منطق القوة في السياسة الخارجية الأمريكية، الطاهر المعز

هذا المقال واحد من مجموعة مقالات، نُشِرَ مُعْظَمُها، وتتناول جوانب متنوعة من واجهات الإمبريالية الأمريكية، وآخرها مقال بعنوان: أمريكا وحالة “الحرب الدّائمة” – نموذج آسيا الوسطى (الطاهر المعز 05/02/2020 )

مُقدّمة:

أَشَرْتُ في مقال سابق إلى مَقُولةٍ، عن تعريف الدبلوماسية، نُسبتْ إلى “ثيودور روزفلت” (1858 – 1919)، الذي كان رئيسًا للولايات المتحدة، من 1901 إلى 1909، وملخص هذه المقولة: “الدبلوماسية هي أن تضع عصا غليظة على الطاولة ثم تتحدث بهدوء”، أي أن تُهدّدَ مُخاطبَك باحتلال وطنه، باستخدام ألفاظ ناعمة، وبصوت هادئ أو مُنْخَفِض، ليتّجِهَ نَظَرُ المُخاطب إلى العصا الغليظة، فينْصاع إلى الشروط الأمريكية. واخْتَفَى الشكل الهادئ (مع مراعاة النِّسْبِيّة) منذ “رونالد ريغن” (1911 – 2004) الذي ترأس أقوى دولة امبريالية من سنة 1981 إلى سنة 1989، وخاصة في عهد “دونالد ترامب”، حيث يترافق الصُّراخ والسباب والشتائم والبذاءة والإبْتزاز، مع العصا الغليظة.

أشَرْتُ كذلك، في مناسبات أخرى، أن الدعاية الرسمية تدّعي أن “الأشرار وحدهم يكرهون أمريكا لأنها منارة الديمقراطية، ولأنها تُجسّد القِيَمَ السامية”، رغم الرقم القياسي العالمي لعدد السّجناء، مقارنة بعدد السكان، ورغم المَيْز والعُنف ضد النّساء، حيث يُعتبر القَتْل المُتعمّد للنساء، خامس أسباب وفاتهن في الولايات المتحدة، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” 01/02/2020، كما أَشَرْتُ إلى “عَسْكَرَةِ” السياسة الخارجية، فارتفعت ميزانية الحرب إلى مستويات قياسية (738 مليار دولارا مُعْلَنَة، لا تتضمن ميزانية المخابرات العسكرية، أو سبعين مليار دولار ل”العمليات الخارجية”…)، لِيُصْبِح القرار العَسْكَرِي مُحَدّدًا لِمسار الدبلوماسية الأمريكية، وزيادة دور “مُجَمّع الصناعات العسكرية” في تحديد استراتيجيات وأَوْلَوِيّات السياسات الخارجية الأمريكية، إلى جانب الشركات الكُبْرى العابرة للقارات، ومنذ رئاسة “دونالد ترامب” ( بداية سنة 2017) أصبح جُزْءٌ من هذه الشركات (ومن بينها شركات التقنيات الدقيقة) يُعارض شكل هذه السياسات، وليس جَوْهَرَها (ربما باستثناء الحرب التجارية)، ويُعارض المُشرفون على هذه الشركات لُغة البذاءة والإستفزاز والإبْتزاز، لأنها قد تُهدّد مصالح هذه الشركات في بعض مناطق العالم، كما خلقت هذه السياسات الأمريكية شُرُوخًا في صف الحلفاء، في حلف شمال الأطلسي، وخلافات بين أمريكا وجيرانها (كندا والمكسيك) وخلافات مع الإتحاد الأوروبي، وغيرها، ما قد يُؤدّي، على مدى متوسّط إلى شروخ أعمق، وربما خط اللاعَوْدَة…  

تحاول الولايات المتحدة فَرْضَ الأمر الواقع، عبر القوة العسكرية، وعبر الدولار، والتّحكّم في المنظومة المالية ونظام التحويلات، وتسديد قيمة المبادلات التجارية، وغيرها، وعززت أمريكا الإمبريالية نفوذها في أمريكا الجنوبية عبر الإنقلابات، ودَعّمت قوى اليمين المتطرف (كولومبيا والبرازيل وتشيلي وبوليفيا، وقوى المُعارضة في فنزويلا والأرجنتين…)، كما حَقَّقَت للكيان الصهيوني مَكاسب لم يكن ينوقعها، وفي آسيا، يزور الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الهند ليلتقي زميله اليميني المُتطرف “ناريندرا مودي” يوميْ 24 و 25 شباط/فبراير 2020، لتعميِق الروابط القوية وتعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية بين الهند والولايات المتحد، بحسب بيان البيت الأبيض، بعدما تحولت الهند من رائدة حركة “عدم الإنحياز” إلى الشريك الإستراتيجي للولايات المتحدة، خصوصًا، خلال فترة حكم حرب “بهاراتيا جاناتا” اليميني المتطرف، لِتصطَفّ الهند مع أمريكا ضد الصين التي تحاول الولايات المتحدة محاصرتها عسكريا وتجاريا ومالِيًّا ودبلوماسيا، فيما تحولت الممَرّات المائية، بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، مرورًا بقناة السويس والبحر الأحمر والخليج، إلى قواعد عشكرية أمريكية بحرية وجوية، وحاصر مثل هذه القواعد الوطن العربي، في المحيط الأطلسي، وفي الصحراء الكبرى، على الحدود الجنوبية للمغرب العربي، وفي “القرن الإفريقي”، كما في تركيا الأطلسية المُتَصَهْيِنَة، وأفغانستان، وأُضيفت الهند تدريجيا إلى الحلف الأمريكي المُعادي لمصالح شعوب العالم، بعد أن كانت باكستان تلعب دور القاعدة الأمريكية…

 القوة العسكرية في خدمة القُطْب الواحد:

خَلَت الساحة للإمبريالية الأمريكية، منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، وبدل إنهاء دور حلف شمال الأطلسي، الذي كان يتَّسِمُ دَوْرُهُ “بمحاربة الشيوعية”، أي الإتحاد السوفييتي (بأيّ مُسَوِّغ ؟؟؟)، تَوَسَّعَ هذا الحِلْف العُدْواني، بإرادة أمريكا، التي أصبحت تُوَجِّهُ العالم، عبر التحكم في المُؤسّسات الدّولية، أو عبر القُوّة، وِفْقَ مصالح شركاتها، ووفق اتجاه المصالح الإستراتيجية الأمريكية، وفَرَضَتْ على العالم زيادة الإنفاق العسكري، الذي يَخْدِمُ المُجَمّع الصناعي العسكري الأمريكي، وبدل انخفاض الإنفاق على شراء الأسلحة في العالم، بانهيار الخَصْم (الإتحاد السوفييتي)، ارتفع هذا الإنفاق بنسبة 150% خلال 15 سنة، من سنة 2001، إلى سنة 2016، ليصل الإنفاق سنة 2016 إلى نحو 1,7 تريليون دولارا، والإنفاق الإجمالي طيلة الفترة 2001 – 2016 إلى 24,5 تريليون دولارا، وارتفع الإنفاق العسكري العالمي، سنة 2019، بنسبة 4% ليشهد أكبر زيادة، منذ الأزمة المالية (2008/2009) خلال عشر سنوات، فيما ارتفعت ميزانية الحرب الأمريكية، بنسبة 6,6%، وضغطت الولايات المتحدة على أعضاء حلف شمال الأطلسي، من أجل شراء المُعدّات العسكرية الأمريكية، وزيادة الإنفاق العسكري، كنسبة من الناتج الإجمالي المَحَلِّي، بحسب التقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) ، الذي نشر يوم الجمعة 14 شباط/فبراير 2020، قبل بدء مؤتمر ميونيخ للأمن، وعملت الولايات المتحدة على إنهاء العمل بكافة المعاهدات والإتفاقيات الدولية للحد من انتشار الأسلحة الفَتّاكة (الواقع أن كل الأسلحة فتّاكة، مع تفاوتٍ في قُوّة الفَتْك)، كما كثفت الولايات المتحدة من إظهار قُوّتها العسكرية، في المحيط الهادئ، في قارة آسيا، قريبًا من الصّين، وفي شرقي قارة أوروبا، قريبًا من روسيا، وفي الخليج، قريبًا من إيران، ومن منابع النفط والغاز، ومن الطريق المائية للتجارة، الرابطة بين المُحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسّط…

بلغت قيمة الدّيْن الأمريكي نحو 22 تريليون دولارا، في بداية سنة 2020، وكانت الدعاية الإنتخابية للحزب الجُمْهُوري تُركّزُ على “سَدّ العجز في الموازنة خلال عقد واحد”، لكن مشروع موازنة سنة 2021 (نُشر المشروع يوم 10 شباط/فبراير 2020) بقيمة 4,8 تريليونات دولارا، يجعل الإنفاق العَسْكَري مُستقرًّا، في حُدُود 738 مليار دولارا، مُعْلَنة (لا تتضمّن العديد من أبواب الإنفاق العسكري)،  ويخفض الضريبة على أرباح الشركات، وعلى الثروات المرتفعة، ما يُخفض إيرادات الدولة الإتحادية، ويزيد من أعباء الأُجراء والفُقراء، عبر خفض وإلغاء ميزانيات البرامج ذات الصبغة الإجتماعية (المساعدات الغذائية والرعاية الصحية، وغيرها)، ما يُشكل خطرًا على صحة ملايين الأطفال، وعشرات الملايين من الفُقراء، وخفض ميزانية وزارة الخارجية بنسبة 22%، ما يُبيِّنُ عَسْكَرَة السياسة الخارجية، وخفض “المساعدات”، عبر خفض ميزانية وكالة التنمية الدولية (يو إس آيد)، التي تُقدّم تمويلات مَسْمُومة، ويتضمّن مشروع ميزانية 2021، خفض موازنة “وكالة حماية البيئة” بنسبة 26,5%، ونفقات وزارة الصحة بنسبة 9%، وميزانية وزارة التعليم بنسبة 8%، ووزارة الإسكان 15,2%، مع زيادة نفقات “الأمن الدّاخلي”، وإنفاق مليارَيْ دولار لمواصلة بناء جدار ضخم على حدود المكسيك (645 كيلومترا)، بقيمة إجمالية تفوق 6,5 مليارات دولارا، ما يُبَيِّنُ أن السياسات العُدْوانية في الخارج، تنعكس على الدّاخل، في صورة حَرْبٍ تَشُنُّها الدّولة الأمريكية على الفُقراء، عبر زيادة ميزانيات “الأمن الدّاخلي”، وخفض ميزانية الصحة والتعليم، وخفض النفقات الإجتماعية…

عندما تُغَيِّرُ الولايات المتحدة أوْلَوِيّاتها ومُخَطّطاتها، كما يجري، منذ 2012 (خلال فترة رئاسة “باراك أوباما”، وشَراكَتُهُ السياسية مع عشيرة “كلينتون”)، حيث حوّلت قسمًا هامّا من القوة البحرية (منها حاملات الطائرات) نحو آسيا، لمحاصرة المسالك المائية التي تمر منها تجارة الصين، وأعاد الجيش الأمريكي انتشاره وحَصّن القواعد العسكرية في كوريا الجنوبية وفي اليابان، وأنشأ قاعدة بحرية – جوية ضخمة، جديدة، شمال أستراليا، ثم نقلت عددًا من القوات والعتاد إلى حُدُود روسيا، ولم تستشر الولايات المتحدة شُركاءها في حلف شمال الأطلسي، لأن أمريكا تتخذ القرارات وتنفذها، وفق ما تقتضيها مصالح الشركات الأمريكية، والمُجمّع الصناعات العسكرية الأمريكية، ثم تأمُرُ الشُّرَكاء (الحُلفاء) بتسديد الثمن، ما أثار خصومات بشأن الثمن المرتفع جدا للطائرة الأمريكية “إف 35” التي وجب على أعضاء الحلف، وخاصة الأعضاء الأوروبيين تسديد ثمنها، في حين حصل عليها الجيش الصهيوني، قبل أي شريك آخر، وبدون مُقابل، في إطار الدّعم العسكري الأمريكي للعدو الصهيوني…

يُمْعِنُ الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في إهانة شُركائه، ولم يُكلف نفسه لقاء الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (شتولتنبرغ)، وبقية أعضاء الحلف، بل أَمَرَهُ بواسطة الهاتف، بإعادة انتشار قوات الحلف في المشرق العربي، وفي منطقة البحر الأحمر والخليج بشكل خاص، فاستجاب المَأمور، ولم تعترض أوروبا عَلَنًا، كما لم يعترض أي عضو، رسميا، على القرار الأمريكي، وشارك الأمين العام لحلف شمال الأطلسي  في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، ليُحذِّرَهم (وكأنه ناطق باسم الولايات المتحدة، وليس باسم الحلف) من مَغَبَّة محاولات التّباين في المواقف (وليس حتى في الأفعال)، وليأمرهم ببقاء الإتحاد الأوروبي إلى جانب الولايات المتحدة، زعيمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، “في آسيا وفي أوروبا وفي الشرق الأوسط”، وإمعانًا في فَرْض الأمر الواقع، أرسلت الولايات المتحدة، إلى منطقة الخليج، حوالي 14 ألف جندي إضافي، بنهم حوالي 4500 من المِظَلِّيِّين، بينما يُعلن “دونالد ترامب” خفض عدد الجنود، وطلبت أمريكا من أعضاء الحلف مشاركتها تحمل أعباء نفقات البنتاغون لتعزيز الإحتلال العسكري الأمريكي للعراق (عبر الجنود النظاميين وعبر المُرتزقة)، ولحدود العراق مع سوريا، واحتلال مناطق تواجد حقول النفط والغاز، في الشمال الشرقي لسوريا، المُحاذي للعراق، وتهدف الولايات المتحدة زيادة توريط “الحُلفاء” الأوروبيين في سوريا والعراق، وفي حصار إيران، كما تهدف زيادة توريط الإتحاد الأوروبي، وبقية “الحُلَفاء” في ما تُسمية الدّعاية الرسمية الأمريكية “الدفاع عن أوروبا ضد التهديد الروسي”، وقررت أمريكا إعادة نشْر قواتها في أوروبا الشرقية، وزيادة عددهم، خلال النصف الأول من سنة 2020، إلى نحو عشرين ألف جندي أمريكي، كما قررت أمريكا تنفيذ مناورات، بعنوان “دفاعًا عن أوروبا”، خلال شَهْرَيْ نيسان/ابريل، وأيار/مايو 2020، بمشاركة ما لا يقل عن عشرة آلاف جندي أوروبي، وقرابة ثلاثين ألف جندي أمريكي، بينهم حرس الحدود، وهي أكبر مناورات في أوروبا، منذ 25 سنة…

تأتي هذه المناورات في إطار قرار الولايات إعادة انتشار قواتها في أوروبا، وتركيز القواعد في البلدان والبحار المُحيطة بِرُوسيا، وصدق برلمان اليونان (عضو حلف شمال الأطلسي) على “اتفاق التعاون من أجل الدفاع المتبادل”، الذي يمنح الولايات المتحدة، استخدام جميع القواعد العسكرية اليونانية، سواء للتدريب أو لتخزين الأسلحة، أو كنقطة انطلاق لهجوم عسكري أمريكي مُحْتَمَل، ولتَبْرِير هذا الإتفاق، صَرّح وزير الدفاع اليوناني: “سوف يستثمر البنتاغون حوالي ستة ملايين يورو جديدة، إضافة إلى 12 مليون يورو كانت مُقرّرَة سابقًا…”، وفي الواقع، اشترطت الولايات المتحدة على اليونان شراء طائرات حربية أمريكية من طراز “إف 16″، بقيمة 1,6 مليار دولارا، وشراء طائرات “إف 35″، مرتفعة الثمن، وطائرات أمريكية مُقاتلة أخرى، وبموجب اتفاق استغلال أمريكا للقواعد البحرية – الجوية اليونانية، سوف يُشرف الجيش الأمريكي مباشرة على النقل البحري في بحر “إيجة”، ومضيق “الدردنيل”، وهي طريق تجارية أساسية لروسيا، كما تقع ضمن مَسار خط أنابيب الغاز الروسي “ترك ستريم” (السَّيْل التُّرْكي)، وأعلنت الولايات المتحدة أنها تعتزم الإستثمار في تعزيز البُنْيَة التحتية ولتوسيع قاعدتها العسكرية في ميناء “ألكسندروبولي”، بهدف إبْعاد روسيا والصين عن جنوب أوروبا، وتجدر الإشارة أن نواب ائتلاف “سيريزا”، الذي كان يَدّعِي انتماءه لليسار، امتنعوا عن التصويت، بشأن هذه الإتفاقية بين اليونان والولايات المتحدة.

 الإستفزاز والإبتزاز كأُسْلُوب حُكْم:

وَعَدَ “دونالد ترامب” باستعادة القوة الاقتصادية، وإعادة المجد للصناعات الأمريكية، ووضع حد لتسريح العُمال، وادّعى، في بداية سنة 2020، أن سياسته خلقت طفرة اقتصادية استثنائية، لم تعهدها أمريكا من قَبْل، وكان قد وَعَدَ بوضع حدِّ للهدر والفساد، ووعَدَ بتقليص عجز الموازنة إلى الصفر، لكنه أجّل ذلك إلى سنة 2035، مُعترفًا بأن تقليص عجز الموازنة غير ممكن خلال عشر سنوات، وألقى بالمسؤولية على خُصُومه السياسيين الداخليين من الحزب الديمقراطي في مجلس النواب، لأنهم يُعرقلون خؤطَطَهُ وبرامجَهُ، وتوقعت موازنة سنة 2021 ارتفاع العجز السنوي إلى حوالي 456 مليار دولارا، لكن فَحْصًا دقيقًا للبيانات والجداول يُشير إلى ارتفاع العجز إلى نحو تريليون دولار للمرة الأولى منذ سنة 2012، ما يجعل الكذب المفضوح، من شِيَمِ الرؤساء الأمريكيين، وهو من الصفات الرئيسية للرئيس الحالي  “دونالد ترامب”، الذي يُحاول كذلك، تحويل الإستفزاز والإبتزاز إلى مكاسب سياسية وانتخابية.

دأب “دونالد ترامب” على نَشْر البذاءة، عبر التصريحات العدوانية والإستفزازية، وعلى ابتزاز السعودية وشُيُوخ نفط الخليج، ويطالبهم، بشكل مستمر، بتسديد المزيد من الأموال، مُقابل حماية عُرُوشِهم، وكان قد أعلن أن عرش السعودية سوف ينهار بمجرد امتناع أمريكا عن حمايته، وكانت هذه الدّوَيْلات تُخصّص ميزانيات ضخمة للإنفاق على إنشاء وإدارة القواعد العسكرية الأمريكية، ولكن الرئيس الأمريكي يَطْلُب (أو يأمُر ب) دائما المزيد.  

أعلن “دونالد ترامب”، في شهر أيار/مايو 2017، في السعودية، خلال أول رحلة خارجية له بصفته رئيسًا، أنه عقد صفقة لبيع الأسلحة للسعودية بقيمة 110 مليارات دولارا، وأن مبيعات الأسلحة تخلق وظائف داخل الولايات المتحدة، للعمال الأمريكيين، وحاول استغلال مثل هذه الصفقات، لتحويلها إلى مكاسب انتخابية لصالحه، في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، وادّعى، خلال زيارة لولي العهد السعودي (آذار/مارس 2018) أن صفقات بيع الأسلحة للسعودية، سوف تخلق نصف مليون وظيفة، في بعض الولايات التي حاز فيها على أغلبية، في انتخابات 2016، ومن بينها ولايات أوهايو وبنسلفانيا وميشيغان، وشَكّك بعض الصحافيين والباحثين الأمريكيين في صحة هذا الإدّعاء، وقدّروا أن إجمالي عُقُود مبيعات الأسلحة، خلال السنوات 2017 – 2019، لن تخلق وظائف لأكثر من 0,3%، من إجمالي قوة العمل الأمريكية، البالغة حوالي 165 مليون عامل…

لا يكتفي “دونالد ترامب” بابتزاز عرب النفط، بل يبتز أيضًا اليابان وكوريا الجنوبية، حيث توجد أضخم القواعد الأمريكية، كما يبتز أوروبا، وأعضاء حلف شمال الأطلسي، ويأمرهم بشراء الطائرات المقاتلة الأمريكية “إف 35″، من تصنيع الشركة الأمريكية “لوكهيد مارتن”، وهي أغلى نظام للأسلحة في التاريخ، ويدّعي “دونالد ترامب” أن تصنيع الطائرة خلق 125 ألف وظيفة، لكن النقابات الأمريكية قدّرت عدد هذه الوظائف بأقل من ستين ألف، كما قَدّرت التّكاليف السنوية للحروب الأمريكية بنحو 125 مليار دولارا (تستعيدها الولايات المتحدة بشكل أو بآخر)، ونشرت جامعة “براون” دراسة أظهرت أن استثمار هذا المبلغ في “التّصنيع الأخضر” (في البيئة والطاقة النظيفة وفي إنتاج الموارد غير الملوثة)، وفي تحسين المُحيط الذي يُؤثّر مباشرة على صحة المواطنين، قد يؤدي إلى خلق 250 ألف وظيفة، بحسب صحيفة “ذا نايشن”، وتعمل الولايات المتحدة على ابتزاز أعضاء حلف شمال الأطلسي، وزيادة مساهمتهم في ميزانية الحلف، لتتمكّن أمريكا من تمويل برامجها الحربية، ومن بينها تصنيع الدبابات في ولاية “أوهايو”، والمدافع في ولاية “بنسلفانيا”، والمركبات المدرعة والسفن الحربية في ولاية “ويسكونسن”، ليتمكن “دونالد ترامب” من تصنيفها كإنجازات خاصة به، وتحويلها إلى أصوات في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2020…

تشير مسودة مشروع الميزانية للسنة المالية 2021 إلى طلب تمويل إضافي لتجنيد وتسليح وتدريب قوات الأمن الدّاخلي، بهدف قمع الإحتجاجات الدّاخلية، إلى جانب تعزيز صندوق عمليات الطوارئ الأجنبية ( OCO )، الذي يُشرف على تمويل العمليات القتالية، وغزو الأراضي الأجنبية، في أفغانستان وسوريا والعراق، وغيرها، حيث تثشارك جميع أنواع الجُيُوش والأسلحة الأمريكية، بما فيها الطائرات الآلية، في العدوان على شُعُوب هذه المناطق، وتَطلب الحكومة الإتحادية الأمريكية تمويل هذه العمليات، وغيرها من البرامج الحربية العُدوانية، عبر خفض الإنفاق، على مدى عشر سنوات، بقيمة حوالي تريليُونَيْ دولار، على برامج توزيع قسائم الغذاء، والرعاية الصحية للفقراء، وذوي الإحتياجات الخاصة (ذوي الإعاقة)، مع تمديد التخفيضات الضريبية للشركات والأثرياء…

أضرار الحلفاء، نموذج أوروبا:

تضرر حلفاء أمريكا في أوروبا من السياسات الأمريكية، فخسرت شركات ألمانيا وفرنسا السوق الإيرانية، وكذلك السوق الروسية، ولكن بعض الشركات الأوروبية تحاول، بدعم من الحكومات، التّمرّد على الأوامر الامريكية، بشأن شبكة الإتصالات “جي 5″، التي تمكنت شركة “هواوي” الصينية من تَبَوّإ مكانة الريادة في ابتكارها وتصنيعها وتوزيعها، ويتطلب اللحاق بالشركة الصينية، فترة زمنية لا تقل عن سَنَتَيْن، رغم العُقوبات والعراقيل الأمريكية، وبعد نقاشات دامت عدة أشهر، قرر الإتحاد الأوروبي (رغم الضغوط الأمريكية) السماح لشركة “هواوي” بالمُشاركة في عُروض سوق أوروبا للإتصالات، خلافًا لليابان وأستراليا ونيوزيلندا، والدول الأخرى التي نَفّذَت الأوامر الأمريكية، وأقْصَتْها من شبكة الإتصالات المَحَلِّية.

تشكّل عملية الانتقال إلى الجيل الخامس، ثورة في التطور التكنولوجي لشبكات الإتصال، من الهواتف المحمولة، إلى مجال السيارات الآلية، والتجهيزات المُسماة “ذكية”، أي حوالي خمسمائة مليار آلة مُتّصِلَة ببعضها، في العالم، بواسطة استخدام “الذكاء الإصطناعي”، وتُقدّر قيمة هذه السّوق بحوالي 225 مليار دولارا، سنويا، وتتميز الشركة الصينية “هواوي” بتطوير تقنيات التّحكّم بجميع العمليات التي تتطلبها شبكة “جي 5″، بتكلفة غير مرتفعة، خلافًا لمشاريع الشركة الفنلندية “نوكيا” والشركة السُّوَيْدِيّة “إريكسون”، وهما لم تبلغا مستوى التطور التقني لشركة “هواوي”، ما يُبرّر قرار الإتحاد الأوروبي، رغم التهديدات الأمريكية، وتُخطط الصين لكي تُصبح متفوقة على جميع الدّول، في المجال، بين سَنَتَي 2030 و 2049، سنة الإحتفال بالذكرى المائوية للتحرر من الإحتلال الياباني، وانتصار الثورة الصينية، سنة 1949.

برّرت حكومة الولايات المتحدة الحظر الذي تتعرض له شركة “هواوي” بأنها تتجسس لصالح الحكومة الصينية، لكن لم تتمكن الولايات المتحدة من إثبات هذا الإدّعاء، بينما تُثْبِتُ الوقائع أن الولايات المتحدة ومخابراتها تَجَسَّسَت بالفعل، على رؤساء الدول الحليفة، وعلى المنافسين والخصوم، بدون استثناء، في تجسيد لازدراء الحلفاء، ونشرت الصحف السويسرية يوم 12 شباط/فبراير 2020، نتائج تحقيق عن استخدام وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ودائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية، الأراضي والشركات السويسرية، لفترة عشرات السنين، للتجسس واستخدام تقنيات متطورة لكشف مضمون الرسائل السرية لدول أخرى، وكانت قد راجت أخبار عن عمليات التجسس هذه، منذ قرابة ثلاثة عُقُود، عن استخدام الإستخبارات الأمريكية للأراضي سويسرا “المُحايدة”، والتي تضم عدة منظمات دولية، للتجسس الأمريكي على دول أخرى، بتواطؤ من الحكومات السويسرية المُتعاقبة، بحسب صحيفة “تريبون دي جنيف”، وأعلن التلفزيوني العمومي السويسري (إس إف آر) أن شركة سويسرية لتشفير اتصالات قامت، بدعم من الحكومة السويسرية،  منذ سنة 1970، وحتى سنة 2018، حيث وقعت تصفية الشركة، بعد افتضاح أمر تعاونها الإستخباراتي، بتعديل تقنيات تشفير الرسائل، التي باعتها لعشرات الدول، لتتمكن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ودائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية من اختراق الرسائل والكشف على مضمونها، بدعم من الحكومة السويسرة وأجهزة القضاء والشرطة والجيش والمخابرات السويسرية، التي تعاونت جميعها، لإنجاح البرنامج الأمريكي للتجسس على السعودية وإيران وباكستان والهند ومعظم دول أمريكا الجنوبية، وغيرها (حوالي 120 دولة)، خلال عقود، وتمكنت بريطانيا من الحصول على معلومات عن تحركات جيش الأرجنتين في حرب المالفين، والكيان الصهيوني من أخبار عن مواقع الجيش المصري الثالث في سيناء…

خاتمة:

وصف رئيس وزراء العدو الصهيوني “بنيامين نتن ياهو” الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بأنه “أفضل صديق وهبتْهُ الديمقراطية الأمريكية لإسرائيل”، ويمكننا الإقتصار على هذا التصريح، لنُعادِي سياسات الرئيس الأمريكي، ولنقاوم كافة أشكال الهيمنة الإمبريالية الأمريكية التي تقود حَرْبًا عُدْوانية عالمية، بمشاركة حوالي مائة دولة من حلف شمال الأطلسي والكيان الصهيوني، ومن الإتحاد الأوروبي ودُوَيْلات الخليج، وغيرها، ولكنها حرب لا تُوصَفُ ب”العالمية”، ما دام الضحايا من غير الأوروبيين والأمريكيين البيض، وتهدف هذه الحرب العدوانية السيطرة على الثروات، بمختلف أنواعها، والمواقع الإستراتيجية، وتهدف أيضًا إلى فَرْض القُطْب الواحد، والرّأي الواحد والعقيدة الواحدة، من أفغانستان شَرْقًا، إلى إفريقيا وأمريكا الجنوبية غَرْبًا. أما الوسائل المُسْتَخْدَمَة للهيمنة فهي مُتَنَوِّعَة، من أسلحة الدّمار الشَّامل، إلى وسائل الإعلام والبروبغندا، ومن وكالات الإستخبارات والتّجسُّس إلى المنظمات “غير الحكومية”، التي تعمل تحت غطاء العمل الخيري أو الإنساني أو الدفاع عن حقوق الأفراد، والمجموعات الفَرْعِيّة، بهدف خلق انقسامات إضافية في صف الشُّعُوب المُضْطَهَدَة، والواقعة تحت الهيمنة…

تأسّست الولايات المتحدة على جماجم السكان الأصليين الذين تعرضوا إلى الإبادة والمجازر، من قِبَل المُسْتعمِرِين الأوروبيين، ثم تطورت الرأسمالية في أمريكا، على أكتاف العبيد، الذين مَكّنوا المُزارعين، وأصحاب مصانع القُطن والإنتاج الزراعي من إنجاز عملية التراكم الرأسمالي، ليتحول العبيد، بعد “تحريرهم” إلى طبقة عاملة رخيصة، تعمل تحت العُنف والإستغلال الفاحش، لتصبح الولايات المتحدة قوّة عسكرية، يجوب أسطولها البحري المحيطات، فاستعمرت الفلبين وكوبا، وقصفت سواحل المغرب العربي، بين 1810 و 1815…

زوّر النظام الأمريكي تاريخ الولايات المتحدة، وتاريخ الشعوب الأخرى، مُستخدمًا القُوة العسكرية المتحالفة مع رأس المال، والقوة الإعلامية، لإخفاء حقيقة الإبادة والمجازر الجماعية والعبودية والاستغلال العنيف للطبقة العاملة…

في السنوات الأخيرة، وفي داخل الولايات المتحدة، تعززت النزعة العدوانية ضد العُمّال، مع انتشار العقود الهشة والعمل الوقتي وبدوام جزئي، مقابل 7,25 دولارا عن كل ساعة عمل، في حين يطالب العمال منذ سنوات برفع الحد الأدنى إلى 15 دولارا، في الساعة، كما تعززت النزعة العدوانية ضد الفُقراء، عبر تقويض شبكة الحماية الإجتماعية، الذي بدأ منذ فترة رئاسة “الدّيمقراطي” (من الحزب الديمقراطي) “بيل كلينتون”، الذي صادَقَ سنة 1996، على تعديل قانون إصلاح الرعاية الاجتماعية، ما أضَرّ بمصالح الفُقراء، وخلال نفس السنة كثفت الطائرات الحَرْبِية الأمريكية قَصْف العِراق المُدَمَّر والمُحاصَر، في إشارة للرابطة الوثيقة بين القمع الداخلي، والعدوان الخارجي، أما باراك أوباما فقد أقَرَّ تبديد المال العام، لإنقاذ المَصَارف والشركات الكُبرى من الإفلاس، سنة 2008، وتميّزت فترة حكم هذَيْن الرّئيسَيْن بزيادة الإنفاق الأمني، وتسليح قوات الشرطة الداخلية بتجهيزات حربية مُتَطَوِّرَة، لمُحاربة الفُقراء الأمريكيين، وخلال رئاسة باراك أوباما، زاد النفوذ القانوني والفِعْلِي للأجهزة الأمنية، التي زادت من التّجسُّس على المواطنين، وكذاك على “الحُلفاء” في أوروبا، وفي العالم، بذريعة “تعزيز الأمن القومي” (داخل وخارج حدود أمريكا)، بالتوازي مع زيادة التدخّل الخارجي، لتغيير الأنظمة التي لا تنال رضا الإمبريالية الأمريكية، وعُمومًا زاد تدخل الولايات المتحدة المباشر في الوطن العربي، خلال رئاسة بيل كلينتون وباراك أوباما،  وكلاهما من الحزب الديمقراطي…

تشمل الحرب العدوانية جميع هذه الأدوات، وغيرها من الأساليب، من تنظيم الإنقلابات، إلى الرشوة والفساد، بالتوازي مع تطوير قُدْرة الرأسمالية على تجديد نفسها، وعلى تطوير آليات عَملها، ما جعل النقابات الأمريكية والأوروبية، تدعم الإعتداءات على البلدان والشعوب، بذريعة “التدخل العسكري الإنساني” أو “دفاعًا عن الديمقراطية”، وهي نفس الذّرائع التي يستخدمها الإعلام الرأسمالي الإمبريالي…

لا خيار لنا سوى الصّمود ورفض الإستسلام، وممارسة كافة أشكال االمُقاومة، فهي تُمَثِّلُ الأمل، خصوصًا لو تمكّن الواقعون تحت نير الإستغلال والإضطهاد، من تنسيق النضال مع الواقعين تحت الإحتلال، في جميع أرجاء العالم، والإتحاد ضد القوة العسكرية، وضد القوة الإقتصادية للشركات العابرة للقارات، ولا يمكن لنا الإنتصار إذا لم نُقاوم، على رأي مهدي عامل: “لَسْتَ مهزومًا مادُمْتَ تُقاوم”.  

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.