفَيات القطاع العام، من إنقاذ ما لا يقل عن ثلاثة آلاف من ضحايا هذا الدّواء، ويُؤكّد معظم الباحثين إن الأرقام المُعْلَنَة أقل من الواقع، واتهم بعض المهنيين السلطات العامة بالبطء في الاستجابة للتحذيرات المتكررة، وبعد أكثر من عشر سنوات من الجدل بين الباحثين والعُلماء، أقرت شركة مختبرات “سيرفييه”، بأن عقار “ميدياتور” الذي تُنْتِجُهُ “يُشَكّل خطراً فعلياً على بعض المرضى”، وفتحت النيابة العامة في باريس تحقيقاً تمهيدياً حول حالات الوفاة التي سَبّبَها عقار “ميدياتور”، بعد ثلاث وثلاثين سنة من ترويجه في الأسواق، وجَنْيِ الشركة أرباحًا هامة من بيعه، وأسْعفت السلطات القضائية والتنفيذية هذه الشركة بفترة طويلة لطرح بديل في الأسواق.
عقار “ديباركين”:
يُسْتخدَمُ عقار “ديباركين” ( Deparkine ) لمعالجة مرض “الصّرع”، والصّداع النّصْفِي، ويتركب من جُزَيْئات ( molecules ) “فالبروات الصوديوم”، بدأت شركة “سانوفي” الذي تصنعه، ترويجه في الصيدليات والمُستشفيات، سنة 1967، تحت إسم “ديباركين”، وتحت علامات تجارية أخرى أيضًا، ووقع تصميمه في الأصل لعلاج الأشخاص الذين يُعانون من “اضطراب ثنائي القطب”، ووصَفَهُ الأطباء لعدد هام من النساء الحوامل، ما عَرّض الأجنة إلى أخطار جسيمة، خلّفت تَشَوّهات خلقية لدى المواليد الذين استهلكت أمهاتهم هذا الدّواء، أثناء الحمل، وأثبت مُحامو جمعية ( Apesac ) التي تتولى الدفاع عن أربعة آلاف طفل يعانون من التشوهات والتأخر في النّمو، العلاقة بين “فالبروات الصوديوم” الموجودة في الدواء، ونشوء اضطرابات نمو حركية وإدراكية وعقلية، أو تشوهات جسدية وذهنية، للأطفال في 30% إلى 40% من حالات استهلاك النساء الحوامل لعقار “ديباركين” (المُعَدّ أساسًا لعلاج الصّرْع والصّداع النّصفي)، وبعد سنوات من الجهود التي بذلها الأطباء والضّحايا وبعض الجمعيات، بدأ القضاء تحقيقًا، في أيلول/سبتمبر 2016، وبعد ثلاث سنوات من التحقيق (خلافًا للقضاء السريع والمتسرع الذي يُحيل النقابيين والمتظاهرين وأبناء الأحياء الفقيرة إلى القضاء وإدانتهم بسرعة قياسية)، أعلنت هيئة قضائية فرنسية توجيه تهمة “الخداع” و “إلحاق الضّرَر بالغَيْر، عن غير قَصْد” و “التّقْصير في التنبيه بشأن المخاطر والأعراض الجانبية…”، خلال الفترة بين 1990 و 2015، كما رفعت عديد الأسر في فرنسا وسويسرا وغيرها دعاوى قضائية مدنية ضد شركة “سانوفي”، وضد أطباء نصحوا النّساء بتعاطي عقار “ديباكين” المضاد للصّرع أثناء فترة الحمل، دون التّحذير من المخاطر الناتجة عن تناول العقار، والواقع أن شركة “سانوفي” أدمجت، بعد تنبيهات عديدة من هيئات رقابة الأدوية، التّحذير الوارد في وثيقة “طريقة الإستخدام”، بخط صغير جدا، وفي وقت متأخر، سنة 2015، بعد حصول إحصاء ما لا يقل عن 6500 متضرر في فرنسا، رغم التحذيرات التي أطلقها بعض الباحثين، منذ سنة 2003، من مخاطر تشوّه الجنين، دون أي رد فعل من هيئات الرقابة الصحية في فرنسا، ونَشَر باحثون في مجال الأوبئة، تقريرًا أشرفت على إعداده الباحثة والعالمة “كاثرين هيل”، يُقدّر عدد النساء الحوامل اللاتي تعرضت أجنَّتُهُن لخطر عقار “ديباركين” بنحو مائة ألف، حتى سنة 2015، وعدد المواليد المُتضررين بأكثر من 30400 خلال خمسة عُقُود، وأشارت دراسات أخرى إلى الأضرار التي ألحقها مصنع شركة “سانوفي” لإنتاج عقار “ديباركين”، في “مورنيكس” (محافظة سلسلة جبال بيرينيه الشرقية – 66) بالبيئة، وتصريف مواد سامة من مكونات “فالبروات الصوديوم” (من بينها مادة “بروموبروبان”) وانبعاثات ضارة بالبيئة وبالمحيط الطبيعي، وبالمياه وبصحة الإنسان…
تواطؤ أجهزة الدّولة مع رأس المال:
بعد قرابة عشر سنوات من بدء احتجاجات أهالي الضحايا، أعلن جهاز القضاء (وهو جهاز في خدمة الدّولة، ويخضع لقرارات سياسية بحتة) توجيه تهمة الخداع، ولكن إعلان بدء الإجراءات القانونية لا يعني انتصارًا للضحايا، لأن ذراع الشركات (ومنها شركات الأدوية) طويلة، فهي تُمول الأحزاب ووسائل الإعلام (عبر الإشهار والمقالات مدفوعة الأجر، حسب الطلب) والحملات الإنتخابية للنواب وتُرْشِي الزّعماء السياسيين وكبار المسؤولين الإداريين، وتُرشي الأطباء والباحثين، من خلال عملية تمويل البحوث العلمية، وأعلنت الدولة، من جهتها، إنشاء صندوق لتعويض الضحايا، ورفضت شركة “سانوفي” المُساهمة في صندوق تعويض ضحايا إنتاجها من العقاقير، دون خشية من أي تتبعات أو عقوبات، وانتشرت في الفترة الأخيرة أنباء عن التّحذيرات التي أصدرها العديد من العلماء وخُبراء الأدوية ومن الهيئات الرسمية، بشأن المخاطر التي لا يُعلنها بعض مُصنّعي الأدوية، رغم علمهم بهذه المخاطر، وأشارت جمعية “أبيساك” التي تتولى الدفاع عن ضحايا عقار “ديباركين” أن خُبراء “المُفَتّشِيّة العامة للشؤون الصحية” (إيغاس)، وهي هيئة رسمية، نَبَّهُوا “الوكالة الوطنية لسلامة الأدوية والمُنْتجات الصحية” (هيئة رقابية رسمية)، منذ سنة 2003، إلى مخاطر إنجاب أطفال مُعاقين، يعانون من اضطرابات اللغة والحركة النفسية والسّلوك والعلاقة مع الآخرين، ولكن الوكالات الرسمية (أي الحُكومات المتعاقبة) أهملت هذه التقارير، كما أنكرت شركة “سانوفي” أي مسؤولية، ولم يقع إعلام النساء الحوامل، أو الأطفال ضحايا عقار “ديباركين” بالأمر، أما الأطباء فإن العديد منهم لا يبذل جهودًا للإطلاع على المخاطر التي قد تنجم عن الأدوية التي ينصحون (يأمُرُون) المرضى بتناولها، فيما يتجاهل الآخرون النتائج السلبية لمشاركتهم في جريمة “سانوفي” وغيرها من الشركات التي تُتاجر، وتُضارِبُ بصحة البشر…
خاتمة:
لا يعدو ما ورد في هذه الوَرَقَة سِوَى نموذج أو جُزء بسيط من استهتار الشركات العابرة للقارات بصحة الإنسان وبسلامة المُحيط، ونشَأت جميع هذه الشركات في الدّول الرأسمالية المتطورة، مَهْد العقائد العُنْصُرية والفاشية ومهد أشكال الهيمنة الحديثة، وإبادة عشرات الملايين من الأمريكيين الأصلانيين، عبر نشر الجراثيم والأوبئة، ومن سكان كندا وأستراليا ونيوزيلندا، وغيرها، ولا تتردّد شركات العقاقير والمُخْتَبَرات في تجربة أدويتها واستخدام أطفال نيجيريا أو مصر أو الهند وغيرها، كحقل تجارب في مستشفيات الدولة، وبتواطؤ من الدولة، سواء في بلد المَنْشَأ أو في البلدان الفقيرة، أما الفضائح التي تطفو على سَطْح الأحداث فهي قليلة، وتظهر عندما تَتَبَيَّنُ النتائج السلبية في البلدان الغنية، وإن كان الفُقراء، من البالغين أو الأطفال، هم في مقدّمة الضّحايا، في البلدان الفقيرة كما في البلدان الغنية، وتمتلك الشركات العابرة للقارات ما يكفي من المال والنفوذ، للإفلات من العقاب، عبر تواطؤ جهاز الحُكم، والزعماء السياسيين، ونواب البرلمانات ومالكي وسائل الإعلام، لأنهم جميعًا ينتمون لنفس الطبقة، ويروجون العداء والحقد الطبقي والإحتقار للكادحين والفُقراء، حيثما وُجِدُوا، ولا تمكن مجابهتهم سوى باتحاد الفُقراء والكادحين، سواء داخل كل بلد، أو على مستوى عالمي…
_________ الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.