أما آن للفاشلين أن يتنحُّوا، شحادة موسى

“اليد التي استسلمت لا تصلح لأن تبني انتصارًا او استعادة لحق”

انيس صايغ، 13 أيلول

شحادة موسى- كاتب فلسطيني

شباط/ فبراير 2020

سنستخدم في هذه المقالة تعبير عدم النجاح بدلاً من الفشل فربما كان ذلك أقل إزعاجًا لعنجهية القيادات الفلسطينية. هذه القيادات يصعب عليها أن تعترف بالفشل وإلَّا لما ارتضت أن تبقى في مواقعها حتى الآن. هي تتحدث عن نجاحات وانتصارات، مع أنَّ الوقائع تُكذِّبها. أليس بضدها تُعرف الأشياءُ؟

كان العنوان الأبرز لمسيرة “عدم النجاح” استسلام منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة فتح سنة 1988 حين استطاعت الحركة ومحمود عباس على وجه التحديد، تمريرَ اعتراف المجلس الوطني بإسرائيل بخديعة موَّهتْ هذا الاعتراف بمُسمَّى “إعلان الاستقلال”. ويتباهى محمود عباس بتلك الخديعة ويحسبها “عبقرية” مَشتْ على أعضاء المجلس الوطني الذين صفَّقوا للاستقلال بينما كانوا في الحقيقة يصفقون للاعتراف بالقرار 242 (محمود عباس، طريق اوسلو ص 40-41).ولكنَّ الخديعة، بكل المقاييس، عيبٌ على صاحبها، وعارٌ وخيانة عندما تأتي من قيادة لشعب فوَّضها قيادته من أجل التحرير.

وفي مؤتمر مدريد للسلام (1991) كان المرحوم حيدر عبد الشافي رئيس الجانب الفلسطيني في الوفد الأردني- الفلسطيني. وفي المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي أصرَّ عبد الشافي على البدءِ بموضوع المستوطنات ورفض الإسرائيليون. واضطُر عبد الشافي للاستقالة بضغط من ياسر عرفات.

وعلى صلة بموضوع المستوطنات يروي ممدوح نوفل في احد حواراته (كان القائد العسكري لقوات الجبهة الديمقراطية، ومستشارًا سياسيًا وعسكريًا لعرفات، وله كتاب “طبخة اوسلو”) أنّ عرفات سأله عن رأيه باتفاق اوسلو فقال له إنّ الاتفاق لا يعالج مسألة المستوطنات، فقال له عرفات “تفتكر يا ممدوح لمّا ياسر عرفات يرجع حيفضل مستوطنين” ويقصد أنهم سيهربون فزعًا. يُرجع نوفل ذلك الى عدم إدراك عرفات لخطورة المستوطنات، وقد يعزو البعض ذلك الى نرجسيِّة مبالغ فيها، ولكنها في الحقيقة تحايلٌ على الإقرار بالخضوع لإرادة إسرائيل.

وبعد عرفات، انفرد محمود عباس بمسلسل المفاوضات، ومعها تزايدت المستوطنات والمستوطنين في الضفة الغربية والقدس بحيث زاد عدد المستوطنات على 500 مستوطنة وزاد عدد المستوطنين على مليون مستوطن (عرب 48، 24/6/2019).وفي ذلك بدا عباس ومجموعته وكأنهم الطرف الفلسطيني في استكمال مشروع الاستيطان والتهويد؛ وها هو يصرٌّ الآن وبعد الإعلان عن صفقة القرن، على مواصلة نهجه في المفاوضات مع الإسرائيليين. وما مفاخرته بأنه لم يعد يقبل ان تجري المفاوضات بإشراف أميركا وحدها إلّا أُضحوكة.

ومن المضحك المبكي أنَّ كثيرين، أفرادًا وقيادات، يقفون وراء عباس تأييدًا له على مواصلة نهجه هذا؛ في حين أنَّ الموقف الوطني الأصيل تجاه قائدٍ ارتكب هذه الجرائم بحق شعبه ووطنه لا يكون بأقل من عزله وإخضاعه للمحاكمة.غير أنّ هناك فلسطينيين، مثل المصريين في عصر التفاهة، حيث تداعى أعضاء مجلس النواب تحت شعار “علشان يكملها” ليعدِّلوا الدستور كي يستمر السيسي رئيسًا يحكمهم مدى الحياة. فليبقَ عباس علشان يكمِّلها.

أمّا قادة فصائل منظمة التحرير وخصوصًا ما يُسمّى فصائل اليسار فقد كانوا شركاء أصيلين في الاعتراف بإسرائل تحت أكذوبة الاستقلال، وكانوا شركاء علنًا أو ضمنًا في جريمة أوسلو. وقد عاد كثير منهم الى الداخل مع ياسر عرفات وتحت قيادته، ومن بعده تحت قيادة محمود عباس.

ومنذ ذلك الوقت، ولما يزيد على ربع قرن، لم يكن لدى هؤلاء القادة ما يقولونه غير السعي لدى محمود عباس ليغيِّر قناعاته وأسلوبه في المفاوضات. فالجبهة الشعبية، الأعلى صوتًا في هذه المعارضة، لم يترك أمينها العام المساعد مناسبة إلَّا وردّد العبارة الأثيرة لديه “الأخ الرئيس ابو مازن” متوجهًا اليه لاتخاذ الإجراءات التي تسهِّل تحقيق الوحدة الوطنية.

ولقد أحسنت حركة فتح بالردِّ عليهم بما هو أقرب الى المثل الشعبي غير المُستَحَب: “نقول ثور يقولوا احلبوه”. والكلام نفسه مُوجَّه الى الكتّاب والمتابعين المخلصين للقضية الذين يظهر عليهم الارتباكفي تعاملهم مع المواقف السلبية المتخاذلة من السلطة الفلسطينية ورئيسها ومعاونيهم تجاه ما تتخذه إسرائيل من إجراءات الاستيسطان والتهويد وغيرها؛ ومردُّ ذلك أنّ هؤلاء المتابعين لا يزالون يرون في جماعة السلطة وحركة فتح حركة تحرر وطني.

فقد حسمت حركة فتح أمرها وقالت إنَّ المقاومة مرحلةٌ انتهت ونحن الآن في مرحلة بناء الدولة؛ والتصدِّي لإسرائيل يقع على عاتق المجتمع الدولي أولاً لأنه معنيٌ بالسلام. ولذا يرفع مسؤولو السلطة صوتهم منتقدين المجتمع الدولي لأنه لا يتصدى لإجراءات إسرائيل التي لا تخدم عملية السلام (راجع على سبيل المثال تصريحات صائب عريقات). وفي هذا السياق قال القواسمة الناطق باسم حركة فتح إنَ المقاومة الحقيقية مكانها هناك في ميادين الأمم المتحدة حيث يقودها الرئيس ابو مازن باقتدار.

ومع ذلك لا تزال قيادات الفصائل تلوك الكلام نفسه عن تغيير نهج محمود عباس وعن الوحدة الوطنية، لمواجهة صفقة القرن التي تحمل من المخاطر ما لا يحتمل التفرُّج واجترار الكلام.

وحركة حماس؛ أيَّدها أنصار المقاومة في الداخل والخارج عندما استولت على السلطة في غزة، متطلِّعين الى أن تكون سلطة مقاومة شعبية جامعة. غير أن حماس استخدمت السلطة أداة للكسب الحزبي، ووضعت معايير دينية للتوظيف؛ وفرضت إجراءات ليست من مهام حركات المقاومة، مثل التدخُّل في السلوك الخاص للأفراد، وفي الأخلاق العامة، ومنع الاختلاط في المدارس وفي العزف الموسيقي، وفرض ارتداء اللباس “الشرعي” في المحاكم على العاملات في جهاز القضاء، وغير ذلك ممّا يقع في باب أسْلَمة المجتمع؛ ودعتْ الى هدنة طويلة المدى مع العدو من أجل تثبيت الإمارة في القطاع.

وقد دفعت هذه الرؤية والممارسة حركة حماس الى الدخول في صفقات مصالحة مع سلطة أوسلو، وهو ما يتناقض مع الدافع الحقيقي للتخلص من هذه السلطة وإقامة،بدلاً منها، السلطة الشعبية المقاومِة.

وهكذا، بدلاً من أن تكون السلطة في غزة سلطةً شعبيةً تُوحِّد ولا تُفرِّق، أصبحت مصدرَ تفرقة واختلاف بين أبناءِ المجتمع وقُواه السياسية والاجتماعية.

لقد حان الوقت كي تُراجع حماس تجربتها وتعود حركة مقاومة رائدة، وتتعاون مع فصائل المقاومة لإقامة سلطة الشعب المقاوم، يتشارك فيها الجميع، وتكون في خدمة أبناءِ المجتمع كلِّهم ومقاومتِهم الشعبية.

وأخيرًا فإنّ التنحِّي المطلوب هو خطوة أوليَّة في الردِّ على صفقة القرن، وعلى نهج أوسلو وذهنيِّة المساومة. فالمساومة فعلٌ مشروع في المعارك وفي السياسة، كما يقول منير شفيق، ولكنها لا تكون أبدًا على الوطن؛ فالوطن ملك الأجيال ولا يملك أيُّ فريق مهما علا شأنه أن يساوم على هذا الوطن.

لقد حدث في تاريخ الصراعات الكبرى أن تقرَّرت  مصائر أوطان في تسويات تاريخية لها شروطها،ليس هنا مجال الحديث عنها. وما فعلته حركة فتح لم يكن تسويةً تاريخية وإنما مساومةً ومقايضة؛ ذلك أنها منذ البداية كانت تتطلَّع الى الحصول على جزءٍ من الوطن. ثمَّ من قال إنّ الشعب الفلسطيني يقدِّم التضحيات الهائلة على مدى أكثر من قرن من الزمن من أجل أنْ يحصل على جزءِ من وطنه، وليس إزالة الكيان الصهيوني من الوجود الذي يجسِّده شعار التحرير والعودة.

وتبقى كلمة تُوجَّه الى القيادات محلِّ الانتقاد. إنّ هذا الانتقاد لا يَتنكَّر لما قدمتم من جهد وتضحيات في سبيل القضية الفلسطينية، وكثيرون منكم تعرَّضوا للأذى والملاحقة والتهديد لأشخاصهم وعائلاتهم. ولكن من حق جماهير شعبنا التي أصابها الكثير من الوجع تحت قيادتكم أن تقول لكم كفى. إنَّ الفشل، أو عدم النجاح إن شئتم،بغض النظر عن أسبابه، يوجب عليكم التنحِّي، وأن تضعوا أنفسكم وتجربتكم أمام مؤتمر وطني تأسيسي يُفرز قياداتٍ جديدة تحفظ القضية وتتابع المسيرة نحو التحرير والعودة. وإلَّا لن يرحمكم التاريخ ولن يغفر لكم شعبكم.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.