الطاهر المعز :

(1) لمحة سريعة: استغلال “كورونا” لتكثيف عمليات القمع​​

(2) خاطرة قصيرة

(3) مُسلسل “كوفيد 19”: من مظاهر الفقر في الولايات المتحدة الأمريكية، قاطرة الإمبريالية

(4) دَوْر السياسة الجبائية وتوجيه عائدات الضرائب لتعميق الفجوة الطبقية: نموذج الولايات المتحدة الأمريكية

● ● ●

(1)

لمحة سريعة:

استغلال “كورونا” لتكثيف عمليات القمع​​

في نيودلهي، عاصمة الهند، اضطر أكثر من مائة ألف عامل للبقاء في منازلهم، بدون أجر، أما العُمال غير المُثَبَّتِين، فيواصلون العمل، بدون أي حماية أو رعاية، ويواصلون توصيل الطلبات وتسليمها إلى أصحابها، وتنظيف الأماكن العامة أو الخاصة، وإنتاج مختلف السّلع، وتقديم العديد من الخدمات دون حماية، في ظل حالة الطوارئ، وتوقف القطارات والحافلات عن العمل، فيما يعمل الأطباء والمُمرضون وعمال الرعاية الصحية، بدون معدات وقاية، واستغلت حكومة اليمين المتطرف وأرباب العمل فرصة انتشار وباء “كوفيد 19″، والقوانين الإستثنائية، لتمديد فترة العمل اليومي إلى 12 ساعة، في غياب وسائل أو نقص الوقاية والنظافة، في أماكن العمل وخارجها، وعدم توفّر الأقنعة والقفازات، أو غيرها من معدات الوقاية والسلامة، كما يوجد نقص في الغذاء والمطهرات والوقود والأدوية …

في الدول العربية ، أحصت منظمة الصحة العالمية ما يقرب من ثلاثة آلاف حالة وفاة بوباء “كوفيد 19″، وحوالي 45 ألف حالة إصابة، بتاريخ 27/7/2020، بناءً على بيانات وأرقام الحكومات …

 في المغرب، ومصر، والأردن، وكذلك في دول عربية أخرى عديدة، عززت السلطات الإجراءات الاستبدادية وكلّفت الجيش بتطبيقها، بعد لجوء الحكومات إلى مختلف الإجراءات والممارسات القمعية: حظر التجول، ومراقبة الإتصالات وتنصيب أجهزة التصوير والمراقبة الإلكترونية، وإقرار الغرامات ضد المُخالِفِين، والاعتقال والتعذيب والسجن … أوردت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، وهي منظمة أمريكية ممولة من المال العام (عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية – وزارة الخارجية)، في تقرير لها، وجود انتهاكات لحقوق الإنسان، في جميع الدول العربية تقريبًا، منذ إقرار “حالة الطوارئ الصحية”، لكنها لم تُلفت الإنتباه إلى تعليق وإلغاء الحقوق الأساسية، وزيادة القمع في الولايات المتحدة وأوروبا أو في فلسطين المحتلة، حيث استغل الكيان الصهيوني الفرصة لتكثيف الإعتقالات وهدم المنازل، وتعميم الرقابة على الشعب الفلسطيني، في كافة أنحاء فلسطين…

(2) 

خاطرة قصيرة

كيف يمكن للفقراء وللعاملين في القطاع الموازي (غير النظامي) والمياومين (العاملين باليوم)، وذوي الدّخْل المحدود، في الأحياء الشعبية وفي القُرَى، التزام قرارات الحبس المنزلي، أو “الحجْر الصّحي”؟
إنهم ليسو أقل انضباطًا أو أقل إحساسًا بالمسؤولية من غيرهم، بل يُشكل الفَقْر وغياب المال الكافي لتلبية الحاجات اليومية من الغذاء وإيجار المسكن واستهلاك الماء والكهرباء، وغير ذلك من الحاجات الضرورية، دافعًا كافِيًا لخروجهم، من مساكنهم الضّيِّقَة والتي لا تتوفر بها شروط السلامة والصحة، للبحث عن الرزق، رغم تكثيف المراقبة والتهديد بالسجن والغرامات…

(3)

مُسلسل “كوفيد 19” – “تأثيرات جانبية”

من مظاهر الفقر في الولايات المتحدة الأمريكية، قاطرة الإمبريالية

قدّرت قيمة العشرين (يوم 26 آذار/مارس 2020) عدد المصابين بوباء “كوفيد 19″، حوالي نصف مليون شخص، في العالم، توفي منهم حوالي 22 ألف، خصوصًا في الصين (3300) وإسبانيا (3500) وإيطاليا (ربما سبعة آلاف) وتعافي منهم حوالي 120 ألف، وأظهرت هذه الأزمة أن الدّول غير المنخرطة تماماً في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، أكثر قدرة على إدارة الأزمة وعلى حماية شعوبها، بل أرسلت كوبا والصين وروسيا طواقم طبّيّة ومُعدّات إلى دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي وفي الإتحاد الأوروبي.  

في الولايات المتحدة، لم يعد “دونالد ترامب” يُنْكِر انتشار وباء “كوفيد 19″، وأعلن تمديد فترة الحجر الصحي إلى نهاية شهر نيسان/ابريل 2020، بدل 12 نيسان/ابريل 2020، بعد ارتفاع عدد الإصابات بالفيروس إلى أكثر من 160 ألفاً وعدد الوفيات الى قرابة ثلاثة آلاف، قبل نهاية شهر آذار/مارس 2020، بحسب بيانات المعهد الوطني للصحة، الذي يتوقع احتمال إصابة ثلاثة ملايين شخص، ووفاة ما بين مائة ألف ومائتي ألف شخص، في الولايات المتحدة إذا لم تقع مكافحة الوباء بحزم، حتى نهاية شهر أيار/مايو 2020، على الأقل…

شهدت الولايات المتحدة، ومن ثمّ العالم، أزمة مالية سنة 2008، واتسع نطاق الأزمة التي انطلقت من فقاعة العقارات، لتُؤثِّرَ على استهلاك الأُسَر الذي يُشكل أكثر من 70% من الإقتصاد الأمريكي، أي أن الإستهلاك يتحكّم بمعدّل نمو الإقتصاد الأمريكي، الذي عانى، لعدة سنوات، من ارتفاع نسبة البطالة، ولا يزال يعاني من عجز الميزانية العامة، ومن العجز التجاري، وارتفاع حجم الدُّيُون، مع ارتفاع في مؤشرات الفقر، وعاد الجوع والفقر وانخفاض الإستهلاك الفردي اليومي، مع وباء “كوفيد 19″، ومع ظهور بوادر الكساد، وربما انحسار الإقتصاد، بينما صادق نواب المَجْلِسَيْن على مقترح الحكومة لدعم الأثرياء بنحو 2,2 تريليون دولارا، من المال العام، وفي الصف المقابل، في أسفل دَرَجات السُّلَّم الإجتماعي، ارتفع عدد المُعطّلين عن العمل، بنحو ثلاثة ملايين عاطل جديد، خلال الأسبوع الثالث من شهر آذار/مارس 2020، وارتفع عدد الفُقراء، ذوي الرواتب الضعيفة، الذين ليست لهم مُدّخرات، بل وجب عليهم تسديد الدّيون، وإيجار المسكن وغير ذلك، وارتفع عدد الجياع غير القادرين على الحصول على الغذاء رغم توفره، بسبب الفَقر وعدم توفر المال.

أثر هذا الوضع سَلْبًا في عُمّال مدينة نيويورك، ومنذ انتشار وباء “كوفيد 19″، ارتفع عدد المحتاجين للأغذية التي توزعها المنظمات الخيرية (مع بعض المُساعدات غير المنتظمة ) من حوالي 1,2 مليون مواطن من العاطلين عن العمل، أو من العاملين بدوام جزئي، وبعقود هشة ورواتب منخفضة، إلى حوالي ثلاثة ملايين من المحتاجين إلى المساعدات الغذائية، بحسب المنظمة الخيرية “سيتي هارفيست” التي نظّمت عملية توزيع أكياس صغيرة من المواد الغذائية، على مئات الأشخاص، في الشوارع، يومي السبت 28 والأحد 29 آذار/مارس 2020، وكان معظم المُستفيدين، من العُمّال والعاملات الذين فَقَدُوا وظائفَهُم في قطاع الفنادق والمطاعم والمتاجر والخدمات، والذين وقع تسريحهم، ومعظمهم أرباب أسَر ولديهم أطفال قاصرين، ويلاقون صعوبات لمجابهة مصاريف الحياة اليومية.    

يُقدّرُ عدد الفُقراء الأمريكيين الذين يعيشون تحت خط الفقر، بنهاية سنة 2019، بنحو 43 مليون مواطن أمريكي، بحسب تحقيق نشرته شبكة الإعلام الألمانية “دويتشه فيلله” على موقعها في العاشر من كانون الثاني/يناير 2020، أو ضعف ما كان عليه الوضع قبل خمسين سنة، في أقوى دولة في العالم، حيث يصبح الآلاف مُشرّدين، في الشوارع، ويفقدون مكانتهم الإجتماعية، وعلاقاتهم، ويصبحون مُهَمَّشِين، بمجرد الإصابة بمرض أو فِقْدان العمل…

في منطقة المناجم الفقيرة في جبال “أبالاش” ارتفع عدد حاملي البطاقات التموينية للتسوق، وارتفع عدد العاملين مِمَّن خسروا بيوتهم، ليعيشوا في سياراتهم، ما دفع منظمات إغاثة الفُقراء في “لوس أنجلس” إلى بناء أكواخ خشبية صغيرة لتأمين مأوى لهم، ولأبنائهم، حيث ارتفع عدد الأطفال المشردين إلى حوالي 1,5 مليون طفل، أو ما يُعادل ثلاثة أضعاف عدد الأطفال المُشرّدين، خلال الأزمة الاقتصادية الكُبرى (1929 – 1933)، والتي تعرف باسم “الكساد العظيم”.

(4) 

دَوْر السياسة الجبائية وتوجيه عائدات الضرائب لتعميق الفجوة الطبقية

نموذج الولايات المتحدة الأمريكية

أدّى التخريب التّدريجي للقطاع العام، ومن ضمنه قطاع الرعاية الصحية، منذ حوالي أربعة عُقُود، إلى حرمان الملايين من نظام الرعاية الصحية الشاملة، ولجوئهم إلى القطاع الخاص، الذي يحكمه قانون الربح والخسارة، والمتاجرة، بل والمُضاربة بصحة البشر، ولما حل وباء “كوفيد 19” (كورونا)، أصبح سُكّان الولايات المتحدة، أعتى قوة امبريالية في العالم، عُرْضَةً للموت، وأصبحت أمريكا تتصدر قائمة بلدان العالم في عدد الإصابات الجديدة، وفي انتشار الوباء، قبل بضعة أشهر من تاريخ الإنتخابات الرئاسية (تشرين الثاني/نوفمبر 2020)، وتأثّر الوضع الإقتصادي، بسرعة، بانتشار الوباء وبارتفاع عدد الإصابات، فسارع الحزبان الحاكمان، ومؤسسات الدولة الإتحادية (البيت الأبيض والكونغرس)، إلى الإتفاق، يوم 27 آذار/مارس 2020، على تبديد المال العام لصالح الشركات الأمريكية العابرة للقارات، مع قليل من المال لدعم الأُسَر الأمريكية، لتتمكن من استهلاك القدر الأدنى من السلع، ومن دَفْعِ الإقتصاد الأمريكي الذي يعتمد بشكل كبير على الطلب والإستهلاك الدّاخِلِيّيْن للسلع والخدمات، واتخذ هذا التوزيع للمال العام عنوان “تحفيز الإقتصاد”، كما حصل خلال فترة رئاسة “باراك أوباما”، سنة 2009، ولكن هذا التحفيز مُصْطَنَع، لأنه لا يخضع للرقابة، ويفتقد توزيعه وإنفاقه للشفافية (رغم تحديد المبالغ لكل صنف من المُسْتَفِيدين)، ولن يكون ناتجًا عن إنتاج السلع والخَدَمات، ولأن الشركات الكبرى تستفيد من الجزء الأكبر من مبلغ الدّعم المُباشر، ومن الإعفاء من الرُّسُوم والضّرائب، ولم تشترط الدولة على الشركات المُسْتَفِيدة من المال العام، حماية حقوق العاملين، واستغل الجناح الأكثر تصلبا في الحكم، هذه الجائحة، لتشديد القبضة الأمنية على السكان، والإستعداد لاستدعاء مليون من جنود الإحتياط في كافة الجُيُوش للخدمة، لفترة سنَتَيْن، إذا اعتبر الرئيس أن الوضع يستوجب نَشْرَ القوات المُسلحة، وزيادة تضييق الخناق على الفُقَراء (“العدُوّ الدّاخلي”) الذين قد ينتفضون، احتجاجًا على وضعهم، وعلى ارتفاع نسبة البطالة والفقر، وغياب الرعاية الصحية والمَسْكن وغير ذلك…

تُشير التقديرات إلى حرمان ما لا يقل عن ثلاثين مليون أمريكي من التأمين والرعاية الصحية، رغم استفادة الشركات الكُبْرى للأدوية، وشركات التأمين الصحي، سنويا، من إعفاءات ضريبية هامة، وهي من بين أكبر الشركات المستفيدة من الدعم الحكومي الحالي، دون أية ضمانات للعاملين بها، ودون الإلتزام بتجميد أسعار الأدوية، أو خفض وتجميد تكلفة الرعاية الصحية للأُسَر وللأفراد، التي يُتَوَقَّعُ ارتفاع تكلفتها بنسبة 40% سنة 2021 (ما يُخَفِّضُ قيمة الأجر الحقيقي )، لتزيد الأرباح الصافية لهذه الشركات الضخمة، التي قاربت أربعين مليار دولارا بنهاية سنة 2019 (دون احتساب الحوافز العديدة والإعفاءات الضريبية)، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” (28 آذار/مارس 2020)، التي اعتبر مُحرّر افتتاحيتها أن وباء “كوفيد 19” يشكل اختباراً لسوء تصرف الإدارة الحالية، وعدم نجاعة سياساتها في كافة المجالات…

من جهة أخرى، وبشكل عام، تُعتبر السياسة الجبائية وطريقة تحديد مصدر إيرادات الضرائب وطريقة إنفاقها، منذ أكثر من أربعة عُقُود، إحدى أدوات تعميق الفوارق الطبقية، في حين تُحاول الطبقات الحاكمة التركيز على النمو الإقتصادي، وسبقت الإشارة أن ارتفاع نسبة النمو الإقتصادي لا تعني سوى زيادة حجم إيرادات السلع والخدمات في الإقتصاد الشمولي (على صعيد اقتصاد الدّول)، ولا تعني إطلاقًا زيادة دخل الأُجراء والفُقراء، وتفيد البيانات، منذ عُقود، أن الأُجَراء يُساهمون بمعدل 80% (في المتوسط) من الإيرادات الجبائية لمختلف دُول العالم…

يتمثل الحد الأدنى من “العدالة الجبائية” في إقرار مبدأ الضريبة التصاعدية، وهو ليس مبدأ اشتراكيًّا أبدًا، أي أن يُساهم الأثرياء في إيرادات الدولة، بما يناسب ثرواتهم، خاصة وأنهم يستفيدون أكثر من غيرهم من البُنى التحتية ومن الخدمات العمومية، فالفقراء لا يملكون سيارات في معظم بلدان العالم، ويستخدمون وسائل النقل العام المُهترئة والمُكْتَظّة، ولا يحتاجون إلى طرقات واسعة ترتفع تكلفة إنشائها وصيانتها، ولا يستخدمون المطارات سوى نادرًا، لأنهم لا يُسافرون كثيرًا بالطائرة، خاصة منذ إعلاق حدود الدول الغنية، وتعميم فرض التأشيرة، وبالإضافة إلى امتيازات الأثرياء، تمنحهم المصارف المركزية أموالا بدون فائض، أو بفائض ضعيف، تُعيد المصارف إقراضها للمواطنين وللشركات الصغيرة بفائض أعلى، كما حصل ويحصل منذ أزمة 2008/2009، وبالإضافة إلى ذلك خربت السياسات النيوليبرالية القطاع العام، لترتفع تكاليف المعيشة والنقل والرعاية الصحية، التي يُسدّدُها الأجراء والفُقراء، ما يُخفض من قيمة معدل الأجر الحقيقي، وتعتمد الدولة سياسة إعادة توزيع حصيلة الضرائب لفائدة الأكثر ثراء، عبر الإعفاء من الضريبة، وعبر ما يُسمّى “حوافز مالية”، بدون مقابل، فيما تحمي أجهزة الدّولة في البلدان  الصناعية المتطورة الشركات الكبرى من منافسة شركات الصين أو روسيا، على سبيل المثال، بالمقابل يُموّل الأثرياء الحملات الإنتخابية (المَظْهَر البارز للديمقراطية البرجوازية) لمن يخدم مصالحهم، في عملية اندماج واضح لجهاز الدولة مع رأس المال، ما يجعل الأثرياء يحتكرون السلطة المالية والإقتصادية، وكذلك السلطة السياسية، التشريعية والتنفيذية، ويدعمون استدامة عدم المساواة، وانخفاض الدّخل الحقيقي، وتنظيم المنافسة بين عُمال ومُزارعي العالم، لنشر الصراع (الطبقي والقومي) داخل حدود البلدان، وخارجها، واستخدام السلاح (الحُرُوب) لحل مسائل ذات صبغة اقتصادية…  

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.