الحلقة (2)
عوامل تقرير نتائج المعركة
يتعذر سرد جملة العوامل المؤثرة في التحقيق ونتائجه، فهي كثيرة وليست دائماً نفسها، ولكن إذا تمحصنا أكثر من تجربة يمكننا الوقوف على العوامل التالية:
1- عقائدية الفصيل الوطني وتراثه: فالايديولوجية الثورية تعني فيما تعني صقل فصيل ثوري بوجه عام يتقن بمهارة عملية التعبئة والتسييس بما في ذلك التشريب الأمني والاعداد المبدأي للمناضل كما أن تراث الفصيل النضالي والتنظيمي ومواقفه ودرجة رقيه وتماسكه تطبع في المحصلة النهائية العضو بنفس الطابع والمستوى. فتراث نضالي خصب وحزب حديدي جذوره عميقة وخبراته عميقة لا بد أن تشكل مناخاً صحياً لتربية وإنشاء منظمات صلدة ومناضلين صلدين.
فبينما فصيلة رخوة ومفككة وفجة بدون تراث ليس بوسعها إلا أن تبني عناصر رخوة ومفككة وفجة وبدون ثراث. ومواجهة التحقيق كصراع مكثف يقتضي مناضلين صلدين وناضجين وعارفين بأفانين العدو ونظرياته. مناضلين جمعيين ربطوا مصيرهم بمصير الجماعة وايثاريين يضحوا بأنفسهم على مذبح أهدافهم، وشجعان يحطموا هيبة المخابرات في اللحظات الحرجة.
ويصعب إذ لم يستحيل على العدو انتزاع اعتراف من مناضل متمرس تعمد بالثورة وعمدها واندمج بها حتى نخاع العظم واتحد معها اتحاداً مقدساً لا فكاك منه، مهما كانت أساليب التحقيق مدمرة وبخاصة مع العناصر والقيادات المسلحة، لأن استئصال روحه أهون من استئصال سرّ دفين.
وهذا ما يفسر حجم الاعترافات الواسع في صفوف الحركة الوطنية، فهي فصائل حديثة العهد بالنضال وعناصرها يتسمون بفجاجة سياسية وايديولوجية وتمارس عملاً ثورياً عالي الوتائر (الكفاح المسلح) الذي يعني مطارتها الدائمة بدون فرصة لالتقاط أنفاسها ونصب مجزرة حقيقية في حالة الاعتقال لمناضلين شبابيين يافعين. وفي الأعوام الأخيرة وبعدما تراكمت لديها التجربة والتراث باتت مواقفها تتحسن بتدرج وتنامي.
2- نوعية المناضل
وخلفيته الشخصية: درجة إيمانه ووعيه بايديولوجيته السياسية وأهدافه الوطنية ووعورة
الطريق التي اختارها وأهليته لها، ونمط تربيته السياسية وصحة طروحاتها، ومستوى
نضجه النفسي ومعارفه الحياتية، ونقاء معدنه وتماسكه، وانتمائه الطبقي ونشأته
الاجتماعية … كلها جوانب تجد تعبيرات لها أثناء التحقيق، وعلى أرضيتها يحقق رجل
المخابرات معه مستهدفاً اصطياد عناصر الضعف فيه والنفاذ منها إليه.
إن إرادة المناضل تقرر صلابته وثبات مواقفه، وسمو الهدف الذي يناضل في سبيله ودرجة
إيمانه به واتحاده معه تقرر منعة إرادته. فذوي الأهداف الكبيرة الذين يناضلون
سنوات بل عقود زمنية من أجلها ينصقلون بآفاقها بينما يتساقط من قطارهم من لا
يستطيع الاستمرار. ولن يستطيع الدأب والاستمرارية إلا أصلب المناضلين وأكثرهم
تضحية.
وبتعميق الوعي الايديولوجي والنضال الدائب الغيور والعمل اليومي، والذوبان في
القضية الكلية ودراسة التجارب الثورية والتعلم منها والاندماج الأوسع بالجماهير
وهمومها، تتصلب إرادة المناضل. وإن العناصر المسحوقة الرصينة البناء والغير مهزوزة
هي الأكثر قابلية للصمود حتى بات للعين الخبيرة القدرة على استشراف موقف المناضل
في التحقيق قبيل اعتقاله اجمالاً.
3- التكنيك التنظيمي: أي أسلوب البناء والقوانين الناظمة للتنظيم وصيغته الهيكلية وشروط العضوية وواجباتها … ففصيلة تفتقر لقيادات متمرسة، وقيادات ارتقت إلى مواقعها بغفلة من الزمن بقفزات هوائية بدون تدرج، لا ندحة عن وقوعها في أخطاء قاتلة تودي بها إلى التهلكة. وتنظيم مقاتل لا تنفصل فيه التنظيمية السياسية عن التنظيمية العسكرية ويجيز تداخلات كبيرة بينهما لا مفر من اصابته بضربات قاتلة. وتنظيم يكلف اعضائه بمهمات تفوق امكانياتهم ومؤهلاتهم لا بد أن يسقطوا فريسة الخطأ وينحنوا تحت عبء الحمل الثقيل. وتنظيم لا يراعي مبادئ السرية الداخلية والخارجية لن يستطيع تورية امتداداته المنزوعة الغطاء. وتنظيم علني يمارس نشاطه في بحبوحة وتتأسس نفسيات أعضائه في البحبوحة لن يقوى على الصمود في حالة انحسار البحبوحة والمطاردة. وتنظيم يختزل نفسه في مركز نقابي وجماهيري تركيبته الداخليه أضعف من أن تصمد في وجه حملة اعتقالية واحدة في حالة انتقالة الى نضال جدي. وتنظيم يلملم عناصره من قارعة الطريق بمقاييس كمية قطعاً سيغرقه هذا الكم المشوش في حمأة لا قرار لها. وتنظيم الفوضى الداخلية والتسيب تنخر عظامه كالسوس سيسهل كسر عظامه (يوم الحشر). فخطأ صغير في الزمن العادي له آثار تخريبية هائلة وقت التحقيق، وبخاصة الفصائل المطلوب رأسها من جانب الاحتلال.
4- طبقية التنظيم: فالمحتوى
الطبقي للفصيل هو عامل العوامل التي يقرر ايديولوجيته السياسية وتكنيكه الحزبي
وعقائدية أعضائه
ونوعياتهم وجذرهم النفسي… الفصيل البرجوازي مهما ارتقى بفنون عمله ومهما
ارتقت قيادته البرجوازية سيبقى ضيق الأفق ولن يبلغ حزب عمالي بقيادات عمالية
وتجربة أممية. فلكل طبقة طبيعة ومستمدة من واقعها الاقتصادي والايديولوجي. والطبقة
العاملة هي الأكثر انسجاماً وثورية وأحزابها هي الأكثر مراس ومهارة سياسية
وأبنائها هم الأكثر نقاء نفسي وغيرية ثورية.
صحيح أن
بعض الأحزاب الفاشية أو الدينية أو البرجوازية قد بلغت مقصداً متقدماً من الوحدة
والتماسك، وصحيح أيضاً أن بعض المنظمات اليسارية قد تفككت تحت آلة القمع، ولكن
الصحيح ايضا انه كلما خطت الاحزاب اليسارية خطوة للأمام في اتجاه تطوير نضالاتها
ووعيها الايدلوجي و كلما خطت خطوة باتجاه ابراز كادرات عمالية الى مستويات القيادة
كلمات تفولذت اكثر وردمت ثغراتها وتصلب عودها. وفي التحليل التاريخي الأخير وبقطع
النظر عن نواقص الطلائع العمالية فقد برهنت على بطولتها في أقبية التعذيب وأورثت
المناضلين دروس مشرفة لا يمكن اغماض العين أمامها.
5- ظروف الاعتقال: الظرف، أي ظرف، يترك بصماته على الانسان. والمناضل
الانسان الذي يعتقل وبحوزته قرائن مادية ( سلاح، المطبوعات، وثائق …) أو يصطدم
بالتحقيق بأدلة دامغة من جراء اعترافات غيره عليه، يكون موقفه أكثر صعوبة من مناضل
يعتقل من باب الشبهة، ويكون مدعوا لصمود مضاعف لرد هجوم المخابرات عليه وتفشيله.
وما يزيد الطين بله ان تستقدم المخابرات أحد المنهارين للشهادة والاعتراف على
مناضل صامد.
والمعروف ان جهاز مخابرات العدو قسمين، الأول، دماغ معلومات، والثاني للتحقيق.
الأول يجمع المعلومات بواسطة المخبرين والاعترافات ويستخدمها الثاني في التحقيق.
وهناك خط فاصل تقريباً بين استجواب يقوم على اخباريات وشايات غير مؤكدة وبين
اعترافات ومستمسكات مادية مؤكدة. في الحاله الأولى يسهل النفي والانكار بالقليل من
الصمود، فرجل المخابرات يكون خالي الوفاض مرتبكاً، وفي الحالة الثانية يتطلب النفي
والانكار صموداً أكبر. والمناضل الذي يعتقل بأدلة ثابتة عليه تختصر مسافة
المناورات والحيل بينه وبين رجل التحقيق حيثما يفاضل في العادة بين الاعتراف
السريع او البطش والتنكيل. فالمخابرات هنا تلجأ للضرب بدون مقدمات طويلة. وأشدّاء
المناضلين والحال هذه يؤثرون المجابهة على الاستسلام والقبول بالعذاب والضرب على
التفريط بالشرف الوطني، والحزبي، وهم يرفضون التجارب والتعاون مع العدو. أما
الوسطيين الضعفاء فيختارون الذات على الجماعة والاستخذاء على التحدي، والمهم أن
ينجوا بجلودهم (ولتحترق روما).
وسواء
كان المناضل محترفًا أو هاوياً بوسعه رد أية أدلة ضده والخروج من هذا المأزق بشرف.
والأمثلة لا تعد ولا تحصى. كما ان هناك طراز آخر من أنصاف المناضلين الذين اعترفوا
وركعوا ولكن ما أن وعوا خطيئة مسعاهم حتى تمردوا ثانية، ومنهم من حالفه الحظ ومنهم
من فشل. وهذا يعهد بمسؤولية مزدوجة على المناضل الصامد، بانكار اعترافات غيره عليه
وانتشال هذا الغير من مستنقع الانهيار، وذلك بتسجيل النموذج الثوري الذي لا يحني
هامته للأعداء. وأن أفضل رد على شهادة منهار هو توبيخه (أنت كاذب مأجور، واغرب عن
وجهي) ورفض التعاون معه حتى ولو توسل وناح. فذلك يشد من أزر كلاهما وقد دفع
المنهار الى التمرد ثانية. وأن التمرد بما يعقبه من ضغوطات شرسة افضل مئة مره من
أن يستحيل المنهار كرباج يجلد به العدو رفاقه.
- موقف المسؤول: المسؤول في أي تنظيم يحيط بالكثير من مفاتيح وأسرار
العمل. وهذا يجعله محط عسف وقمع أكثر من غيره. فالمسؤوليات التي هي شرف ونضال من
وجهة نظر الثورة هي خطر واستنفار من وجهة نظر العدو. وشرف المسؤول أن يصون
مسؤولياته كما يصون بؤبؤ عينه وأن يقود معركة التحقيق بنجاعة مثلما يقود مسؤولياته
بنجاعة. وأن صموده يشحن رفاقه بزخم معنوي هائل ويجنبهم هوان الاعتقال الجماعي
ومذلة مواجهة الواحد منهم الآخر! والمسؤول يظل كذلك طالما حافظ علة مسؤولياته،
ولكنه يسقط من العلياء إلى الحضيض حالما يخونها ويعرضها للخطر. إنه نموذج يحتذى به
طالما ظل صامداً وهو نموذج منبوذ حالما يسقط في درك الاعتراف. والقائد الحقيقي لا
يسقط أبداً.
ومثلما أن للقائد أثر معنوي ايجابي على رفاقه في حالة الصمود فهو أيضاً له أثر بالغ السلبية في حالة التهاوي. فأن تهاويه يودي في صدور رفاقه وجلاً ورعباً، وأسرار النضال التي كانت قلعة صماء استحالت أرضاً مستباحة. ويعد ذلك استجابة واعية أو غير واعية لمقاصد الأعداء. كشف الأسرار وترويع المناضلين.
ولكن رفاق الدرب الذين احترموا وتنمذجوا بقائدهم وقتما كان قائداً لا ينبغي أن يزلزلهم اكتشاف أن قائدهم مزيفاً. فالموقف العلمي يقتضي التمسك بجوانبه الثورية ونبذ جوانبه السلبية. وكونه خان التمسك بجوانبه الثورية فحماية صفوف الحزب بات ملحاً. وفي ظروف التحقيق يمكن هضم هذا العار، فصمود الرفاق وولائهم للثورة ليس مرهوناً بصمود أو انهيار أفراد، بل ينبع من القناعات الداخلية في جوف كل رفيق، ولا يجوز بحال من الأحوال تنفيذ مخطط العدو الذي الذي يحاول تصوير انهيار المسؤول بأنه انهيار كل شيء. فالقائد لا يعادل الثورة وإن سقوطه لا يعني سقوط النضال والثورة. فعربة الثورة سائرة والولاء أولاً وأخيراً للشعب والوطن وليس للأفراد المنخورين الذين كانوا قادة.
التحقيق والتكوين الانساني
تعي مخابرات العدو أن الانسان ليس جسداً وحسب، بل أيضاً عقل ونفسية. وهذا يجعلها لا تتورع عن اتباع أخس وأحط الأساليب لتحطيم الانسان الفلسطيني كنفس وعقل وأعصاب وجسد بهدف انتزاع الاعترافات وتدميره كمناضل.
وهي لتسهيل مهمتها تحتاج إلى معرفة قبلية عن المناضل الأسير، مفاهيمه، واقعه الاجتماعي، أخلاقياته… وسعياً وراء هذا الغرض تجند عملائها وأرباب العمل الصهاينة لرفع التقارير عن الأشخاص الذين تعتزم اعتقالهم. وتوظف ما لديها من أسلحة وخبرات للتعذيب الجسدي والتعذيب النفسي والتعذيب العقلي، وان أي اعتراف تنتزعه عنوة أو بالخداع ترى فيه انتصاراً لها ومسوغاً لمواصلة العملية التعذيبية.
وعمليات التعذيب لا تبدأ كما يعتقد البعض في غضون فترة التحقيق فقط، بل تبدأ في اليوم الأول للاحتلال عام 1967 وقبل ذلك. فالعدو يطلق حرب نفسية معقدة ضد جماهيرنا ومناضلينا قبيل اعتقالهم ويواصل ضغوطه ( حواجز التفتيش- منع تجول – مظاهر عسكرية- واستعراض قوة – عدم استقرار وفقدان أمن – بيروقراطية في المؤسسات الحكومية – تشجيع الرشوة والفساد والاحتراب العشائري والطائفي – ضغوط اقتصادية وتعليمية – بطالة متنامية … وباختصار احتلال). كل ذلك لاستنزاف الطاقة الحيوية لدى الإنسان الفلسطيني.
والقهر القومي والثقافي والطبقي والانساني اليومي لشعبنا وحرمانه من تجسيد حقوقه الوطنية بالتحرر والاستقلال، وما يتولد من ذلك من متاعب يومية لكل مواطن فلسطيني، وما يبرمج له العدو من احباط جماعي لشعبنا واذلال متواصل في قدرة شعبنا على الانتصار، وما يمارسه عن دراية في عدم تيسير أمور المواطنين في المؤسسات الحكومية ( تصاريح – هويات – رخص – تعليم – صحة – خدمات ..) وفي عدم توفير فرص عمل لحياة مكتفية … كل ذلك القصد منه استنزاف القوة الحيوية لدى الانسان الفلسطيني وخلق حالة احباط جماعية لدى شعبنا، بأنه عاجز، ضعيف، مهزوم، فاشل … وان عملية تخزين الفشل والعجز وتقادمها وتواصلها وتراكمها عاماً بعد عام يفضي إلى عدمية جماهيرية يائسة. وهذا بالضبط غرض الاحتلال من حربه النفسية.
وهو كيما ينجح في حربه هذه يحتاج إلى غطاء من موظفين عرب في المؤسسات العامة ليمارسوا دور الأباطرة والملوك في احتقار المواطنين وتأخير مشاغلهم، وإلى طابور خامس وعملاء لبث الاشاعات وملاحقة الناس بالأضاليل والمخاوف، علاوة على دوره القمعي والاستبدادي المباشر.
وأثناء فترة التحقيق تحاصر المخابرات المناضل بشبكة من الضغوط، العزلة، الوحدة، التهديدات، الارهاب .. في نفس الاتجاه ولنفس الغرض.
وهزيمة الحرب النفسية تكون بالتنفيس والتمرد. فتركيم الاحباط والفشل هو الطريق الذي يقود إلى اليأس والهزيمة الداخلية وبالتالي الاستسلام والانهيار ، بينما التنفيس والتمرد على كل إهانة وكل فشل والرد عليها بالمقاومة والتحدي يقود إلى الثقة بالنفس والصمود والانتصار في نهاية المطاف.
وقد تنبه جهاز المخابرات العدو لذلك ، فهو في تكوين طواقم التحقيق ودوريات الجيش وطواقم الموظفين … يزرع رجال أشرار بطاشين لا يعرفون الرحمة ورجال (أخيار) ودودين لامتصاص النقمة والحيلولة دون تنفيسها بالتمرد والرفض. الأوائل يبطشون والأواخر يمنعون التنفيس بكلمات (وديعة لا تخلو من كياسة). ويلعب هذا الفريق (الانساني) دور صمام الأمان لمنع خزان الاحباط المتراكم في النفس من التنفيس. مع الاستدراك أن كلاهما من جبلة وسخة واحدة يقتسمان أدوارهما ويتناوبانها تباعاً.
ولارهاق المناضل واستنزاف طاقته الحيوية التي تتحكم في ردود فعله يستخدم العدو وسائل أخرى أكثر وحشية ومباشرة كالضرب المبرح أو الضرب على أماكن حساسة أو الشبح أو إجبار المناضل على القفز والركض أو الوقوف أيام عديدة أو الحرمان من النوم لعدة أيام، أو ملاحقة المناضل بأسئلة متعددة في نفس الوقت أو الصراخ والشتم عليه… كلها وسائل لاستنزاف الأعصاب وارهاق الدماغ والانهاك العام. وصولاً إلى قطف الثمار وهي واهنة متعبة.
كل ذلك يتم وفق نظريات ومفاهيم علمية. فالجهاز العصبي عالي التعقيد والمتمركز في الدماغ بوصفه أكثر الأجزاء تطوراً وتنظيماً يستجيب ويتأثر بأية ارتكاسات ومؤثرات خارجية. فحواس الإنسان الخمس تعكس الواقع الموضوعي وتنقل منعكساته بواسطة الأعصاب إلى الدماغ لتحليلها وبالتالي الانفعال لها والرد عليها.
والانفعال قد يكون ظاهرياً بتصرف ما (وباطنياً بافراز هرمونات حيثما تتسع الشرايين مثلاً مما يزيد من تدفق الدم وبالتالي هبوطه ونقصه الأمر الذي ينعكس سلباً على الجهاز العصبي الذي يستهلك نصف دم الإنسان وكنتيجة على الدماغ وكل الأجزاء الداخلية (معدة، رئة، …). وهذا ينهك الدماغ والأعصاب ويثير الاضطراب فيهما كفرصة مناسبة لرجال المخابرات لذبح ضحيتهم.
كل هذه الحرب المعلنة على الإنسان الفلسطيني عشية وغداة الاعتقال تستهدف استنفاذ طاقته الحيوية واتعاب أعصابه ودماغه ونفسيته، ليكون لقمة سائغة لهم!.
ولكن المناضل الفلسطيني ليس عاري اليدين، فهو بوسعه التمرد كما أن عزيمته وارادته تمدانه بغذاء معنوي لا يستطيع العدو الاطباق عليها. فكم من مناضل أطبق فمه وحطم أساليب العدو ونظرياته الفاشستية.
وهناك أخيراً حيلة مستهليكة يتوسلها العدو لخداع المناضلين تدعى (البوليغراف). وهي منشأة مكونة من أجهزة بسيطة، جهاز لقياس الحرارة وآخر للضغط وثالث للتنفس … وهذه الأجهزة توصل بجسم المناضل لقياس وظائف جسمه. وحينما توجه له أسئلة عادية تسجل مؤشراتها وبين الأسئلة العادية يحشر حول قضية التحقيق (أسلحة، منظمات، …) لتسجل مؤشرات أيضاً. وهنا تقارن المؤشرات الأولى مع الثانية لكشف الصدق من الكذب ! ولكن هذا الجهاز ينطوي على أداة تكذيبه، فهناك احتمال أن يخاف المرء منه أو من رجل التحقيق أو قد يتصور مشاهد مزعجة أو مخيفة، وكل ذلك يبلبل الجهاز و ..
المبدأ الوحيد
في التحقيق يرمي العدو الى خلق حالة تعاون بين المناضل ورجل التحقيق، بأن يأمره فيطيع … وبالنهاية يأمره فيجيب، مستغلاً هيبته كرجل مخابرات وما لديه من وسائل ترهيب وخداع. وما أن يرفض المناضل أوامره ويتحداها حتى يسقطا هذين الشرطين الضروريين لعملية التحقيق. والمبدأ الوحيد هنا هو رفض التعاون واسقاط حاجز الخوف والرهبة. وحالما يتحدى المناضل جلاده مرة يستطيع أن يتحداه مرات. ومهما اشتدت قساوة التحقيق فإن السعادة كل السعادة تكمن في عدم احناء الرأس لعدو والهبوط من الزنازين إلى أقسام السجن مرفوع الهامة والهمة ليكون مضرب المثل في الشجاعة والاقدام.
وحرية المناضل مهما قيدتها أسوار السجن تكمن في فهم قوانين الاعتقال والتحقيق وتجييرها لخدمة الصمود والثورة. وما دامت ثورتنا حق ونضالنا حق فإن الدفاع عن هذا الحق حق. وان التضحية في سبيل الحق والحقيقية هي بداية الحرية.
والحركة الوطنية الفلسطينية بعد هذا التراث الخصيب والتجارب المريرة بما تكنزه من أنوية مشرفة في التحقيق حان موعد مغادرتها دائرة الرعب والانتقال إلى دائرة الجرأة. وان الامساك عن كتابة الافادة هو خط نضالي يتعين رعايته وتعميده بالدم. فالاعترافات والافادات هي السلاح الأكثر فتكاً لضرب الحركة الوطنية في الداخل.
وخط يحظى بهذه الدرجة من الأهمية خليق بالدراسة والتوعية والتغذية والتحصين والمحاسبة على كل من يخل به. ان الوقوف انتقادياً أمام تجربة الحركة الوطنية وتجربة كل مناضل في التحقيق واجب ملحاح لفرز القمح من الزوان. وليكن الموقف في أقبية التحقيق متساوقاً مع منسوب تضحيات الثورة وبطولتها وليكن بحجم الوفاء لعدد شهدائها، وليكن بصلابة البندقية طريق الخلاص الوطني الوحيد.
هذا ما يناقشه ويشرحه بأسلوب بارع وميسور هذا المؤلف.
بقلم احمد قطامش 1982م
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.