قد يُجانِبُ الحقيقةَ، كلُّ من يَدّعي أن الدّولة تُمثل جميع المواطنين، وهي فوق الأحزاب والطبقات، فالدّولة ليست مُحايدة، بل مُنْحازة وتُمثل مصالح طبقة أو ائتلاف طَبَقِي، ويظهر ذلك في برامجها واختياراتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية… إن المُهمة الأولى لجهاز الدولة (يشمل الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضاء والإعلام والقوى المُسلحة، وغيرها)، في معظم البلدان، هي المحافظة على النظام الذي يعبِّر عن مصالح رجال الأعمال و أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة الذين راكموا الثروات عبر تطوير آليات النهب وهدر المال العام والإحتيال والرشوة، مع بيع ثروات البلاد الفقيرة، وتجريدها من استقلاليتها، وجعلها مرتهنة سياسيا وعسكريا واقتصاديا وماليا، للخارج، مع ضمان الحصانة القانونية والقضائية، للفاسدين ولحُماتهم من الحُكّام، بوجه أي محاولة للمحاسبة.
شكل تفشي وباء “كوفيد 19” فُرصة لمختلف حكومات العالم التي خَرّبت القطاع العام، وقطاع الصحة العمومية جزء هام منه، والتي سارعت لإقرار حالة الطوارئ، بذريعة المُحافظة على حياتنا، وحياتُنا فعلاً في خطر من الوباء، لكن الدولة تُصْدِرُ قرارات فوقية وعامودية، لا تستشير المواطنين، ولا تُراعي مصالح الفُقراء، ما أدّى إلى حرمان عشرات أو مئات ملايين العُمّال والمُهَمّشين من العمل ومن الدّخل، وأدّت هذه القرارات إلى إلغاء العمل بالدساتير والقوانين (على هناتها)، لتعميم الرقابة، وتقْييد الحريات الفردية والجَمْعِيّة، مع إغداق المال العام على الأثرياء والمصارف والشركات، وأصبحت مؤسسات الدولة والسلطة السياسية مُختزلة في مظاهر يُجسّدُها انتشار العسكر والقوى الأمنية المُسَلّحَة، في الفضاء العام، واستعدادها لقَمْع أي محاولة للإنتفاض أو العصيان، أو ما يمكن إدراجه ضمن مُخالفة الأوامر “الإستثنائية” (غير القانونية)، ولقمع من يطالب بزيادة الرواتب وتحسين ظروف الحياة والعمل والحق في الرعاية الإجتماعية والصحية، وعدم تبديد المال العام، خصوصًا وأن انتشار الفيروس شكل أحسن ذريعة لحَبْس المواطنين (الرعايا؟) في بيوتهم، بذريعة ضرورة المُحافظة على حياة الآخرين، هذه الحياة التي لا يهتم بها رأس المال، إلا إذا كانت وسيلة لتحقيق الحد الأقْصى من الرّبح، وبذلك أصبح المواطن يُمارس الرقابة على نفسه وأفراد أُسْرَتِهِ وجيرانه، بذريعة “المسؤولية” و”روح المُواطَنَة”، و”المحافظة على حياة الغَيْر”، فيما طَوّعت أجهزة الدّولة، في معظم البلدان، التقنيات الحديثة لتشديد الرقابة على حركة الأفراد والمجموعات، عبر أجهزة التصوير والشرائح الإلكترونية الموجودة في أجهزة الحاسوب والهتاف المحمول، وغيرها، وتشديد الرقابة على وسائل الإتصال والإعلام بذريعة مقاومة نشْر وترويج “الأخبار الزائفة” أو “الهادفة للحط من معنويات الأُمّة”، وربما “العمالة للقوى الأجنبية”، في ظل إغلاق الحُدُود وتعطيل أساس الإقتصاد الليبرالي المتمثل في حرية تنقل السلع والأموال، أما حرية تنقل البشر فتشكل موضوعًا آخر أكثر تعقيدًا…
يمكن لجهاز الدولة تعليل إقرار وتطبيق حالة “الأحكام العُرْفِيّة” ب”المصلحة العامة”، وضرورة المحافظة على حياة الناس، لكن تجارب الشعوب بَيّنَتْ أن الأنظمة القائمة لن تتخلى عن القرارات والإجراءات التي مَيّزتْ حالة الطوارئ، وعلى سبيل المثال فإن نظام الحكم العسكري الدكتاتوري انتهى رسميا منذ ثلاثة عُقُود في “تشيلي”، ولكن الرئيس الحالي “سيباستيان بنيرا” (وهو برجوازي ويمثل طبقَتَهُ) استخدم نفس الإجراءات والممارسات التي كانت قائمة خلال فترة الدكتاتورية العسكرية، لقمع حركة الإحتجاج المَطْلَبِيّة، وأعلن (الرئيس)، يوم 18 تشرين الأول/اكتوبر 2019، حالة الطوارئ ونَشْرَ الجيش في شوارع وساحات المُدُن، ومنع التجوال، لتتمكن الشركات العابرة للقارات من مواصلة نهب ثروات البلاد ومن استغلال الطبقة العاملة، وقَتَل الجيش ما لا يقل عن ثلاثين مواطن، بنهاية شهر شباط 2020، بحسب الأمم المتحدة…
إن نموذج “تشيلي” ليس استثناءً، بل تحاول أي سّلطة “مُنتخَبَة ديمقراطِيًّا” تطبيق برامجها، بدون مُعارضة، وبدون احتجاجات من قِبَل المُتَضَرِّرِين من سياساتها، ولا تتردّد هذه السلطة “الديمقراطية” في استخدام القوة المسلّحة ل”فَرْضِ الإنضباط، خدمةً للمصلحة العُلْيا للوطن”، ومصلحة الوطن في نظر السلطة هي مصلحة الأثرياء، وكان ضُبّاط الجيش الإستعماري الفرنسي، الذين شاركوا في محاربة حركة المقاومة المسلحة من أجل استقلال الجزائر، قد تكفّلُوا بتدريب جُيُوش أمريكا الجنوبية (وجيش الكيان الصهيوني)، منذ منتصف القرن العشرين، على وسائل قَمْع “العدو الدّاخلي”، أي الشعوب، والعاملين الذين يُطالبون بظروف عمل وحياة أَفْضَل …
كما أظهرت تجارب الشعوب في الوطن العربي وفي مناطق وبلدان أخرى عديدة، ممارسة جزء هام من السّكّان الرّقابة الذّاتية، والوشاية والتّزلّف، بسبب شدّة القمع، والخوف من الإعتقال والتعذيب والسجن بدون مُحاكمة، أو بعد أحكام اعتباطية، يُصدرها قُضاةٌ فاسدون ورجعيون. أما في البلدان الرأسمالية المتطورة، فقد أقرت حكومات عديدة في الولايات المتحدة وفي أوروبا (ألمانيا وإيطاليا وغيرهما) وفي اليابان وغيرها، قوانين وقرارات ومحاكم استثنائية، وإجراءات سالبة للحريات، منذ عقد السبعينات من القرن العشرين، بذريعة “مكافحة الإرهاب”، أو مكافحة الهجرة غير النظامية، وشكلت هذه الإجراءات ذريعة لتكثيف المراقبة الإلكترونية والدّوريات العسكرية المُسلحة ومُداهمة المساكن والإلتفاف على الحُرّيّات الفردية والجمْعية. لذلك، من الضروري إقرار ضوابط وتحديد مكان وزمان تطبيق الإجراءات الإستثنائية، بعد مناقشة ضرورتها (في الزمان والمكان)، ومهما كان الأمر فإن تأثير هذه الإجراءات الإستثنائية لن ينتهي بانتهاء فترة انتشار الوباء، لأن مُمثِّلي رأس المال، من “خُبراء” وإعلاميين وسياسيين وأثرياء، لا يزالوا يتذرعون بأزمة 2008/2009، التي مرت عليها أكثر من عشر سنوات، لابتزاز العاملين والفُقراء وعموم المواطنين، لتبرير سياسات التقشف والخصخصة وخفض الإنفاق الحكومي، وتحويل المال العام إلى حسابات الأثرياء، وسوف يضيق الخناق على عُموم العاملين والفُقراء، بعد “حقبة كورونا”، إذا لم تتم مُقاومة “انحرافات” الحكومات، و”عدم تقيدها” ببعض الضوابط والقواعد التي وَضَعَتها لنفسها، وهذا أضعف الإيمان، لأن الحكومات أظْهَرت قُدْرَتها على تحويل حالة الطوارئ إلى “قاعدة” وليس “استثناء”، وأقرت حكومة فرنسا (التي تُمثل مصالح رأس المال المالي، وأثْرى الأثرياء) تعليق ما تبَقّى من القوانين الضامنة للحريات، ومن مكتسبات العُمال والأُجراء، وتعليق قانون العمل، والسماح بتشغيل العُمال ستين ساعة أسبوعيا، وإلغاء أو تقْيِيد الحق في الراحة الأسبوعية والسنوية، مع إعفاء أرباب العمل من الضرائب، بل ومَنْحِهم المال العام…
إن عَدَم التّصدّي لمثل هذه القرارات، أو عدم السهر على إلغائها حالما تنتهي فترة الحجر الصحي، قد يعود بالوبال على أغلبية المواطنين في معظم دول العالم…
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.