وُلِدت الرأسمالية والإيديولوجيات العُنصُرية الحديثة، كالفاشية والنّازية، في قارة أوروبا، كما انطلقت منها فيالق المُستعمِرِين المُستوطنين الذين ارتكبوا المجازر على مدى أربعة قُرُون ضد السّكّان الأصليين في أمريكا (الشمالية والجنوبية) وفي أستراليا وفي نيوزيلندا وفي إفريقيا وغيرها، وانطلقت منها الحُرُوب العدوانية المُغَلَّفَة بالدّين، كحروب الفَرَنْجَة (المُسمّاة “صليبية”) ضد العرب، وحرب الأفيون ضد الصين، والحركات الإستعمارية، في عصر الإمبريالية، منذ القرن التاسع عشر، وانطلقت من أوروبا حركة أكاديمية، لتحريف التاريخ، بهدف فرض “المَرْكَزانية الأوروبية”، وإعادة قراءة وكتابة التاريخ، بشكل يجعل من أوروبا مركز العالم، ومن هنا جاءت تسميات مناطق تُعتبر مهد الحضارة (كالعراق وسوريا، أو ما تسمى منطقة “ما بين النهْرَيْن”، دجلة والفُرات) ب”الشرق الأوسط” أو “الأدنى”، ومهد الحضارات الموغلة في القدم، كالصين، ب”الشرق الأقصى”…
تضررت قارة أوروبا من حُروب القرن العشرين، في إطار التنافس بين مختلف القوى الإمبريالية داخلها، بالتوازي مع تَعاظُم دور الولايات المتحدة، التي لم تخُض أي حرب دفاعية، والتي تطورت فيها الرأسمالية، إلى درجة بُلوغ مرحلة الإمبريالية، بتكاليف ضئيلة جدّا، بسبب الإستيلاء على بلد وأراضي السكان الأصليين، وتطوير الزراعة، ثم الصناعة، بفضل نظام العُبُودية، ما مكّن من مُراكَمَة فوائض كبيرة، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تضاءل دور الإمبرياليات الأوروبية، مقابل زيادة مَظاهر هيمنة الإمبريالية الأمريكية على العالم، بما في ذلك أوروبا، التي أصبحت تُسمّى “القارة العجوز”، مقارنة بأمريكا، التي اعتبرها المُستعْمِرُون “قارة جديدة” أو “عالَمًا جديدًا”، في نَفْيٍ كامل لحضارات السّكّان الأصليين…
أصبحت الإمبريالية الأمريكية تقود العالم، عبر مؤسسات الأمم المتحدة، ومؤسسات “بريتن وودز” (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية)، وعبر هيمنة الدّولار، وغير ذلك.
تجسّمت الهيمنة الأمريكية، على الصعيد العسكري، في قيادتها الفعلية لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وعبر نَشْرِ حوالي ثمانمائة قاعدة عسكرية أمريكية، منتشرة في أوروبا (خاصة في ألمانيا وإيطاليا) وآسيا (اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين…)، وفي المحيطات، والمضائق المائية، وطرقات التجارة العالمية، وغيرها.
اتخذت الإمبريالية الأمريكية قرارات تتعارض مع مصالح حُلفائها الأوروبيين، وشنت حُروبا عسكرية أو تجارية (حظْر وعُقوبات وحصار)، دون استشارة الحلفاء، الذين أضرّت بهم بعض هذه القرارات والحُروب، لكن معظم القوى الأوروبية انخرطت، غصْبًا أو طواعية، في هذه الحُروب العدوانية، ضد إرادة الشّعوب، وضد مصالح بعض الشركات الأوروبية في إيران وفي العراق وروسيا، على سبيل المثال…
تفرض الولايات المتحدة بعض القرارات والإجراءات، أحادية الجانب، دون استشارة “الحُلَفاء”، من ذلك حظْر سفر المواطنين الأمريكيين إلى إيطاليا، وإلغاء السفر إلى ألمانيا وبولندا، إذا لم تكن الرحلة ضرورية جدا، واتخاذ احتياطات إضافية، قبل السفر، إذا كان السفر ضروريا، واضطرت شركات الطيران الأمريكية إلى تعليق رحلاتها إلى العديد من البلدان الأوروبية، ولكن للولايات المتحدة قواعد عسكرية هامة، في هذه البلدان، بالإضافة إلى قواعد حلف شمال الأطلسي، وهي أيضًا تحت إدارة وإشراف أمريكيَّيْن، ورغم حظر السفر، وصل عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين إلى العديد من المرافئ والمطارات الأوروبية (إيطاليا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وبولندا ولاتفيا وإستونيا…) ليبلغ عددهم ثلاثين ألف جندي أمريكي، وحوالي سبعة آلاف جندي أوروبي، يُشاركون في أضخم مناورات عسكرية في أوروبا، خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، وتمتد المناورات على مراحل، تدوم حتى شهر أيار 2020، فيما أعلن ناطق باسم الجيش الأمريكي أن مناورات الجيش الأمريكي سوف تستمر في عدد من البلدان الأوروبية، حتى شهر تموز/يوليو 2020، وأرسل الجيش الأمريكي عشرين ألف قطعة من المعدات الثقيلة، من الولايات المتحدة إلى موانئ بحرية أوروبية، لاستخدامها في هذه المناورات، إلى جانب 13 ألف آلية أخرى، موجودة في مخازن وثكنات الجيش الأمريكي بأوروبا، وتمتد ساحة المناورة على خط بطول أربعة آلاف كيلومتر، يتضمن 12 محطة، بهدف “حماية أوروبا من أي تهديد مُحتمل”، وأشار قائد القوات الأمريكية في أوروبا، الجنرال “تود ولترز” أن “التهديد المحتمل”، هو روسي، بالضرورة.
نشرت منظمات الدفاع عن سلامة المحيط والبيئة في إيطاليا وفي ألمانيا، تحذيرات من مخاطر هذه المناورات على البيئة، حيث يستخدم الجيش الأمريكي دبابات “أبرامز” التي تزن الواحدة منها سبعين طنا، وهي مُدرّعة بغلاف من اليورانيوم المنضّب، وتخلق تلوثا كبيرًا وخطيرًا، لا يقل خطره عن “كورونا”، وتستهلك هذه الدّبّابات 400 لترًا من الوقود لكل 100 كيلومتر، مما ينتج تلوثًا كبيرًا، ولم تُثر الحكومات الأوروبية ولا منظمة الصحة العالمية مجمل هذه المخاطر، بالإضافة إلى مخاطر العدوى بوباء “كورونا”، لأن الجيوش التي تُشارك في المناورات ليست معزولة عن السكان المحليين، وينظم الجيش الأمريكي حفلات موسيقية ضخمة، ومجانية، في بلدان عديدة، من بينها ألمانيا وبولندا ولتوانيا، يتوقع أن تجتذب كل منها عشرات الآلاف من مُحبِّي موسيقى “الرُّوك”، مع ذلك تدّعي وزارة الحرب الأمريكية “لا خوف من العدوى بوباء كورونا”، وأعلن “ستولتنبرغ”، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، خلال اجتماع الحلف يومي 4 و 5 آذار/مارس 2020: “إنه أكبر انتشار للقوات الأمريكية في أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة، ولا خوف من مخاطر العدوى…”
من جانبه أصدر البرلمان الأوروبي (الذي لا نُفُوذ له) تقريرًا (شباط/فبراير 2020) عن الأضرار التي تُلحقها المناورات والآليات العسكرية الأمريكية، والأطلسية، بالبُنْيَة التّحْتِيّة في أوروبا (الطرقات والجُسور والغابات…)، التي وقع إنشاؤها لأغراض مَدَنِيّة، ولحقت بها أضرار كبيرة بسبب المناورات العسكرية، ومن بينها جسر “موراندي” الذي انهار في مدينة “جنوة” الإيطالية، بسبب الأضرار التي لحقَتْهُ جراء عُبُور دبابات “أبرامز” الأمريكية، وتحملت الدول الأوروبية النفقات الباهظة لإعادة بناء ما أفسدته الآليات العسكرية الأمريكية، وأعلنت المفوضية الأوروبية (ممثل الحكومات، والحاكم الفعلي للإتحاد الأوروبي) المساهمة بتخصيص ثلاثين مليار يورو من أموال المواطنين الأوروبيين، لجعل البُنْيَة التحتية قادرة على تحمل الخراب والدّمار الذي تُسَبّبُهُ المناورات العسكرية الأمريكية…
تتميز الإستراتيجية الأمريكية، منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، بفرض قيادتها للعالم، في إطار سياسة “القُطْب الواحد”، فيما تَدْعُو الصين وروسيا إلى “عالم متعدّد الأقطاب”، أما أوروبا، فإنها، رغم إعلان ولادة الإتحاد الأوروبي، لم تُعلن سياسات مُستقلة عن الإمبريالية الأمريكية، بل تشارك القوات العسكرية الأوروبية في كافة الحروب العدوانية التي تقودها الإمبريالية الأمريكية، وجميعها حُرُوب غير متكافئة، ضد البلدان والشعوب الفقيرة، من أفغانستان إلى مالي، وبقدر ما انخفض احتمال إطلاق الحُرُوب بين الإمبرياليات، كما حصل في الحربَيْن العالمِيّتَيْن، زاد احتمال شن الولايات المتحدة، بالتحالف مع أوروبا، والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، الحروب المتزامنة والمتعددة، في عدد من مناطق العالم، للهيمنة على الثروات وعلى المناطق الإستراتيجية وطُرقات التجارة العالمية، البرية والبحرية…
لهذه الأسباب، لا يُمكن، ولا يجب التّعويل على الخلافات بين القوى الإمبريالية، لتحرّر الشعوب من الهيمنة والإستعمار، ويَعْسُر التّعويل على دول حليفة لنضالات الشعوب (مثل شعب فلسطين)، ولذلك لا يمكن التعويل سوى على قُدْرة الشعوب وعلى التفافها حول برنامج تحرير وطني، وانعتاق اجتماعي، وما الدّعم الخارجي سوى رافد، يَدْعَم نضالات الشعوب، أو الطبقات الواقعة تحت الإضطهاد…
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.