الصحة كإحدى أدوات الحرب الطبقية؟ الطاهر المعز

أعلن بعض رؤساء الدول “إننا في حالة حرب”، وليس من الشائع أن يُرسل الرؤساء والوزراء والأثرياء أبناءهم إلى جبهات الحرب، بل يُرسلونهم إلى مناطق بعيدة عن مواقع الحرب، ويُرْسِلُون أبناء العمال والفلاحين والفُقراء إلى مواقع الحرب، للدفاع عن مصالح الرأسماليين والأثرياء، ومصالح الأُمم الإمبريالية، المنضوية في “نقاباتها”، مثل حلف شمال الأطلسي، أو مجموعة السّبعة…

إن الرأسماليين وأرباب العمل، والحكومات التي تمثل مصالحهم في حالة حرب فعلاً، لكنها ليست حربًا ضد الفيروس التاجي (هل يصح استخدام عبارة “حرب” ضد وباء أو مَرض؟)، بل هي حرب طبقية ضد العاملين والفُقراء، من أجل تعظيم مكاسب فئة قليلة من سكان الأرض لا تتجاوز نسبتها 10% أو 1% فقط من أثرى الأثرياء.

لم تَخْلُق الرأسمالية هذا الفيروس، بشكل مباشر، ولكن السياسة الرأسمالية، في الدول الغنية، وشروط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، في الدول الفقيرة، أدّت إلى تخريب القطاع العام في مجالات الإنتاج والخدمات، وإلى “تَسْلِيع” الصحة (أي تحويلها من حق أو خدمة ضرورية إلى سِلْعَة تُباع وتُشْتَرى، في عيادات ومستشفيات ومُختبرات خاصة)، مع تجميد توظيف الأطباء والمُمَرِّضين، وإغلاق المستشفيات العمومية، وعدم صيانة وتجهيز ما تبقّى منها، لإجبار المواطنين على التوجه إلى القطاع الخاص…  

لقد نَبّه العديد من الباحثين والأطباء، منذ سنوات، إلى ضرورة اتخاذ الإحتياطات الضرورية، وتوفير مخزون من أدوات الوقاية، كالقفازات والأقنعة والمُعقّمات، تحسُّبًا لأي طارئ، ولكن حكومات الولايات المتحدة وأوروبا، وغيرها، لم تهتم بهذه التحذيرات، بل قَلَّلَت من قيمة وحجم وحقيقة الوباء، في بداية انتشاره، وادّعت، من خلال تعليقات عنصرية أحيانًا، أنه مرض صيني بحت، ولم تكن تلك التعليقات عن جهل، وإنما لأن أولوية الرأسماليين وأرباب العمل وأصحاب الأسهم (الذين تمثل الحكومات مصالحهم) هي حماية أرباحهم، أرباح هذه الفئة القليلة، ضد صحة مليارات البشر، بدليل استمرار العمل في مصانع الأسلحة، لإنتاج وسائل الدّمار الشّامل، والعدوان على الشعوب، من أفغانستان إلى مالي…  

 أظهرت الأزمة الحالية ضُعْفَ البنية التحتية، وقلة عدد العاملين، وقلّة الوسائل والتجهيزات والأسِرّة في قطاعات الصحة العمومية، بعد تدميرها (من خلال تدمير القطاع العام) في جزء من العالم، وانعدامها في الجزء الآخر منه، كما أظهرت نقص الأقنعة والمعقمات الكحولية واختبارات الفحص وأجهزة التنفس، إلخ. في حين استمر العمل بمصانع الأسلحة لإنتاج أدوات الموت والخراب، فالرأسماليون لا يهتمون سوى بأرباحهم، بعيدا عن (أو ضِدَّ) المصلحة العامة.

 يصرح الباحثون في العديد من البلدان أنه وقع التخلي عن بحوثهم وتجاربهم العلمية على عدد من الفيروسات أو الأمراض التي تُصيب الفُقراء، والمُتعلقة بظروف العيش، كغياب المياه النقية أو سوء التغذية، أو الإكتظاظ في محلات السّكن، غير الصحية، بسبب خَفْض أو إلغاء الميزانية، فالحكومات سلمت أمر البحث العلمي للقطاع الخاص، والرأسماليون يفضلون الإستثمار في شركات الأدوية، متعددة الجنسيات التي يقودها قانون الربح بشأن إنتاج الأدوية.

ازدادت شراسة الرأسماليين خلال الأزمة الصحية الحالية، حيث يستمر عمال العديد من القطاعات في العمل، في ظروف صعبة، وبدون وقاية أحيانًا، لإنتاج “سلع” كالأسلحة، أو سلع لا يستخدمها السّكّان ليتمكنوا من البقاء على قيد الحياة، أو من تحسين ظروف عيشهم، خلال فترة الحجر الصحي، وتتسبّبُ مواصلة العمل، أحيانًا، في تعريض حياة مئات الملايين من العُمّال للخطر، في مواقع العمل، لكي يجمَعَ الرأسماليون المزيد من الأموال والأرباح.

ألقت الحكومات بالمسؤولية على عاتق الأفراد، وأمرتهم بملازمة بيوتهم (إن كانت لهم بيوت، أو إن كانت لديهم مساحة كافية لجميع أفراد الأُسْرَة)، وعملت الحكومات بذلك على قَطْعِ أو كَسْر الحياة أو العلاقات الإجتماعية، دون الإكتراث بتوفير السلع والخدمات الأساسية، مجانًا أو بأسعار منخفضة (ثمن تكلفة الإنتاج)، أو بتوزيع الألعاب على الأطفال والكتب ووسائل الترفيه، كما لم تُوفّر الحكومات (التي اتخذت قرار الحبس المنزلي) وسائل الوقاية والتعقيم النظافة والعلاج…   

أظهرت هذه الأزمة أيضًا ضرورة الإهتمام بصحة الإنسان والمحيط، قبل أرباح الرأسماليين، وضرورة مراجعة تنظيم العمل، من أجل رفاهية وصحة البشر، وعلى النقابات العُمالية والأحزاب التقدمية والإشتراكية إيلاء هذه المسائل حظّها من النقاش ودراسة البدائل، وقابليتها للتطبيق، عبر دراسة التكلفة والمردود، أو العائد، وهو ليس مادّيًّا بالضرورة، لأن حياة الشعوب والأفراد لا تُقدّر بثمن، ولا يمكن ترك هذه الأمور للرأسماليين وللحكومات التي تُمثِّلُ مصالحهم، بل من واجبنا ومن حقنا فَرْضُ شروط سلامتنا وصحتنا وظروف عملنا، بشكل يضمن حياتنا وحياة الأجيال القادمة…  

 استخدمت الحكوماتُ الأزمةَ الصحيةَ، ليس للبحث عن وسائل الوقاية والعلاج، بل لفرض حالة الطوارئ، لقَضْمِ ما تَبَقّى لنا من حقوق فردية وجمْعِية، حقوق سياسية واجتماعية، فسارعت الحكومات لتغيير قوانين العمل، وإلغاء الحق في الإضراب، واختيار وقت العطلة السنوية، وترك الحرية لأرباب العمل، لتغيير توقيت العمل، والراحة الأسبوعية، وزيادة عدد الساعات، وتجميد الرواتب، في محاولة لإلغاء كافة الحقوق المكتسبة بفعل النضالات والإضرابات، وفي محاولة لإعادة عقارب الزمن إلى ما قبل إضراب عاملات النسيج ومصانع “شيكاغو”، سنة 1865…

قد تكون نتائج الحجر الصحي وخيمة جدا في مناطق العالم الخاضعة للهيمنة الإمبريالية، ما يُحتّم تنظيم مُقاومة، تتلاءم أشكالها مع الوضع الحالي، سواء في أماكن العمل أو في الحياة اليومية، من أجل إعلام علمي وواضح، ومن أجل توفير وسائل الوقاية والعلاج ومثصادرة المباني الفارغة، والفنادق والمصحات الخاصة وأطباء القطاع الخاص، لمحاصرة الوباء، وعدم انتشاره، ويمكن تنسيق جهود المناضلين النقابيين والتقدميين في البلدان المتجاورة، أو التي تتشابه أوضاعها، دون أن تكون متجاورة بالضّرورة، في محاولة لتوحيد المتضررين من الرأسمالية، ومن أوامر وشروط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ضد عدو أو أعداء مشتركين، سواء على مستوى قطاعي (قطاع الصحة، أو قطاع الإنتاج الغذائي، على سبيل المثال)، أو على مستوى أشْمَل…   

 _________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.