“كنعان” تتابع نشر كتاب “فلسفة المواجهة وراء القضبان”، تأليف : محمود فنون، الحلقة (3)

مقدمة الطبعة الحالية

تم انجاز الكتاب لأول مرة في سجن الخليل نهاية عام 1978م ، وهناك تم نسخه عدة مرات ووزع على السجون.

وبعد ذلك تم إخراج نسخة منه مكتوبة بخط صغير على ورق السجاير وورق ناعم ، ومن ثم جرى نسخه بخط اليد  وتنظيمه وتبويبه ودفعه للطباعة دون اسم الكاتب. وطبع للمرة الأولى عام 1982م.

 وعنونت دار النشر باسم دار الراية وهو اسم وهمي ووزعت النسخ ونفذت كلها ثم طبع عدة مرات. وفي احدى المرات صادرت قوات الإحتلال اربعة آلاف نسخة.

إن مطاردة الإحتلال لم تحل دون توزيع عشرات آلاف النسخ من الكتاب ووصوله إلى قطاعات واسعة من الناس واعتماده كمادة تثقيفية  للمناضلين عامة  ومن كل الفصائل واعتباره من أدبيات الجبهة الشعبية..

كما انه جرى في السنوات الأخيرة طباعته وتوزيعه أكثر من مرة ودون إذني، واشتريت منه ثلاث نسخ ، وهي كذلك تغفل اسم الكاتب وتعتمد اسم منشورات دار الراية على الغلاف.

وتعتمد مادة الكتاب على التجارب الحية التي رواها المعتقلون عن انفسهم وتناقلوها بينهم عن تجربتهم في التحقيق بكل مجرياتها مما شكل مادة خصبة لفكرة الكتاب.

وكان توالي الضربات الإعتقالية القاصمة دافعا قويا لتكريس النقاش حول الموقف في التحقيق وما يحصل من انهيارات مدمرة ضربت الحركة الفلسطينية وتجاربها في الداخل وامتدت آثارها ونتائجها إلى الكل الفلسطيني بشكل خطيردون مراجعة أو اهتمام.

في هذه الطبعة أعدت قراءة الكتاب وتصويب الأخطاء الإملائية وتدقيق بعض الجمل القليلة دون إحداث أي تغيير في المادة والسياق والتبويب. ولا زلت أرى أن مادة الكتاب ضرورية جدا للمناضلين وعامة الشعب : فهو يوجه المناضلين للصمود أثناء معركة التحقيق ، ويكشف حقيقة ما جرى هناك للمجتمع !

إن الإحتلال قمعي ولا زال يقمع الشعب الفلسطيني بكل مظاهر القمع المختلفة. ولا زالت أساليبه في التحقيق مستمرة. والمحققون يستخدمون الأساليب المختلفة ما دامت تعطي ثمارها وإلا اعتمدوا أساليب أخرى للوصول لذات العاية.

التجديد في أساليب التحقيق:

لم يغفل الكتاب شيئا من هذه الأساليب وذلك لأنه سجل الخبرة المعاشة واستخلص العبر. فالكاتب هو سجين وعايش المعتقلين وسمع منهم مباشرة خلال مدة طويلة.

وقد حصلت بعض المتغيرات التي عكست نفسها على مسارات التحقيق ، مع ان التحقيق ظل يستهدف ذات الغايات.

أولا : سن الإحتلال قوانين تجيز محاكمة المعتقل الفلسطيني  على اعترافات ووشايات الغير منذ بداية ثمانينات القرن العشرين وما عرف بقانون تامير.وقد طبق عام 1982م. حيث يكفي اعتراف واحد لمحاكمة المتهم بأي عقوبة كانت. ثانيا : ظل حال التحقيق كما هو تقريبا فعدد الصامدين في التحقيق لم يتحول إلى حالة عامة بل فقط إتجاه ظهر بشكل أبرز في صفوف الحبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكان شعارهم ” الإعتراف خيانة “

ثالثا : ظهرت تبريرات جديدة دينية ،وخاصة في صفوف احزاب الدين السياسي  ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” وكانت نسبة ملموسة منهم يقدمون كل ما لديهم  ببساطة  ومن كل المستويات بمن فيهم القيادات الأولى ،وظل الآخرون على حالهم يهرهرون دون محاسبة ولا حتى مسائلة.وقد ظهرت سياسة صكوك الغفران والتوبة غير النصوحة عن الإنهيارات والإعترافات بتقديم التهاليل والتسابيح والدعاء من أجل “ان يغفر لهم الله” على ما اقترفوه.وقد أخذ أحدهم فتوى من الشيخ الكبير واعترف بعد صمود بطولي لمدة طويلة. وبالتالي لا يشعر المتعاونون مع الإحتلال في التحقيق بأي ذنب ولا خزي ولا عار.

ثالثا : أوسلو والتنسيق الأمني ضد الثورة.

لقد أحدث اوسلو ومع الأيام آثارا عميقة على نفسية ومواقف الفلسطينيين. ويكفي القول أنه له آثار مدمرة عكست نفسها على كل المريدين  بما في ذلك فكرة الدولة  والمناصب والنظرة إلى إسرائيل والحالة المعنوية العامة وكان هذا سواء قبل انتفاضة عام 2000م وخلالها وبعدها.

إن القيادات لم تتزحزح في مواقفها من الإعترافات في التحقيق  وإدانتها بل هي ساهمت مساهمة كبرى في انخفاض وتيرة الكفاح وكلهم  ساهموا بذلك بتفاوت. كما خلقت حالة المنازعات على السلطة وصلت حد تقاسم المغانم والمكاسب والحغرافيا.

ولا أعني بهذا أن نضالات وهبات الشعب الفلسطيني قد توقفت ولكن كان لهذه الحالة أثرها خاصة أن النضالات والكفاح بدون هذه القيادات وهو محاولات وتعبير عن إندفاع الشعب الفلسطيني المستمر للنضال وبأي طريقة وبأي أسلوب.

وهنا انقسم المعتقلون من وجهة نظر المحققين إلى قسمين :

1 – سهل : يمكن انتزاع كل ما لديه بعد تحليفه بالقرآن أو شبح لعدة ساعات أو أيام وبعض اساليب التحقيق المذكورة في متن الكتاب.

2 – صعب : وهنا يحتاج الأمر إلى الشدة  واتباع أساليب أخرى وهي الشبح المتواصل وغرف العار وكل ما يلزم من الشدة والأساليب التي توصلهم إلى هدفهم.

وقد ساد أسلوب الشبح على غيره بالإضافة إلى أساليب الضرب والتعذيب وكل الأساليب النفسية الأخرى.

ما هو الشبح؟

هو اسلوب تعذيب قاسي وموجود من البداية وكان يستخدم مع غيره من الأساليب  لمدة ساعات أو أيام بشكل متقطع ولكنه تحول إلى الأسلوب الأكثر شيوعا مع الجميع تقريبا  وبشكل متواصل.وأعطاهم المردود المطلوب.

صمد احدهم في التحقيق ، سأله رفاقه : ” هل عذبوك ؟” قال : ” لا ، فقط شبحوني ثلاثة عشريوما وضرب ولكمات و…” وشرح بقية التفاصيل.

وجاء شرحه هذا كناية عن تراجع استخدام العصا نسبيا أثناء التحقيق ، وكانت تهمته تتعلق بالقاء الحجارة دون أذى محدد.

إن هذا الفهم أمر جليل ويستحق التمعن ويدفع الضعفاء إلى مراجعة الموقف. وحريّ أن يدفع المسئولين إلى نقد ذاتهم ومراجعة مواقفهم. هو وغيره يتعرضون للتعذيب ولكنه دخل التحقيق مصمما على الإنكار فلم ير الشبح تعذيبا قاسيا.

الشبح اسلوب مكثف من التعذيب ويتضمن بالإضافة إلى صورة الشبح التي أعرضها ، يتضمن الحرمان من الراحة ومن النوم ومن الأكل والشرب مدد طويلة وحرمان من الذهاب لقضاء الحاجة مدد طويلة.

في المسكوبية ، يجردون المعتقل من لباسه العلوي عدا الداخلي ويغطون رأسه حتى رقبته بكيس من الشادر يتسع قليلا عند الفم والأنف ويشدون خيطا فيه عند الرقبة.

وهذا الكيس نتن الرائحة من العرق المتراكم وربما الدماء التي نزفت من معتقلين سابقين وهو يكفي لحجب الرؤيا بشكل كلي.

ويربطون يديه من الخلف إلى ماسورة  من خلال القيد وهو واقف أو إلى كرسي صغير ويديه مربوطتان في ظهر الكرسي متعاكستين واحدة من تحت عارضة الكرسي والأخرى من فوقها مشدودا إلى الخلف مما يجعل الراحة مستحيلة حيث إذا اتكأ على الكرسي يشد القيد على معصميه بقوة وإذا حنى ظهره يشده القيد ويبقى في حالة توتر دائمة.

أو يجلسه على ثلاث بلاطات فوقها مربط معدني ويدخلوا القيد منها وهو مرتفع قليلا بحيث إذا اتكأ كان الحديد يأكل ظهره ومعصميه وإذا انحنى كان الحديد يأكل معصميه.

وهناك كرسي بجانب مسيل مياه عادمة وتصدر عنها رائحة نتنة.

هناك مرابط تحت مظلة في المبنى يربط السجين من الجهة الخارجية بحيث أن الأمطار المتساقطة على الأرض تنشر رذاذها على ساقي السجين فيتبلل تحت البرد القارص.

يتم الربط بين جولات التحقيق ، فما أن تنتهي الجولة حتى يعاد السجين إلى إحدى هذه المرابط ليلا ونهارا.صيفا أو شتاء.

في رام الله ، بالإضافة الى ما هو في المسكوبية يظل السجين واقفا لفترات طويلة أو يركع على ركبتيه أو الكراسي.

عندما يفكوا قيده من أجل نقله إلى مكان آخر أو إلى جولة التحقيق لا يستطيع السجين التحكم بذراعيه وإعادتها إلى جانبيه بل تظلان مشدودتان إلى الخلف والأعلى  لمدة طويلة.

الشبح والزمن :

يقاس الزمن غالبا بالساعات والأيام ولكن زمن المشبوح يقاس بالثواني بل وما هو أدق من الثواني. فالمشبوح يتلقى الزمن كثقل هائل على صدره يتجرجر ببطء وكأنه متوقف ولا يمر أبدا. وتنتابه كل المشاعر.. الضيق والملل وقسوة انتظار المجهول. ثم تنهال الذكريات  كلها، كلها ودفعة واحدة  وفيها المؤلم والمفرح وفيها الندم والتساؤل عن سبب الوقوع والتساؤل عن الواشي الذي حرك لسانه ليكون المشبوح في مكانه.

بالنسبة لي فقد تسليت بالذكريات وأحلام اليقظة والتفكير بالمستقبل ، وما الذي يتوجب فعله وخلصت إلى نتيجة أنه بإمكاننا أن ننتصر  واستعرضت أفكاري وتجاربي وشكلت موقفا وطمأنت نفسي بأنني سأطرحه على المعتقلين لإحداث تطوير في سلوكنا انطلاقا من مرحلة البناء التي تمت عبر النضال وجولاته إلى مرحلة النضال من أجل الإنتصار…

الإنتصار.. هذه كلمة كبيرة ملأت روحي بعزيمة شديدة وما أن دخلت قسم المواقيف في المسكوبية  بعد التحقيق حتى  صرخت بها أمام الرفاق وبدأت الشرح.

على أية حال يستطيع السجان فعلا أن يرسفك بالقيود ويشبحك إلى الماسورة والكرسي الصغير والكبير ولكنه لا يستطيع أن يقيد روحك وفكرك.

جزء من المعتقلين يتم شبحهم منذ الصباح حتى المساء ثم يوضعون في الزنازين ليلا  ولكن قسم آخر لا يدخل الزنزانة إلا لقضاء الحاجة أو تناول الطعام والماء.

الطعام !!! ما هذا ؟

الطعام : في أغلب الأحيان  كان ساندويشة رز ناشف في كسرة خبز جافة. ولكنه طعام ويجب أكله كله. والماء من الحنفية مباشرة ويجب الشرب إلى آخر استيعاب.

القيادات والتحقيق :

بكل الإحترام والتبجيل يجلس بعضهم على الكرسي مع القهوة والشاي والسجائر  ويدخلون في الأحاديث السياسية والمشاكل ويكتبون الإفادات بأريحية. وقد تم نقل بعضهم إلى غرف العصافير لتسهيل مهمة العملاء هناك تحت عباءتهم.

فما دام هذا المسؤول موجود فلا بأس ان يقدم السجين الجديد تقريره للقيادة الذي ينقلوه فعلا للمحققين جاهزا وفيه ما يلزم وزيادة أخرى على سبيل التباهي.

أقسام العصافير مرة أخرى :

وهي لنفس الغاية المذكورة في الكتاب ويجند لها اليوم بالإضافة إلى معتقلين متعاونين ، يجند لها عملاء من الخارج حيث يقيمون بشكل مريح وتتوفر لهم الأطعمة ونوافلها.

وهؤلاء يقومون بدورهم باستكتاب  السجين تقارير عن نفسه وحالته تحت وسائل التضليل والإغراء في معظم الأحيان. ويقضي السجين بينهم مدة تطول أو تقصر إلى أن يجدوا الوقت المناسب لاستكتابه أو جرجرته للحديث المطلوب.

ولا زال اسلوب رفيق الزنزانة  العميل شائعا ولا زال البعض يتكلم امامهم وحتى يرسل معهم التقاريرالمكتوبة.

الصمود في التحقيق هو موقف كفاحي دائما :

كل الثورات تنهض بالمجتمع في ظروف مجافية ، وضد التيار السائد وتخلق مناخها ورؤيتها وثقافتها وبناها وتقاليدها مقابل وضد ما هو السائد ومن أجل قلب ما هو سائد قلبا ثوريا وتحرريا ، ومن أجل حياة جديدة.

ويتوجب على قيادتها حمايتها سياسيا وثقافيا ، وحماية النضال والمناضلين وتسليحهم بالرؤيا الثورية وعلى كافة الصعد.

وهذا يتضمن ثقافة الصمود في التحقيق. فالصمود في التحقيق يحمي الثورة ومجراها وبناها وأفكارها وثقافتها. إنه يحمي استمراريتها.

إلى هذه الدرجة من الأهمية  يحتل الصمود في التحقيق  مكانته ولا يجوز قطعا إهمالها.

فالتحقيق دون حماية وسلاح الصمود يهدم الثورة بينما الصمود واستمرار الفاعلين وفعلهم يتقدم بالثورة خطوات إلى الأمام.

الصمود ودوام المنظمات يزيدها صلابة ويفتح لها باب التطور والإرتقاء بالتجربة ومتابعتها ونقدها وتصويب أخطائها ، بينما عندما ينهار المناضلون في التحقيق  ويعصفون بالمنظمات والأطر المختلفة يكون عليها ان تبدأ من جديد.

إن أول محاسبة نقدية للقيادة يتوجب ان تكون محاسبتها على إهمال هذا الجانب. هذا مع العلم أن الجبهة الشعبية وخاصة في الداخل قد شقت طريقا عميقا على هذا الصعيد بالتوعية بالكتب والنشرات والبيانات والمحاسبة  والشعار الناظم

” الإعتراف خيانة”

إن هذا الجهد يحتاج للاستمرارية والتعميم ونقد الفصائل وقياداتها التي تتجاهل هذا الموضوع البالغ الأهمية.

سيأتي يوم قريب وتنتصر الثورة ولكن بعقليات ونفسيات غير ما هو سائد عن هذه القيادات وإن غدا لناظره قريب.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.