يراهن الاقتصاديون من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومن صندوق النقد الدولي والبنك العالمي على حصول ركود كبير، يليه انتعاش سريع وكبير، كما حصل في السابق، بفضل ضخ المال العام وتوزيعه، بدون موجب للشركات الخاصة والمصارف. لكن الأزمة الحالية تتميز ببعض الخصائص، ولذا من الضروري تسجيل بعض الملاحظات، ومن بينها:
لقد أبطأتْ مساعدةُ الدولةِ للشركات الخاصة آثارَ أزمةِ 2008/2009، لمّا قدمت المصارف المركزية والحكومات قروضًا بدون فوائد للشركات الكبيرة، ونما الاستثمار من قبل الشركات الكبيرة، من خلال زيادة الديون، لكن الدَّيْن يتزايد بشكل أسرع من الإنتاج. أما قيمة أسهم الشركات، التي ارتفعت في أسواق المال، فهي تمثل رأس مال وهمي ، منفصل عن الاقتصاد الحقيقي وواقع الإنتاج.
ازداد خطر مديونية الدول والشركات والأشخاص منذ أزمة عام 2008، وكانت بعض مظاهر الأزمة ظاهرة سنة 2019، بسبب زيادة ديون الشركات في جميع أنحاء العالم، وبسبب تباطؤ معظم اقتصادات البلدان الرأسمالية المتقدمة، وخاصة في اليابان وأوروبا، وقد أظهرت هذه الاقتصادات علامات تباطؤ أو كساد طويل في النمو الاقتصادي.
بدأت أزمات 1929 و 2008 في سوق الأسهم والمضاربة، قبل أن تنتشر في جميع القطاعات. أما سنة 2020، فقد تم تعليق الإنتاج ، وتوقفت العديد من القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك إنتاج ونقل البضائع، بالتوازي (في الوقت نفسه) مع انخفاض دخل السكان عُمُومًا، ما جعل الأزمة تتميز بخاصية تتمثل في قلة الإنتاج (قِلّة العَرْض)، وقلة الإستهلاك، أي أزمة طلب، بسبب انخفاض الدّخل ، فهي إذّا أزمة العرض وأزمة الطلب، وهي بالتالي أزمة في الاقتصاد الحقيقي وليست أزمة في سوق الأسهم، وهي أيضًا سابقة لانتشار جائحة “كوفيد 19”.
في عام 2019 ، انخفضت مداخيل الدول المصدرة للمواد الخام والمعادن والبترول، منذ سنة 2014، وتواصل سنة 2019، بسبب انخفاض أسعار هذه المواد الخام، وأصبحت العديد من البلدان، المُسمّاة “نامية”، مثقلة بالديون، كما تعاني من هروب رؤوس الأموال، ومن إعادة تَصْدير الشركات متعددة الجنسية لأرباحها، نحو الملاذات الضريبية، أي خارج بلدان الإنتاج التي تستغل هذه الشركات ثرواتها.
كانت البيانات المتوفرة، سنة 2019، كافية للتنبؤ (أو لِتَوَقُّعِ) بالتدهور (وحتى الانهيار الاقتصادي)، في ظل “الحرب التجارية” وجميع الإجراءات العدوانية التي اتخذتها الإمبريالية الأمريكية، التي زادت من وتيرة عسكرة العلاقات الدولية، ومن عسكرة قضايا المُجتمع، في داخل الولايات المتحدة أيضًا، للسيطرة على المواطنين والفقراء، وما العسْكَرَة ومُراقَبَة السّكّان والهيمنة وغيرها سوى جزء من طبيعة النظام الرأسمالي.
قبل الإعتراف العَلَنِي بالأزمة الحالية، كانت المصارف المركزية وحكومات الدول الغنية تَدْرُسُ خِطَطًا أعدتها المصارف والمُؤسسات المالية، لإنفاق المال العام في إعادة شراء ديون وأسهم الشركات الخاصة الكبيرة، وهو ما حصل خلال أزمة 2008/2009، وتعكس هذه الخطط (تبديد المال العام وتوزيعه على الشركات الخاصة) رؤية إيديولوجية، تنبع من عقيدة تعتبر الشركات أو رأس المال الخاص، محركًا للاقتصاد، وبالتالي يجب ضخ المال العام فيها لإنعاش الإقتصاد، وتطبيقًا لمثل هذه المُخطّطات، قرر نُواب الكونغرس الأمريكي، بالإتفاق مع الرئيس الملياردير “دونالد ترامب”، منح الشركات الخاصة مساعدة أولية بقيمة 2,2 تريليون دولار، يُحَوَّلُ جزء منها إلى المواطنين، ليتمكنوا من استهلاك الحد الأدنى للسلع والخدمات.
إن توزيع المال العام على الرأسماليين، بفائض ضعيف، أو بدون فائض، سوف يُوَسِّعُ عجز الميزانية، وعجز الدولة، وتستخدم الحكومات هذا العَجْز (المُتَعَمّد، والذي لا يُفيد سوى رأس المال الخاص) ذريعة لتطبيق خطط التقشف، ولتخفض الدخل الحقيقي للأُجَراء والطبقة العاملة والفئات الشعبية، مع ذر الرّماد على العيون أحيانًا واتخاذ بعض التدابير ذات الصبغة الإجتماعية، والنتيجة، بوجود هذه التدابير “الإجتماعية” أو بدونها، انخفاض في مستوى المعيشة وزيادة حجم ونسبة الفقر.
لقد نَبّهت العديد من التقارير والدّراسات، الصادرة سنة 2019، إلى وجود العديد من المؤشرات التي تدق ناقوس الخطر، وتُنْذِرُ بحدوث أزمة اقتصادية وشيكة، وَوَصَلَت هذه الأزمة في شكل جائحة “كوفيد 19″، ووصف بعض رؤساء الدول (من بينهم الرئيس الأمريكي ورئيس فرنسا) هذه الأزمة بأنها “حالة حرب”، ولكنها حرب ضد عَدُوٍّ وهمي، إذ لم يهاجم أحد هذه الدول الرأسمالية، وإذا وجبت الحرب، فسوف تكون ضد الطّبَقَة التي نفذت سياسات وبرامج أدّت إلى تخريب القطاع العام، وتتطلب مكافحة الوباء ليس لغة عسكرية حربية، وإنما معلومات واضحة موجهة للمواطنين، وتتطلب تطوير قطاع الصحة العامة، وتعميم الوقاية والرعاية الصحية الجيدة. وليس ما باب الصُّدفة أن تجد جميعُ البلدانِ التي قامت بخصخصة القطاع الصحي صعوبةً في وقف انتشار الفيروس، لكن دولة صغيرة ومُحاصَرة منذ ستة عُقُود، وتنقُصُها الموارد، مثل كوبا، تُساعد دولا أوروبية (إيطاليا وإسبانيا وفرنسا…) بالأطباء والمُعدّات، فيما رفضت الدّول “الشقيقة” المُنتمية للإتحاد الأوروبي، ولحلف شمال الأطلسي (ناتو) مساعدة جيرانها، بل عمدت بعض حكوماتها إلى السّطو على المعدات المُتجهة إلى غيرها من الدول “الشقيقة”، في البر وفي البحر وفي فضاء موانئ الشّحن…
إن فَتَرات أزمة الرأسمالية، مثل الفترة الحالية، هي اللحظات الأكثر ملاءمة للثورة ضد هذه النظام الرأسمالي برمته، وليس بهدف إصلاح بعض الجوانب السلبية البارزة، فالنظام الرأسمالي لن ينهار من تلقاء نفسه ، بدون أداة ثورية تعمل كمحفز للإنهيار، وكمُخَطّط للبدائل وللمستقبل، ولكن هذه الأداة هي الغائب الكبير، في هذه اللحظة وقَبْلَها…
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.